دمشق في يوم تموزي قائظ

الحر الشديد قضية السوريين الأساسية.. لا مفاوضات الجولان ولا الاقتصاد

السوريون يشغلهم القيظ («الشرق الأوسط»)
TT

عندما يقول أهل الشام مثلهم العامي في «تموز بتغلي المية بالكوز» يعني ذلك أن ارتفاع درجة حرارة الطقس لم تعد محتملة، وهذا الصيف هب هواؤه الساخن على دمشق منذ منتصف شهر يونيو (حزيران). ويشبه سائق التاكسي خالد حاله في هذا الحر بسيخ «الشاورما» الذي يتقلب على وهج النار ويسيل من كعبيه العرق، وتوفيراً لتشغيل مكيف السيارة ودفع مزيد من التكاليف، ينشر منشفة مبللة بالماء على نافذة السيارة، ويغطي رأسه بمنشفة أخرى مماثلة، أما بماذا يفكر خالد في هذا الحر؟ فيقول بعد أن ينتشل من تحت المقعد قنينة ماء مثلجة: لا أفكر بشي سوى اللحظة التي أعود فيها إلى البيت على سفح قاسيون، لأتمدد على الأرض العارية، وآكل بطيخا باردا. الحر الشديد غلب على احاديث السوريين حتى بات قضية اساسية بينهم، تأتي قبل الحديث عن المفاوضات مع اسرائيل عبر تركيا لاستعادة الجولان المحتل، او ملفات الفساد او الاسعار او الخصخصة. سكان دمشق المعتادون على المناخ المعتدل في غالبية شهور السنة، نراهم في يوليو (تموز) من كل عام، يتذمرون وكأنهم يتعرضون لأول مرة لارتفاع الحرارة، فأبناء الريف والمناطق البعيدة يشدون رحالهم إلى الضيعة، فمن لا يرتبط بعمل في العاصمة دمشق أو دراسة خلال الصيف يمضي الأشهر الثلاثة في الضيعة. أما المضطر للبقاء، فيذهب خلال عطلة نهاية الأسبوع باذلاً قصارى جهده للهروب قدر الإمكان من التعرض للشمس الحارقة. لينا (معلمة 47 عاما)، تُضحكها شكوى الشوام من «الشوب» (الحر)، فهي دمشقية تقيم في الكويت وتقول: «أهذا شوب؟! الشوب في الخليج هناك يمكن أن تقلي على الرأس بيضة»، وتتابع، لكن أهل الشام «مغنجين» وعودهم طري لا يحتملون لا الحر ولا البرد، يريدون العيش في مناخ ربيعي أو خريفي دائم. المفارقة أن الناس تبالغ بارتفاع درجة الحرارة، فيقول أحدهم إنها تتجاوز 40 درجة مئوية، وآخر يؤكد أنها 52 درجة، فيما تشير أرقام الأرصاد الجوية إلى معدل يتراوح بين 30 ـ 36 نهاراً و20 ـ 26 درجة ليلاً. أما تفسير العامة للرقم الرسمي فهو: إعلامنا يكذب حتى في نشرة الأخبار الجوية، وهي جملة شهيرة للأديب الراحل ممدوح عدوان. تعترض مارلين (36 عاما ربة منزل) على كلام لينا وتقول، إن درجة الحرارة مرتفعة فعلاً، وأهل الشام غير معتادين على تنشق هواء المكيفات في الغرف المغلقة، لأنهم يعشقون فتح النوافذ والجلوس على الشرفات، وسيران (النزهة) الجمعة تقليد أساسي في حياتهم. ولا تنسى مارلين في خضم دفاعها التذكير بالتكاليف المرتفعة للمكيفات، بأنه ليس جميع الناس لديهم مكيفات في بيوتهم ومن يوجد في بيته مكيف قد لا يُشغِّله في غرف المنزل، بعدما ارتفعت أسعار الكهرباء في الأشهر الأخيرة. وتختم بالقول «صار تشغيل المكيف خربان بيت»، لافتة إلى