قرى مصرية.. تسلم أبناءها للبحر

البطالة والفقر.. يدفعان آلاف الشبان المصريين إلى الانحراف.. أو الهجرة غير الشرعية

أسماء إيطالية.. طغت على لافتات قرية مصرية («الشرق الاوسط»)
TT

قبل 5 أعوام، أراد فلاح مصري من قرية تطون بمحافظة الفيوم (120 كيلومترا جنوب القاهرة) أن يرسل ابنه الأكبر إلى إيطاليا، بطريقة غير شرعية، فلجأ إلى أحد سماسرة التهريب، الذي حصل منه على 20 ألف جنيه (نحو 3770 دولارا) مقابل تسفير ابنه، آملا في أن يعود الولد ومعه ما يكفى من أموال لتزويج شقيقاته البنات، إلا أن البحر المتوسط ابتلع المركب الصغير الذي كان يستقله الابن مع مئات من أقرانه، وعندما عرض السمسار على الوالد إعادة الأموال التي دفعها، كما هي العادة في تلك الأحوال، رفض الأب وطلب تسفير ابنه الأوسط مكان الأكبر، ليتكرر المشهد بكامل تفاصيله من جديد.

ورغم أنه فقد اثنين من أولاده، إلا أن فكرته لم تتغير، وقرر تسفير ابنه الأصغر، الذي نجح بالفعل في الوصول الى إيطاليا، ولكن بمجرد تسلمه عمله، بلغه نبأ وفاة والده الذي لم يهنأ بفرحته بنجاح ابنه في الوصول إلى الطرف الآخر من البحر المتوسط.

ووفقا لإحصائيات رسمية أصدرتها وزارة الخارجية المصرية، فقد ابتلع البحر المتوسط 153 شابا خلال محاولتهم التسلل لأوروبا بطريقة غير شرعية، وفقد 158 آخرين، وتم القبض على 972 شابا فور وصولهم للسواحل الأوروبية المختلفة، وتم ترحليهم إلى مصر.

لعل السبب في ضخامة العدد يعود الى ان الشباب يواجه ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة، يخيم عليه شبح البطالة، ويصبح أمامه خياران أحلاهما مر، الأول الانحراف، الثاني الهجرة غير الشرعية، نظرا لصعوبة سفره بالطرق الشرعية، إما لارتفاع تكاليفها أو صعوبة إجراءاتها. ولكي يحقق حلمه بالسفر يبيع الشاب ما يملك وأحيانا ما لا يملك ثمنا لما يطلبه سماسرة الهجرة غير الشرعية، على أمل العودة بحال مغاير.

تطون.. شدموه.. كفر حسان.. نوسا الغيط.. ميت الكرما.. قرى مصرية كثيرة في دلتا مصر وصعيدها، ابتلع البحر زهرة أبنائها الذين قرروا الخروج من أوضاعهم متسترين بجنح الليل، وأعينهم مليئة ببريق الأمل ويعودون بعد أن خلت أعينهم من بريق الحياة ذاتها. عادوا قابعين داخل نعوش خشبية حملتهم من المطار إلى القبور مباشرة، والأفضل حظا منهم عادوا مكبلين بالقيود الحديدية ليقضوا سنوات من شبابهم خلف القضبان.

اللافت للنظر أن معظم الشباب المصريين الذين يتسللون إلى أوروبا يأتون من محافظات الدلتا بشمال مصر، خاصة من قراها، بل ان هناك قرى تخصصت في إرسال أبنائها إلى دول أوروبية بعينها، ففي قرى مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية هناك قرية تسمى محلة زياد، تخصص أبناؤها في السفر إلى فرنسا حتى أطلق عليها «باريس». وفي إجازة الصيف يمكن أن يرى المرء عشرات الشقراوات الفرنسيات وهن يتجولن في أزقة القرية بصحبة أزواجهن وأولادهن الذين يجمعون بين الملامح الشرقية والفرنسية، وهناك قرية قطور البلد التابعة لنفس المحافظة التي تخصص أبناؤها في الذهاب إلى اليونان، بينما يفضل أبناء قرية منشية نجاتي، التابعة لمحافظة المنوفية السفر إلى ألمانيا، وتتخصص بعض قرى الفيوم في السفر إلى ايطاليا.

