ارتفعت أسعار البنزين.. فركب الأميركيون الأوتوبيسات

يواجه الأميركيون ارتفاع سعر البنزين بتغيير السيارات الكبيرة إلى صغيرة والعمل من منازلهم

حياة الاميركيين تغيرت بسبب أسعار البنزين (الشرق الاوسط»)
TT

في يوم واحد، يوم الثلاثاء: ارتفع سعر برميل النفط الى 143 دولارا. واعلنت شركات السيارات الاميركية انخفاض مبيعات سياراتها، وخاصة السيارات الكبيرة. واعلنت شركة «ستاربكس» للقهوة الراقية انها ستغلق عشرة في المائة من مقاهيها. وانخفضت اسهم «داو جونز» في سوق الاسهم في نيويورك خلال شهر واحد بنسبة لم تحدث منذ الكارثة الاقتصادية الكبرى سنة 1929. وقال خبراء اقتصاديون ان شركة «جنرال موتورز» للسيارات ربما ستعلن إفلاسها. واعلنت وزارة التجارة أن الغلاء ارتفع بنسبة خمسة في المائة خلال الثلاثة شهور الاخيرة (كان اقل من ثلاثة في المائة خلال نفس الفترة في السنة الماضية)، وان اسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة ستة في المائة، والبنزين ارتفع بنسبة ثلاثين في المائة.

منذ بداية السنة الحالية، غيرت مثل هذه الاخبار السيئة الوضع الاقتصادي الاميركي، وزادت المشاكل، وستزيدها اكثر. ويتوقع متشائمون ان تتكرر، خلال شهور قليلة، خلال سنة 2009، كارثة سنة 1929 الاقتصادية التي افلست كل اميركا (غير انها هذه المرة ستؤثر على بقية العالم).

كيف يواجه الاميركيون كل هذه المشاكل التي لم يتعودوا عليها؟ بصورة عامة، برهن الاميركيون على قدرتهم على الابداع حتى في احلك الاوقات: في منيابوليس (ولاية منيسوتا)، قالت اميركية لتلفزيون «ايه بي سي» عن تركها سيارتها في المنزل، وركوب حافلة الى مكان العمل: «طبعا، فعلت ذلك بسبب زيادة البنزين. لكن، في الحقيقة، لم اكن اعرف ان الحافلات نظيفة ومرتبة بهذه الطريقة. كنت اظنها لا تأتي في المواعيد. وتمتلئ بالمشردين والمخبولين والمدمنين. لكن، فجأة وجدت نفسي أحب الحافلات» آخرون فضلوا ان يعملوا من منازلهم موفرين ثمن البنزين ووقت التنقل؟ وفي سان خوزيه (ولاية كاليفورنيا) قال اميركي لتلفزيون «إن بي سي»: «جلسنا، زوجتي وانا، حول مائدة العشاء. وحسبنا اننا سنوفر خمسمائة دولار في الشهر اذا استبدلنا سيارتي «إس يو في» (الكبيرتين) بسيارتين صغيرتين. في الحقيقة، كبر الاولاد، وذهبوا الى الجامعات، او وجدوا وظائف. ولم نعد نحتاج الى سيارات كبيرة لنقلهم من مكان الى آخر».

وفي فورت لوترديل (ولاية فلوريدا) قالت اميركية لنفس القناة: «عقدنا اجتماعا لاولادنا وبناتنا، ووضعنا قوانين لإطفاء الضوء، ومشاهدة التلفزيون، والطبخ، واستعمال فرن المايكرويف، وفتح وإغلاق الثلاجة. وحسبنا اننا نقدر على ان نوفر في فاتورة الكهرباء توفيرا لم يخطر ببالنا. غريبة، كيف يتعود الناس على فعل اشياء بدون ان يفكروا فيها».

وأيدت ارقام نشرتها وزارة المواصلات ما قالت الاميركية التي فضلت ركوب الحافلة في ولاية منيسوتا. اوضحت الارقام ان سكان الولاية، خلال شهر ابريل (نيسان)، استعملوا سياراتهم اقل بما يعادل مائتي مليون ميل، بالمقارنة مع شهر ابريل في السنة الماضية. وفي كل اميركا، بما يعادل بليوني ميل اقل.