أن منزلا مثل الذي تسكنه مع عائلتها المكونة من أربعة أشخاص، يكلف تشغيل المكيف في غرفة واحدة منه ما يقارب الخمسة آلاف ليرة، حوالي 100 دولار شهرياً. تطبيق الحكومة السورية لبرنامجها الاقتصادي الهادف إلى رفع الدعم عن الطاقة والمحروقات، تحت عنوان «إعادة توزيع الدعم لمستحقيه» بدأ في سبتمبر (أيلول) عام 2007 بحملة واسعة لترشيد استهلاك الكهرباء، من خلال تعرفة جديدة لمبيعات الطاقة، تضمنت تخفيض السعر للشريحة الأدنى وهي 600 ـ 800 كيلو واط والحفاظ عليها مدعومة، فيما ترتفع تصاعديا لدى الشرائح الأعلى على كافة الاستخدامات (المنزلي ـ التجاري ـ الصناعي ـ الزراعي). وبحسب وزارة الكهرباء فإن التعرفة الجديدة، تأخذ في الاعتبار ترشيد استهلاك الطاقة وإدارة الطلب على الكهرباء مع مراعاة الحاجات الأساسية للمشتركين واسترداد التكاليف الاستثمارية والتشغيلية اللازمة لإنتاج وتوزيع واستثمار الطاقة وإيصال الدعم للشريحة المستهدفة وتكليف أصحاب الدخول العالية بالتكاليف والرفاهية.‏‏‏ ‏‏بعد إصدار دورتين، إي خلال أربعة أشهر من تطبيق التعرفة الجديدة صدرت عن وزارة الكهرباء السورية دراسة تحليلية بينت أن معدل الطلب على الطاقة انخفض إلى نسبة 8.42 بالمائة، وقدرت الوزارة كمية الطاقة الموفرة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من السنة الماضية بنحو 1086 مليون كيلوواط ساعي، أي بنسبة 2.6 بالمائة من إجمالي الطلب على الكهرباء. مع الملاحظة أن خطة ترشيد استهلاك الكهرباء لم تتسبب بالقلق لدى الشارع ولا قرار رفع سعر لتر البنزين لمرتين خلال ستة أشهر، كما هو الحال بالنسبة لقرار رفع الدعم عن المازوت، الذي آثار مخاوف من ارتفاع سعر الخبز وسائر المنتجات الزراعية، الذي بدئ بتطبيقه في مايو (أيار) الماضي، حيث ارتفع سعر اللتر أربعة أضعاف من 7 ليرات إلى 25 ليرة، مع منح قسائم للمواطنين للحصول على كمية محددة بالسعر المدعوم، مع زيادة في رواتب العاملين في الدولة بنسبة 25%، لأن قرار رفع الدعم عن المازوت جاء قبل بدء موسم الصيف واقتراب مواسم جني المحاصيل الزراعية الصيفية (القمح والقطن، المشمش والتفاح والبطيخ... الى غير ذلك من حبوب وخضر وفواكه)، التي تتطلب عدة سقايات قبل حلول أوان الجني، ما يعني الحاجة لكميات كبيرة من المازوت، ما أثار الكثير من القلق، بعد ترافق رفع الدعم مع ارتفاع في الأسعار وأزمة في الخبز استمرت أكثر من أسبوعين. والمفارقة أن الحكومة تمكنت من التغلب على هذه الأزمة في أقل من 24 ساعة، بعد صدور توجيه من القيادة بإيجاد حل سريع، خاصة بعدما علم بعدم وجود أسباب لهذه الأزمة سوى بيع القمح بدل الشعير علفاً للمواشي لأنه ارخص ثمناً، فتم المنع وانتهت الأزمة؛ حسبما علمته «الشرق الأوسط» من مصادر مطلعة في الحكومة. إلا أن المخاوف من انخفاض الاحتياطي الاستراتيجي للقمح السوري، الذي كان على الدوام الضامن الرئيس