هذا التخصص يعود في الأساس إلى الرواد من هؤلاء الشباب الذين تسللوا إلى أوروبا في الثمانينات، حيث يقوم هؤلاء بمساعدة أقاربهم وأبناء عمومتهم وقريتهم في سلوك نفس أسلوب السفر ومساعدتهم في أيامهم الأولى في رحلة البحث عن مسكن وعمل.. واقامة في القارة الأوروبية.

تطون قرية درج الناس في محافظة الفيوم على تسميتها «ميلانو»، لأن سبعة آلاف من أبنائها هاجروا الى مدينة ميلانو الإيطالية، بل إنها يمكن بسهولة أن تحصل على لقب أغرب قرية في مصر، ففيها يمكن أن يرى المرء أبراجا سكنية تقبع بجوارها أكواخ مبنية من الطين اللبن، مبان شاهقة وبنايات عالية وفي الناحية المقابلة عشش من القش يعيش فيها الفلاحون. يمكن السير في شوارع القرية مع مراعاة «فروق التوقيت» بين بيوت لم يصبها أي تطور يذكر منذ سنوات طويلة وبيوت تضاهي مباني العاصمة المصرية القاهرة فخامة وارتفاعا.

كما يمكن أن يرى المرء أحدث السيارات ذات الماركات العالمية وبجوارها تسير الحمير، وهي تحمل الحشائش عائدة من الحقل! وهناك أيضا محلات للصرافة تتعامل باليورو والدولار، بينما تقف امرأة عجوز أمامها تبيع خضروات في سوق قريب.

وفي تطون يمكن أن يسمع المرء الصبية وهم يلوكون في أفواههم بعض الكلمات والجمل الإيطالية أثناء لعبهم معا. وهناك أيضا يمكن، في جولة صغيرة، مطالعة عشرات المتاجر التي تحمل أسماء إيطالية، فهذا «دريم روما» لمستحضرات التجميل، وذاك «ميلانو كلين»، وآخر يسمى بـ«جوهرة ميلانو».

وفي وسط النهار وعلى المقهى الصغير الذي يقبع وسط تطون القرية ذات الأربعين ألف نسمة، يجلس عبده مصطفى (كهربائي) يحتسي الشاي ويدخن، قائلا: «ماذا نفعل؟ لماذا يجب أن نعيش هنا في هذه الظروف الصعبة، تخطيت الخامسة والثلاثين ولا أجد ما أتزوج به، فدخلي الشهري حوالي 700 جنيه (نحو 132 دولارا أميركيا)».

ويضيف عبده «مشكلتي أنني لا أستطيع توفير المبلغ الذي يجب دفعه لسماسرة الطريق، ولو توفر هذا المبلغ معي لسافرت الليلة على أول مركب إلى سواحل ايطاليا وليكن ما يكون». ويرفض عبده اعتبار السفر بطريقة غير شرعية مغامرة غير محسوبة، قائلا: «الفرق بين الفقر والموت مش كبير أوي، ومثلما يقول المثل المصري: «يا نعيش عيشة فل، يا نموت إحنا الكل». محمد الخطيب، وهو أستاذ جامعي من نفس القرية كان له رأي آخر، حيث يرفض السفر إلى إيطاليا رغم أن معظم أقاربه هناك منذ سنوات، ورغم تخطيه الثلاثين من دون زواج. يقول الخطيب: «المشكلة تكمن في الرغبة في الثراء السريع لدى الكثير من شباب القرية في ظل غياب الوازع الديني»، مشيرا إلى أن القرية تشهد تفاوتا كبيرا للغاية بين أولئك الذين ذهبوا إلى ايطاليا وعادوا منها، والذين لم يغادروا القرية.

