مصر: منحنى الطائفية يتزايد تحت قوسي المال والنساء

ارتفع في الأعوام الثلاثة الأخيرة

الخلافات الطائفية ليست شائعة عموماً في مصر («الشرق الأوسط»)
TT

في إحدى الحافلات الصغيرة (الميكروباص) المتجهة إلى ضاحية المعادي (جنوب القاهرة) جلس رجل يحمل ابنته ذات الثلاثة أعوام على ساقيه، بجوار سيدة مسيحية ترتدي سلسلة ذهبية تنتهي بصليب، ولقطع ملل الطريق داعبت السيدة الطفلة الصغيرة، وسألتها عن اسمها فأجابت الطفلة «مريم»، فعاودت السيدة السؤال «هل أنتم مسلمون أم مسيحيون يا حبيبتي»، فتحولت الطفلة إلى والدها لتسأله «هل نحن مسلمون أم مسيحيون يا بابا»، فأجاب الوالد «نحن مصريون».. لعل السؤال والإجابة تعكسان حالة من الاحتقان الخفي في الكثير من الأحيان والظاهر في أحيان أخرى، بين المسلمين والأقباط في مصر. ورغم أن هذا الاحتقان عندما يظهر لا يكون سببه اعتداء أي طرف على دين الآخر، وإنما يكون سببه في الغالب إما علاقة حب بين شاب وفتاة، كل منهما يدين بديانة مختلفة، أو مجرد سقوط نقاط مياه من غسيل جار على شرفة جاره، أو قد يكون سببه نزاعات مالية، إما خلاف على أموال أو سرقات مثل حادثي سرقة محلي ذهب أخيراً، أحدهما في ضاحية الزيتون شرق القاهرة، والآخر في مدينة الإسكندرية (220 كيلومترا شمال غربي القاهرة)، أو خلاف على قطع أراض مثل أزمة دير أبو فانا بمحافظة المنيا (نحو 280 كيلومترا جنوب القاهرة).

ورغم أن اندلاع شرارة الخلافات الطائفية، التي قد تتطور لصدامات مسلحة بين الجانبين، عادة ما يكون لأسباب لا علاقة لها بالدين، إلا أنه بمجرد حدوث هذه الأزمات يبرز دور رجال الدين، إما بتهدئة الأمور، أو بصب المزيد من الزيت فوق النار. ففي فترة الثمانينات من القرن الماضي كان المتشددون من رجال الدين المسلمين أمثال عمر عبد الرحمن والشيخ عبد الحميد كشك متهمين بالتحريض ضد الأقباط في مصر، إلا أنه مع مرور الوقت انتقل هذا الاتهام لرجال الدين المسيحي، وهو ما برز في بيان أصدرته الجماعة الإسلامية قبل نحو شهر، واتهمت فيه رجال الدين المسيحي بممارسة السياسة، والتحريض على إثارة الفتن الطائفية، وهو ما رفضته الكنيسة الأرثوذكسية على لسان المتحدث باسمها، الأنبا مرقص، جملة وتفصيلا. ولعل زيادة الحوادث الطائفية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة كانت السببَ في أن الفيلم الرئيسي في دور العرض السينمائي خلال موسم الصيف في مصر هذا العام هو فيلم «حسن ومرقص» الذي يقوم ببطولته النجمان عادل إمام وعمر الشريف، والذي يدعو إلى التسامح الديني، وتدور قصته حول رجل دين مسيحي وشيخ مسلم، يهرب كل منهما من المتطرفين في دينه ممن يسعون لقتل كل منهما، ويتنكر الاثنان كل في شخصية الآخر، ويختبئان معاً، ومن خلال الأحداث، التي تتخللها مواقف كوميدية، يكتشف كل طرف أن هناك الكثيرَ من الأشياء المشتركة مع الطرف الآخر، إلى أن تحدث أزمة طائفية فيكشف كل منهما عن شخصيته الحقيقية ويعالجان الموقف. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عددَ الأقباط في مصر يبلغ نحو 7% من عدد السكان البالغ عددهم حوالي 78.7 مليون نسمة، إلا أن مصادرَ قبطية ترفع هذه التقديرات إلى نحو 15%، مطالبة بتخصيص نسب للأقباط في الوظائف الوزارية والمناصب العليا.

