المهور في المغرب تدخل صراع الأجيال

فقراء يرضون بالقليل ويخضعون للأوضاع الاقتصادية.. وأغنياء يتباهون بالملايين

عروس مغربية محمولة على الاكتاف في عرس مغربي تقليدي («الشرق الاوس»)
TT

فاطمة، امرأة من مدينة فاس، في العقد الثامن من عمرها، ذات بشرة بيضاء لونها بلون الحليب، ووشم يزين وجهها. فاطمة تبدو غير راضية تماما على بنات اليوم. تقول إنهن بدأن بالتخلي تدريجياً عن المطالبة بمبلغ كبير في المهر يليق بمقامهن وقدودهن. مهما كانت التبريرات، فإن فاطمة لا تقبل بها. تلمع عيناها الغائرتان وراء نظارتها الطبية، وهي تجاهد لترفع صوتا كأنه قادم من بئر عميق: «امرأة بدون مهر غال، هي امرأة بدون همة أو شأن»، تنطق كلماتها بالتعبير العامي المغربي.

تتذكر فاطمة بفخر واعتزاز، أن جيلها القديم لم يكن يرضى بالتنازلات، وفاء منه للعادات الاجتماعية. لكن حفيدتها إلهام، ذات السادسة والعشرين من العمر، تخالفها الرأي تماما، وتقول لها: «يا جدتي العزيزة، لقد تغير الزمن، ومست التجليات العصرية جميع مظاهر الحياة العامة». عبثا تحاول إقناعها. دون جدوى. ثمة مسافة شاسعة بين عقلية الأمس وعقلية اليوم. مثل هذا النقاش يجري في الكثير من البيوت المغربية حول غلاء المهور. الجيل القديم يحبذ المهور المرتفعة، والجيل الجديد ينتقد العقلية القديمة ويتفهم الظروف والأوضاع. والشابة إلهام مثلها كثيرات في المجتمع المغربي ممن أخذن نصيبا من العلم وغدون متفهمات وينظرن إلى المهر في بعده الشكلي والرمزي فقط، تفادياً لإثقال كاهل زوج المستقبل بتكاليف مادية يفضلن استثمارها في مسائل أخرى أفيد في بناء عش الزوجية. زهور،37 عاما، عاملة في وكالة للسفر، كاد شبابها يذبل. السبب أن عائلتها المتمسكة بالحفاظ على التقاليد، رفضت أكثر من عريس، ليس لعيب فيه، وإنما لعدم الاتفاق على مبلغ المهر الذي تريد الأسرة أن تتباهى به أمام الأهل. تعترف زهور وتقول: «مرارا فكرت في تزويج نفسي بنفسي، على سنة الله ورسوله، وفق القانون الذي يسمح لي بذلك، لكني سرعان ما تراجعت عن هذه الخطوة مخافة غضب الوالدين وشماتة الجيران». خدوج وهي ربة بيت، 66 عاما، لديها وجهة نظرها الخاصة، متوازنة إلى حد ما. تقول: «إذا كان العريس ميسور الحال، يتعين عليه دفع مهر مناسب. أما إذا كان في بداية حياته المهنية، فيمكن مراعاة ظروفه وتزويجه إحدى بناتي». في حديث مع الحاج عبدالله، أحد «العدول» المكلفين توثيق عقد الزواج لدى المحكمة، يقول «إنه لا بد من التنصيص على المهر ليكون الزواج شرعيا». ويشير «إلى أن أصغر مبلغ يتم قبوله في العقد هو 100 درهم (7.3 درهم)، والمهر إما أن يكون «معاينة»، أي بحضور موثق الزواج أو «اعترافا»، وهو أن تدلي به العروس شفاهيا، أثناء تسجيل العقد». ويوضح عبد الله أن غالبية المهور لدى الطبقة الاجتماعية المتوسطة، تتراوح ما بين 3000 درهم و5000 درهم، أو 10 آلاف درهم في أقصى الحالات. وتتضمن مقدم الصداق ومؤخره. والمفارقة الغريبة التي يستنتجها موثق عقود الزواج، من خلال تجربته، كما يقول، هي أن أغلب الأغنياء يكتفون غالبا بمهر رمزي، وهو عبارة عن «لويزتين» وهما (قطعتان من الذهب الخالص)، يبتدئ ثمنهما بـ2000 درهم مغربي وما فوق. بيد أن هناك بعض الحالات الاستثنائية القليلة جدا والتي يكتنفها نوع من التباهي، وهي تلك المهور التي تقدر بالملايين، وقد تصل إلى حدود 100 مليون، كما يقول، رغم أن الأساس الشرعي للصداق في القانون المغربي، هو قيمته المعنوية وليس قيمته المادية. وحتى حفلات زفاف الأغنياء، غدت لافتة للانتباه بحكم مظاهر البذخ التي تسودها الى حد التخمة، واستحضار نجوم الفن العرب من لبنان، مثل