يضيف: «زيارة إلى منزلين أحدهما لعائد من ايطاليا وآخر ممن لم يستطع الذهاب حتى الآن، نستظهر أن المنزلين من ناحية البناء والمعمار والأثاث بينهما فرق أكثر من خمسة قرون كاملة، لذلك يسعى الشباب بدافع الغيرة والحسد إلى البحث عن فرصة للسفر إلى ايطاليا تحت أية ظروف ومن دون اعتبار لأية صعوبات أو عوائق، حتى لو كان مركبا متهالكا احتمالات غرقه كبيرة، المهم عند هؤلاء الشباب هو العمل في ايطاليا عدة سنوات ويعود بعدها ليبني بيتا حديثا من عدة طوابق ويشتري سيارة فارهة ويتزوج من فتاة من عائلة كبيرة يدفع لها مهرا وذهبا كثيرا، إذ لم تعد لديه مشكلة تعوقه من بدء حياة جديدة ورغيدة».

محمد عبد الله شاب مصري في الثانية والثلاثين من عمره، عائد لتوه من رحلة هجرة غير شرعية في ايطاليا يقول «تعبت كثيرا في الرحلة إلى إيطاليا وتعرضنا لمصاعب لا يمكن تصورها». ويوضح أنه ذهب إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، ويصف رحلته، قائلا: «كنا مجموعة تبلغ نحو المائة شخص مكثنا أياما طويلة في منزل قرب شواطئ ليبيا، كان ممنوعا علينا مجرد النظر من النافذة، وفي ليلة شتوية باردة ركبنا سيارة ميكروباص لنقلنا إلى الشاطئ، لنركب بعدها عدة مراكب صيد باتجاه ايطاليا، قضينا أياما عديدة في البحر، كان غذاؤنا فيها السمك النيئ مع عدد محدود من زجاجات المياه، التي كنا نتقاسمها، وبمجرد ظهور السواحل الإيطالية أمرنا المهربون بالقفز إلى الماء والسباحة نحو الشاطئ، كان الوصول للشاطئ يستغرق حوالي ساعتين سباحة، لم يستطع الكثيرون السباحة، وكان من السهل سماع أصوات تنتحب وهي تغرق».

ويضيف: «نجحت في الوصول إلى منطقة غابات على الشواطئ الإيطالية، سرت فيها عدة ساعات، حتى وصلت إلى داخل مدينة صقلية ومنها إلى محطة القطار، وكنت قد تعلمت بعض الكلمات الإيطالية أهمها على الإطلاق في هذا الظرف هي أريد تذكرة إلى ميلانو، وبعد وصولي هناك اتصلت بمعارفي وأصدقائي الذين جاءوا وأخذوني إلى مسكنهم».

ويشير إلى أن البرلمان الإيطالي كل فترة يوثق أوضاع المهاجرين غير الشرعيين، وبهذه الطريقة حصل على إقامة شرعية في ايطاليا. ويوضح أن العائد المادي المجزي من وراء العمل في إيطاليا هو الذي يدفع الشباب للتفكير في السفر بأي وسيلة، ويقول «عمل المصري في ايطاليا لمدة عام يساوي عمله في مصر لمدة 20 عاما، فالعامل المصري في ميلانو يحصل على ما يقرب من 1200 يورو شهريا (نحو عشرة آلاف جنيه)، وهو ما يمكنه من بدء حياة مختلفة بعد عودته لمصر».

وعند الرحيل عن تطون مع غروب الشمس التي اختفت خلف مقابر القرية، حيث يرقد عشرات الضحايا من أبنائها الغرقى، جلس فلاح عجوز عند مشارف القرية، طلب أن نبلغ الحكومة بأن «الحالة صعبة والناس تعبانة ولازم يشوفوا حل»، ولكن عند سؤاله ان كان أرسل أحدا من أبنائه إلى ايطاليا؟ أجاب على الفور قائلا: «مستورة والحمد لله». ومثلما اختلف أهل تطون حول الهجرة غير الشرعية ودوافعها، اختلف أيضا الباحثون وعلماء الاجتماع. ففي حين يرى البعض أنه لا مبرر لدى الشباب لدفع ما يقرب من خمسة آلاف دولار للسماسرة وتعريض أنفسهم للهلاك، إذ يمكنهم البدء عبر هذا المبلغ بمشروع صغير. يرى البعض الأخر وهمية هذا الطرح وعدم جديته في ظل البيروقراطية وارتفاع الأسعار. الدكتور إبراهيم راتب الباحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية يرى أن السفر إلى أوروبا أصبح حلما يداعب أحلام مئات الآلاف من شباب مصر، خاصة الطبقات الفقيرة منهم. ويقول «تخصص قرى بعينها في السفر تعود بالدرجة الأولى إلى النماذج الناجحة التي عادت محملة بالمال، والتي يسعى باقي شباب القرية في أن يحذو حذوها، إلا أن الفقر في نهاية المطاف لا يزال يمثل العامل الرئيسي لهذه الهجرة».