«فتنة إيه ومسلمين إيه ومسيحيين إيه، أنت بتتكلم عن إيه؟»، تساؤل استنكاري واجهنا به «العم ونس» القبطي، الذي تركت سنوات عمره السبعين آثارها على وجهه، وهو منهمك في ممارسة عمله كماسح أحذية في محل يملكه وسط القاهرة، ويشاركه فيه عم «إبراهيم» المسلم. ويقول «العم ونس»: «أنا وإبراهيم شريكان منذ أكثر من أربعين عاما، ولم يحدث أن نشأت بيننا أي خلافات بسبب اختلاف الديانة، بل لم يحدث أن فكر أحدنا في ديانة الآخر». أما «العم إبراهيم»، فضحك، وهو يقول: «أحيانا ونس يذكرني أن موعد صلاة العصر قد حان، وأني لم أصلِّ الظهر بعد، وأنت تتحدث عن فتنة طائفية؟». وتعد الحوادث الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر حديثة نسبياً، فأول حادثة يمكن رصدها هي أحداث الخانكة عام 1972، عندما حاول بعض الأقباط تحويل منزل بمدينة الخانكة (شمال القاهرة) إلى كنيسة، رغم أن القانون في ذلك الوقت كان يعطي سلطة الأمر ببناء الكنائس لرئيس الجمهورية فقط، فحدثت على إثر ذلك مواجهات بين المسلمين والأقباط، قام على إثرها البابا شنودة الثالث، بابا الأقباط الأرثوذكس، بإرسال وفدٍ من القساوسة في حافلة ليقيموا الشعائر الكنسية في المنزل محل النزاع، كنوع من التحدي للرئيس الراحل أنور السادات (1918ـ 1981)، إذ كانت العلاقة متوترة بين السادات والبابا الجديد الذي لم يكن قد مضى عامٌ على توليه سدة البابوية حينذاك، بحسب ما ذكره الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب»، وانتهى الأمرُ بلجنة تقصِّي حقائق شكلها البرلمان برئاسة الدكتور جمال العطيفي، زارت أماكن الأحداث، والتقت بشيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ محمد الفحام، والبابا شنودة الثالث، وأصدرت تقريرا في نهاية عملها. ومنذ حادثة الخانكة، وبعدها أحداث الزاوية الحمراء عام 1981، انشغل المصريون، مسلمين وأقباطاً، بموجة العنف التي نفذها إسلاميون متشددون، وطالت أهدافا مسلمة وأخرى مسيحية، وإن اقتصرت الأهداف المسيحية على محلات الذهب المملوكة لأقباط، إلى أن وقعت أزمة طائفية في قرية الكشح بمحافظة سوهاج بصعيد مصر في شهر أغسطس (آب) عام 1998، والتي عرفت بأحداث الكشح الأولى، والتي اندلعت على خلفية قضية ثأر بين عائلة مسلمة وأخرى مسيحية، أي أن الأمر لا علاقة له بخلافات دينية، وتلتها أزمة أخرى في نفس القرية في ديسمبر (كانون الأول) 1999، عرفت بأحداث الكشح الثانية على خلفية نزاع بين تاجر مسلم وتاجر قبطي. وفي نهاية عام 2004، تفجرت أزمة جديدة عندما اعتنقت زوجة قس مسيحي تدعى وفاء قسطنطين، الإسلامََ، وأدى اختفاؤها لاندلاع مظاهرات قبطية، مطالبة باستعادتها، وهو ما استجابت له السلطات الأمنية في مصر بالفعل، رغم ما يردده المقربون من قسطنطين أنها أسلمت عن اقتناع وحفظت عدة أجزاء