وأيدت هذه الارقام ما اعلن اتحاد السيارات الاميركي (ايه ايه ايه) ان الاميركيين، خلال شهر مايو (ايار)، وللشهر الخامس على التوالي استعملوا سياراتهم بنسبة اقل. وقالت ارقام وزارة المواصلات ان نسبة استعمال الحافلات العامة، خلال الخمسة شهور الاولى من هذه السنة، زادت بنسبة عشرة في المائة، بالمقارنة مع ما كانت عليه خلال نفس الشهور في السنة الماضية.

وفي تيراهوت (ولاية انديانا) قال تيري ماكلين، مدير في شركة «اميركان لون موار» (لصناعة الماكينات اليدوية لقص النجيلة والحشائش) ان مبيعات الشركة زادت خلال شهور الصيف الاولى بنسبة سبعين في المائة عنها خلال نفس الشهور في السنة الماضية. وقال ان سبب ذلك هو ارتفاع سعر البنزين، لأن كثيرا من الاميركيين استبدلوا الماكينات البخارية التي تعمل بالنزين بماكينات يدوية، او كهربائية. وقال: «نحن كنا دائما نقول في اعلاناتنا ان الماكينة اليدوية رياضة مفيدة، لأن الشخص الذي يقضي ساعتين يقص بيده يتعب ويتصبب عرقا. لم نكن نقول انها توفر البنزين. لكننا، في المستقبل، سنقول في اعلاناتنا ان الماكينة التي تستهلك بنزينا كثيرا هي سبب الكرش التي تستهلك طعاما كثيرا».

ويوم الثلاثاء، اصدر مركز «بيو» للاستفتاءات نتائج استفتاء اوضح ان نسبة النصف في وسط الاميركيين لم تعد ترفض التنقيب عن النفط بالقرب من السواحل الاميركية. حتى وقت قريب، ولاكثر من ثلاثين سنة، كان الاميركيون يعارضون ذلك بحجة المحافظة على نظافة البيئة (خوفا من تسرب النفط الى السواحل والبلاجات). وقالت كارول دوهارتي، مديرة في مركز «بيو»: «ليس معنى ذلك ان الاميركيين لم يعودوا يهتمون بنظافة البيئة. لكنهم دمجوا الواقعية والمثالية» وهناك سبب آخر، وهو ان التقدم التكنولوجي زاد القدرة على منع تلوث السواحل اذا تسرب نفط من انبوب تحت سطح الارض، او من ناقلة نفط.

لكن، يبدو ان هذا الموضوع نفسي اكثر منه اقتصادي، وذلك لأنه حتى اذا ارتفع عدد المؤيدين الى اكثر من النصف، وحتى اذا اصدر الكونغرس قانونا يسمح لشركات النفط ان تنقب قرب السواحل الاميركية، وحتى اذا بدأت الشركات فورا، ستمر عشر سنوات تقريبا قبل ضخ البترول الى محطات البنزين. وذلك لأن التنقيب لا يعني الاكتشاف، والاكتشاف لا يعني الجدوى الاقتصادية. لا يمكن التقليل من أبعاد الازمة الاقتصادية الحالية، وخاصة الارتفاع الخيالي في سعر البنزين. ولا يمكن التقليل من ترف الحياة الاميركية، وخاصة الذي يعتمد على الكهرباء والبنزين (في بلد يستورد الطاقة). لكن ردود فعل الاميركيين توضح قدرتهم على أولا: التنسيق بين المشكلة والحل. ثانيا: الاعتماد على الدراسات والبحوث. ثالثا: الابداع امام المشاكل (الحاجة ام الاختراع). رابعا: دمج الواقعية بالمثالية، كما قالت مسؤولة مركز «بيو». قبل اربع سنوات، كانت مبيعات سيارت «اس يو في» العملاقة تزيد بمعدل خمسة وعشرين في المائة كل سنة. لكنها، خلال هذه السنة، وبسبب ارتفاع سعر البنزين. قلت بمعدل خمسة وعشرين في المائة.

وقال توم ويب، خبير في تجارة السيارات في مركز «مانهايم» الاستشاري في واشنطن، انه، في وقت الشدة وفي وقت الرفاهية، يبرهن قانون العرض والطلب جدواه. ارتفع سعر «اس يو في» عندما زاد الاقبال عليها، لكن، الآن، انخفض بنسبة الربع.

وفجأة، صار محظوظا كل من كان يريد شراء واحدة لكنه لم يقدر بسبب سعرها العالي.