للأمن الغذائي، مازالت على حالها، وهناك توقعات بحصول عجز سيبلغ نحو 2,8 مليون طن، نتيجة لعدة أسباب، أهمهما الجفاف الذي أثر على الموسم عموماً بالتعاضد مع رفع سعر المازوت، ما زاد في تكاليف السقاية، على نحو دفع كثيراً من ملاك الأراضي المزرعة بالقمح إلى تضمينها لرعاة الأغنام بسبب عدم القدرة على تحمل أعباء كلفة المازوت للري. وتعمل الحكومة الآن جاهدة لاحتواء آثار رفع الدعم في ظل أزمة غذاء وارتفاع أسعار عالمية، غير أن المواطن السوري الذي ينهكه حر يوليو، لم يعد يشغل باله كثيرا في كيفية حل تلك الأزمات المعيشية المتتالية، ولا لمن يحمل مسؤولية ارتفاع الأسعار ووقف الحال، بقدر ما يفكر بالطريقة التي تجعله يتأقلم ويمتص تلك الأزمات الواحدة تلو الأخرى بكل هدوء وصبر، فالمواطن ربما يتميز بحسب تعبير منير (50 عاما وهو مهندس) بأنه لا يعجز عن تدبير أموره والتأقلم مع أي ظرف مهما بلغت قسوته بشرط واحد، هو الحفاظ على الشعور بالأمن. ويروي منير نكتة عن حمصي قيل له ارتفع سعر لتر البنزين. فقال، لا يهم أنا أعبي سيارتي بـ 500 ليرة فقط!! بهذا المعيار يمكن القول إن السوريين لا يجهدون تفكيرهم برفض الواقع، بقدر ما يجاهدون للتغلب عليه من خلال التأقلم معه. لذلك حين تسأل أي شاب مثل سعيد (طالب إدارة أعمال) ما الذي يشغل تفكيره الآن، وهل يتابع القضايا الداخلية، أو حتى السياسية الساخنة؟ يستغرب السؤال ويقول، أفكر بالمواد الدراسية التي سأقدمها خلال الصيف ومعدل العلامات الذي سأحصل عليه. وماذا عن الغد؟ يقول، دع التفكير بالغد إلى الغد. أما المصاريف، فيهز رأسه معترفاً بوجود مشكلة لديه بعد زيادة مصروفاته خلال الأشهر الأخيرة، لكنه يؤكد أنه بالإمكان «شد الأحزمة». أما نضال (53 عاما) وهي طبيبة متزوجة من أستاذ جامعي، فتقول إنها تمكنت قبل عشرين سنة من بناء منزل وشراء سيارة من دخلها ودخل زوجها، ومع أن دخلهما اليوم تضاعف عن السابق أربع مرات، إلا أنه بالكاد يكفي مصاريف البيت ودراسة الأولاد، ولا يقلقها شيء سوى تأمين مستقبلهم. أما الشؤون العامة الأخرى، فنادرا ما تفكر بها لأن هناك مسؤولين يفكرون بها ويتقاضون على ذلك أجرا وامتيازات كثيرة... وتتابع بعد ابتسامة ساخرة، كنت سابقا أفكر بأنه عندما أصل إلى سن معينة، وبعد أن يكبر الأولاد، أكون قد وفرت مبلغا من المال يمكنني من القيام بسياحة مع زوجي لمدة عام إلى كل الدول التي أحلم بزيارتها، الآن لم يعد لدي هذا الحلم، وتفكيري يتركز على كيفية وضع برنامج إنفاق يُمكّن الأولاد من إتمام تعليمهم الجامعي... وتختم بالقول، الحمد الله، المهم الصحة والأمان وما عدا ذلك ربنا كريم. أمام سبيل ماء في سوق بحي الصالحية الدمشقي، وقف بضعة أشخاص من الرجال والنساء لترطيب وجوههم، وشرب ماء بارد في يوم تموزي قائظ، لم يُبدِ أي منهم رغبة بالحديث عن أي شيء أو حتى قول كلمة سوى «في هذا الشوب ما لنا نفس نحكي».