نانسي عجرم وأليسا وغيرهما، مثلما حدث أخيرا في مراكش في عرس أسطوري لأحد كبار المنعشين العقاريين ظل حديث الصحافة والمجالس لعدة أيام. وإذا كانت غالبية الزيجات تتم في فصل الصيف، فإنها في نظر بعض موثقي عقود الزواج، بدأت في التقلص في السنوات الأخيرة بسبب صدور مدونة (قانون) الأسرة في صيغتها الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ عام 2004 نظرا لوقوع التباس في الفهم لدى بعض الرجال لغياب التوعية الإعلامية بمضمونها، اعتقادا منهم أن الزوجات سوف تستولين على ممتلكاتهم فور الاقتران بهم. وهذا خطأ في التفسير، يقول الحاج عبد اللطيف، ذلك أن المدونة تنص على أن لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية الاتفاق على استثمارها وتوزيعها. كما تنص المدونة على «مراعاة عمل كل واحد من الزوجين، وما قدمه من مجهودات، وما تحمله من أعباء لتنمية أموال الأسرة». وخلافا لما قاله موثق الزواج من تدنٍّ في نسبة الزواج، فإن مصدرا رسميا من وزارة العدل المغربية يقول أن عام 2007 شهد تسجيل297 ألفا و660 عقد زواجٍ بمجموع المغرب، بارتفاع قدره 11.6 في المائة، مقارنة بسنتي 2005 و2006. وتسجل سعيدة الإدريسي، رئيسة فرع الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب بمدينة الرباط، أن ظاهرة المغالاة في المهور بدأت في التقلص، لوقوع تغيير في العقلية الاجتماعية. وتقول ان العائلات أو النساء «لم تعد تشترط على طالبي الزواج مبلغا ماليا كبيراً بحكم عدد من العوامل، ومنها انتشار الوعي الاجتماعي وتداعيات الظروف الاقتصادية وانعكاسها على الوضع العام». وتشرح سعيدة أن التفاهم بين الطرفين، أي الرجل والمرأة، أصبح محكوما بالنظر إلى الموضوع من زاوية جديدة، تقوم على الواقعية وتقاسم المسؤولية في الحقوق والواجبات انطلاقا من روح مدونة الأسرة الجديدة التي تدعو إلى التوازن في العلاقة الزوجية. ولذلك، غالبا ما يتم الاكتفاء بمهر رمزي أثناء إبرام وثيقة الزواج، «لأن المهم هو الاستمرارية وبناء عش الزوجية على أسس سليمة، وليس المال». وقالت سعيدة ان تفاوض والد البنت مع عائلة الشاب حول قيمة المهر التي قد تصل أحيانا إلى خمسين ألف درهم وما فوق، يفرغ مؤسسة الزواج من بعدها العاطفي والوجداني والأخلاقي، ويجعل العملية تبدو كأنها صفقة مادية وليست علاقة تقوم على التكافؤ والتفاهم. وتخلص سعيدة إلى القول «ان زواجا كهذا تترتب عنه عدة مشاكل ومآس عائلية وغالبا ما تكون العروس هي الضحية، ذلك أن العريس الشاب ما أن يلتحق بها في أوروبا ويسوي وضعيته من الناحية القانونية، حتى ينصرف عنها ويتركها لمصيرها». وتقول ان «الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب»، توصلت الى هذه الخلاصة عبر الكثير من الشكاوى من طرف بنات بعض المهاجرين، «ولذلك يجب لفت انتباه هؤلاء الآباء إلى أنهم يلعبون بمصائر بناتهم ويدمرون مستقبلهن مقابل دراهم معدودات سرعان ما تتلاشى مع الزمن، لتبقى الحصيلة التي تسكن النفوس هي الإحساس بالحسرة والألم والندم». ووقعت عدة تبدلات وتغيرات في المغرب مست منظومة القيم، وهذا بالضبط ما يعبر عنه عبد الرحيم العطري، الباحث الاجتماعي، بقوله إنه «إزاء ما يشهده العالم من تطور، فإن القيم تظل هي الأكثر تعرضا للهدم والتقويض والبناء من جديد. والمغرب لا يشكل الاستثناء في هذا المجال، إنه معني بهذا التحول الذي يمتد بتأثيراته إلى كافة تفاصيل المشهد المجتمعي». وأضاف «نجد أكثر من مبرر منطقي للتغير الذي مس شروط ومعايير الزواج في المجتمع المغربي. ففضلا عن الأبعاد الثقافية والقيمية، هناك الظروف والأسباب الاجتماعية التي تقف وراء أي