من القرآن الكريم. ورغم أن محافظة الإسكندرية من المحافظات الهادئة نسبياً إلا أنها شهدت نهاية عام 2005 أزمة عنيفة بكنيسة مارجرجس بمنطقة محرم بك على إثر توزيع ما قيل إنها مصادر قبطية هناك اسطوانة مدمجة (CD) تحتوي على مسرحية بعنوان «كنت أعمى والآن أبصرت» تحكي قصة مسيحي أسلم ثم عاد للمسيحية باعتبارها الأفضل بالنسبة إليه، وهو ما اعتبره مسلمون إساءة مباشرة للإسلام، خاصة أنه عرض بمقر كنيسة هناك، فخرج على إثرها المسلمون في مظاهرة عارمة أحاطت بمقر الكنيسة ووقعت فيها أحداث عنف. وفي عام 2006، قتل شاب مسلم مختل عقليا يدعى محمود صلاح الدين، مسيحيا وطعن سبعة آخرين في هجوم بسكين على إحدى كنائس محافظة الإسكندرية، لتندلع على إثرها مظاهرات مسيحية تطورت إلى نزاعات مسلحة.. «دعونا نعترف أولا بأن هناك ثقافة طائفية راسخة في الخمسة والعشرين عاما الأخيرة مع ظهور التشدد الديني ومن قبل وسائل إعلام تبنت أفكار مصريين عاشوا في الخارج وعادوا بثقافة مغايرة» هكذا بدأ الدكتور عماد صيام، الباحث في علم الاجتماع السياسي، حديثه حول جذور الأزمة. وأضاف صيام: «هناك أيضا أزمة اجتماعية طاحنة أدت إلى أزمة مالية غير مسبوقة فضلا عن غياب دور الدولة تماماً عن تقديم أيِّ حماية اجتماعية، ولذا يلجأ الأفراد إلى انتماءاتهم الأولية لحل مشاكلهم مثل اللجوء للدين أو القبيلة، مما يعزز فكرة الاحتقان الاجتماعي». وحول ازدياد الحوادث الطائفية في السنوات الأخيرة، يقول صيام «الدولة المصرية تمر بأضعف لحظاتها في ظل غياب ثقافة القانون، فالدولة الآن باطشة وليست قوية وشتان الفرق بين المعنيين، وذلك أدى إلى حالة من فقدان الأمل لدى الأمة في التغيير والإصلاح مما يجعل أفرادها يلجأون إلى المسجد والكنيسة». واعتبر صيام أن الدولة تقوم بحل الأزمات الطائفية بعد حدوثها، ويقول: ماذا يعني وجود 1000 عسكري لمحاصرة مظاهرة لحركة «كفاية»، بينما تصل قوات الأمن بعد حدوث المشاكل الطائفية بعد 6 ساعات مثلما حدث أخيرا في النزاع القائم بين بعض العربان ورهبان دير أبو فانا في صعيد مصر. وأضاف «هذا الأسلوب من قبل الدولة يعني ثلاثة أشياء مهمة، هي أنها تريد أن يقوم المواطنون بتفريغ طاقة العنف، وأن تطلق للمسلمين اليد على الغارب لتقول لهم «أنا معكم»، بينما تحمي الأقباط بعد الأزمات لتؤكد لهم أنها الوحيدة القادرة على حمايتهم في الوقت المناسب، وهو أسلوب بدأت الدولة بممارسته، ولكنها لن تتمكن من السيطرة عليه فيما بعد». أي طرف على دين الآخر ،أى ويرى صيام أنه «إذا طبقت الدولة القانون بسرعة وحسم لن يجرؤ مسيحي أو مسلم على تخطي حدوده، فمثلا في أزمة دير أبو فانا، الطرفان (البدو المسلمون ورهبان الدير) يتنازعان على أرض مملوكة للدولة، أي أن هناك حالة وضع يد من قبل الطرفين ينبغي على الدولة إنهاؤها.