ويضيف راتب أن استئثار القرى بهذا العدد الضخم الحالم بالثروة أكثر من أبناء المدن يعكس الحالة المزرية التي وصل إليها الريف المصري رغم ارتفاع نسبة التعليم في بعض قطاعاته في مقابل فرص عمل أفضل أمام شباب المدن، فضلا عن الوعي بالطرق السليمة للهجرة والسفر إلى الخارج عبر السفارات والقنصليات.

ويشير إلى أن الغالبية العظمى ممن يفضلون الهجرة غير الشرعية هم من حملة الشهادات المتوسطة أو الفنية التي تفضل السفر للخارج رغبة في الكسب السريع عبر العمل في المجال اليدوي، خاصة في أعمال المعمار والسباكة والكهرباء وغيرها من المهن اليدوية.

ويرى الدكتور أحمد مصطفى أستاذ علم الاجتماع أن البطالة هي السبب الرئيسي في انتشار مراكب الموت، وتزايد معدلات الهجرة غير الشرعية بين الشباب المصر. ويقول «إن هذه الظاهرة جديدة على مجتمعنا ولم يكن يلجأ إليها الشباب في الماضي بسبب توافر فرص العمل التي كانت الدولة توفرها للخريجين». ويوضح أن صعوبة السفر لبعض الدول العربية عمق من صعوبة الأزمة وأدى إلى البحث عن طرق جديدة للعمل حتى لو كان بطريقة غير شرعية في ظل تزايد أنشطة عصابات التسفير التي تجد في قرى مصر ساحة مهيأة للتلاعب بأرواح الشباب والحصول منهم على مبالغ طائلة في مقابل تحقيق أحلامهم بالسفر إلى أوروبا.

ويقول: «البعض يندهش من عدم إقبال الشباب على المشروعات الصغيرة بتلك المبالغ التي يدفعونها إلى السماسرة، لكن في واقع الأمر لا تزال هناك صعوبات بيروقراطية تحول دون تحقيق مثل هذا الحل، فضلا عن الضرائب الباهظة التي يتكبدها كل من يريد أن يبدأ مشروعا ولو صغيرا مما يؤدي لإحجام الشباب وتفضليهم السفر لما فيه من فوائد عديدة لكن تظل نسبة المخاطرة عالية للغاية». ورغم توالي عودة الجثث من الغرقى على الشواطئ الليبية والإيطالية، تتوالى في المقابل المراكب التي تحمل الشباب المصري من الإسكندرية وشواطئ ليبيا، خاصة في فصل الصيف. ومع هذه العلاقة الطردية بين الموت وحالات التسلل تزداد الحاجة إلى البحث عن حلول حقيقية تحفظ أرواح هؤلاء الشباب وتوفر لهم الحياة الكريمة عبر البدء ببرامج التوعية والبحث عن اتفاقات بين الدول العربية والأجنبية تضمن للكثير من هؤلاء الشباب فرصا حقيقية آمنة، والعمل على رفع مستوى المعيشة في الريف، وتدريب العمالة وإعادة تأهيل الخريجين. القضية كبيرة ومعقدة لكن الشيء الأكثر إيلاما هو تلك الجثث التي تتوالى معلنة نهاية رحلة الأحلام.. ناهيك من تلك التي لا يزال موج المتوسط يتلاعب بها كيفما شاء.