غير ان شركات السيارات التي تصنع هذه السيارات العملاقة لم تستسلم. قبل شهرين اعلنت شركة «كرايسلر» اغراء كل من يشتري واحدة باعطائه كوبونا لشراء بنزين بثلاثة دولارات فقط (بالمقارنة مع اربعة او خمسة دولارات الآن). وفي الاسبوع الماضي، اعلنت شركة «جنرال موتورز» تخفيض سعر الفائدة الى الصفر لكل من يقترض من الشركة لشراء واحدة من سياراتها. وظهر إبداع آخر: غيرت شركات مواعيد العمل من ثماني ساعات في خمسة ايام في الاسبوع الى عشر ساعات في اربعة ايام في الاسبوع وذلك لتوفير استهلاك البنزين للموظفين والعاملين ليوم واحد. وقالت هذه الشركات انها، نفسها، ستوفر يوما كاملا من اضاءة المكاتب، والمكيفات، وخدمات الموظفين. بدأت الفكرة شركة في ولاية جورجيا، ومثل النار في الهشيم انتشرت في كل الولايات المتحدة. فكرة ثانية بداتها شركة في ولاية بنسلفانيا، وهي تشجيع الموظفين والعمال الذين يحضرون الى المكاتب في سيارة واحدة (اذا كانوا يسكنون في اماكن قريبة من بعضهم البعض)، وذلك بدفع تكاليف البنزين لسيارة واحدة.

فكرة ثالثة بدأتها شركة في ولاية اوهايو، وهي نقل الموظفين والعاملين في حافلاتها. مثل حافلات نقل تلاميذ المدارس. واوضحت الابحاث الاولية نجاح الفكرة، ليس فقط لانهم يوفرون بنزين سياراتهم، ولكن، ايضا، لنمو علاقات اجتماعية بينهم.

وهكذا، يبدو ان التحول من السيارات الى الحافلات والسيارات الجماعية اثر على الفردية الاميركية التي تعتز بالملكية الخاصة والحرية الخاصة. لكنها تقلل من الاتصال مع الآخرين. ورغم ان مقاهي «ستارباكس» الراقية تأثرت بهذه الازمة الاقتصادية، لكنها تظل مثالا على ظاهرة التغلب على الفردية والاتصال بالآخرين، بالجلوس في مقهى للحديث، او، على الاقل، بالاستماع الى الآخرين يتحدثون.

لأكثر من عشر سنوات، بدا وكأنه لا توجد نهاية لانتشار مقاهي «ستارباكس»، ولا يوجد شارع لن تصل اليه، ولا نوع قهوة او شاي لن تخترعه او تكتشفه. ولا نهاية لسعر الفنجان رغم ان سعره وصل الى اربعة دولارات للذي يطلب «لاتيه» (قهوة ولبن ورغوة لبن وبودرة شوكولاته).

في كتابه «املأ الفنجان بعصارة قلبك»، قال هوارد شولتز، مؤسس شركة «ستارباكس» ورئيسها، انه لاحظ افتقار الحياة الاميركية الى اماكن بريئة (غير البارات والخمارات) يجلس فيها الناس ليتحدثوا. وانتشرت الموضة، وظهرت مقاهي «كاريب» و«سياتل» وغيرهما. والفت كارين مورغنثاو، صحافية في جريدة «وول ستريت جورنال» كتابا عن «ستاربكس»: «غراند اكسبيكتيشن» (توقعات كبيرة، اشارة الى حجم الكوب الكبير الذي اشتهرت به هذه المقاهي) كتبت: «لا يذهب الناس الى هذه المقاهي فقط للقهوة الجيدة، ولكن، ايضا، ليقابلوا بعضهم البعض. صار الاصدقاء يتقابلون هناك، والاباء والامهات يعقدون اجتماعات عن اولادهم هناك، والجارات اللائي لا يعملن في مكاتب ويسأمن من المنزل يتقابلن هناك».

واضافت: «جعلتنا الفردية جيرانا لا نقابل بعضنا البعض. وجعلتنا الرأسمالية نتقابل في مقاهي ستارباكس. واخيرا، يبدو ان هذه المقاهي، رغم انها تأثرت بالمشكلة الاقتصادية الحالية، لن تزول (ربما ستزيد اذا خفضت اسعارها) على الاقل لان الاميركيين صاروا، في الوقت الحاضر، اكثر حاجة الى اماكن يتقابلون فيها، ويتحدثون فيها عن مشاكلهم الاقتصادية، لأن المصائب تجمع الناس المصابين.