من جانبه، اعتبر الباحث القبطي، سامح فوزي، أن الأزمات المتتالية تعبر عن وجود حالة احتقان تعبر عن نفسها من خلال مشكلات اقتصادية واجتماعية مثل خلافات أسرية أو النزاع على قطعة أرض. ويقول فوزي: «حالة التربص والهواجس الموجودة لدى الطرفين تجعل من أي موقف طبيعي يبدو غير طبيعي». ويحمل المسؤولية عن هذا الاحتقان لعدة أطراف منها الدولة باعتبارها صاحبة الولاية على المجتمع، والمتطرفون من الجانبين وهم المسلمون والأقباط والنخبة المثقفة التي تتسبب كتاباتها في تعرية المشكلات وليس تحليلها ومحاولة حلها، على حد وصف فوزي. وأخيرا وسائل الإعلام التي تساهم في تأجيج نار الخلافات الطائفية. الشيخ مطراوي بخيت، إمام مسجد شجرة مريم، بالقاهرة كان له رأي مختلف، حيث اعتبر أن الجهل بالدين هو السبب الرئيسي للأزمات فضلا عن وجود عناصر خفية ـ رفض تسميتها ـ هدفها الإيقاع بين عنصري الأمة. ويقول الشيخ مطراوي إن «هناك الكثير من المحمَّلينَ بأفكار من الشرق والغرب، وعائدون مثلا من افغانستان تبنوا أفكارا في مجتمعنا بعيدة كل البعد عن طبيعته المتسامحة». ويضرب الشيخ مثلا بمشكلة وقعت في منطقته بين شخص مسلم وآخر مسيحي قائلا: «واجهنا مشكلة في منطقتنا بين صاحب عمارة مسيحي وسكان مسلمين، واجتمعنا في الكنيسة، وكان القسيس يدافع عن المسلمين، وكنت أنا أدافع عن حقوق صاحب العقار، فالكنيسة والمسجد هما العامل رقم واحد لحل مختلف المشكلات، أي القسيس والإمام، وليس المؤسسات الرسمية». ويضيف «المسلمون والمسيحيون يخافون من الذهاب لقسم الشرطة كي لا يتحول الموضوع لقضية أمن دولة، ولذلك فهم يؤمنون بأن الكنيسة والمسجد سوف يقومان بتلبية متطلباتهما». سميرة لوقا، مديرة برنامج حوار الثقافات التابع للهيئة الانجيلية للخدمات الاجتماعية، طالبت الطرفين (المسلمين والأقباط) بالبحث عن مناطق قبول الآخر، وأن يتعود كل منهما على التسامح، إلا أنها قالت «كلها أشياء تحتاج إلى تدريب من كافة مؤسسات التنشئة من مسجد وكنيسة ومدرسة». وتقول لوقا «أسفر برنامجنا الذي يضم مختلف طوائف الشعب المصر على فعل شيء مختلف في أحداث محرم بك في محافظة الاسكندرية عندما اعتدى مختل عقلي على 3 كنائس، فقد نزلت مجموعة العمل من تلقاء نفسها للناس الذين يحتمون بالدين بشدة، وبدأوا بتهدئة الأجواء وإزالة حالة التعصب والاحتقان، وذلك من خلال قساوسة ومشايخ ومثقفين». «لم أرى في مصر مسلمين ومسيحيين، رأيت مصريين بعضهم يتعبد في المسجد، وبعضهم يتعبد في الكنيسة».. جملة قالها اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في مصر، قبل نحو 100 عام. وكان يصف بها المجتمع المصري. فهل يمكن لحوادث سببها نزاع أسري أو مالي بين أفراد قلائل من عنصري الأمة أن تعكر صفو هذه المقولة التاريخية.