تحول في خارطة الفعل الاجتماعي، لذا تعرضت مسألة المهر في الكثير من مناطق المغرب لتحولات عميقة المبنى والمعنى. وبدأنا نلاحظ اليوم انتقالا من زيجات بمصاريف باهضة إلى زيجات في حدود المتوسط والمعقول». ومن بين العوامل التي يشير إليها العطري، «هناك الأزمة الاجتماعية التي تجعل الشباب غير مقبلين على الزواج بسبب غياب العمل وانسداد الآفاق، وهناك أرقام «العنوسة» التي ترتفع بين أوساط الإناث، وهو ما يعني ضرورة تقديم تنازلات من الجميع. فالعائلات التي كانت تشترط مهورا باهضة من أجل زواج بناتها، صارت تتقدم باقتراحات مقبولة من طرف الجميع. والملاحظ أن هذه التغيرات لا يقف وراءها العامل الثقافي المفتوح على التحولات الثقافية الكبرى للمجتمع، بل يقف وراءها تحديدا الفقر والهشاشة». لكن هذا لا يعني قط، في تقييم العطري، أن كل العائلات المغربية صارت تنضبط لهذه الخلفية الثقافية الجديدة لتدبير الزواج، وذلك وفق نوع من التضامن الاجتماعي. فهناك عائلات أخرى ما زالت تصر على التأكيد أن مسألة المهر العالي الكعب، لا تحتمل المفاوضة أو المساومة. فمن يريد الإفادة من ثمن المصاهرة، عليه أن يقدم الدليلَ الماديَّ على ذلك بتقديم مهر مغر. ومع ذلك، فهذه الحالات تظل معزولة ومقتصرة على تشكيلات اجتماعية محددة. وإذا كان الفقر يشكل أبرز العوائق الذي يحول بين الشباب والزواج، فإن هناك بعض المبادرات التي تقوم بها بعض الفعاليات، استلهاما من التقاليد الاجتماعية التي تبنى على التكافل والتضامن، مثل ما أقدمت عليه اخيرا في مدينة الدار البيضاء جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية والرياضية في محافظة «درب السلطان الفداءّ» التي تكلفت بكل شيء، بحسب رئيسها مصطفى عربة، ونظمت مهرجانا للزواج الجماعي استمر ثلاثة أيام بكل طقوسه الاحتفالية. واستهدف الفئات الفقيرة خصوصاً، واستفاد منه 12 شابا وشابة لم تكن ظروفهم المادية تسمح بإقامة عرس. أما عائشة، 38 عاما، ممرضة عازبة، فعزت ظاهرة العنوسة لدى البنات في المغرب إلى عامل اقتصادي لا يرتبط بالمهر الذي يبقى في رأيها «قابلا للنقاش والتفاهم، بمعنى التنازل عنه والاكتفاء بمبلغ رمزي». ولكن المشكلة تكمن أساسا، برأي عائشة، في عجز الشباب عن شراء شقة للسكن في وقت تلتهب فيه أسعار العقارات. وأبدت عائشة استعدادها للاقتران بأي شاب يتقدم لطلب يدها، شريطة توفره على صفات المروءة والرجولة، «وان يكون صاحب بيت». فهي لا تريد تكرار محنة زميلة لها تزوجت بشابٍ يقطن مع عائلته، فعاشت وسط جحيم لا يطاق بسبب المشاحنات اليومية الناتجة عن العيش المشترك، ولم تتخلص من هذه المعاناة إلا بعد شراء شقة صغيرة في حي شعبي، نظرا لضعف إمكانية زوجها المادية الذي يعمل كموظف في أحد المجالس البلدية بالرباط. ومشكلة السكن وتدني مستوى الدخول لدى الموظفين الشباب في الطبقة الوسطى، يطرح نفسه بإلحاح، وهذا ما يكشف عنه عبد العزيز الرماني، الباحث في الاقتصاد الاجتماعي الذي يرسم خريطة تقريبية للموظفين الشباب، أبناء الطبقة الوسطى، في رحلة بحثهم عن الاستقرار وعن الزواج والسكن من خلال ارقام ومعطيات لإضاءة الصورة من جميع جوانبها. ويستحضر في البدء عام 2002، «حيث كان عدد الموظفين من الأطر المتوسطة، يشكل حوالي 42 في المائة من مجموع الموظفين». ويقول: «إذا أضفنا إلى هذه النسبة فئة الأعوان من الموظفين الذين لا يزيد دخلهم على 250 دولارا في الشهر، فإن النسبة سترتفع إلى 75 في المائة مما يعني أن الموظفين، متوسطي الدخل يشكلون في الإدارة العمومية الآن نسبة تصل إلى ثلاثة أرباع، وهي نسبة لم تتقلص حتى ولو بعد عملية المغادرة الطوعية التي نظمتها الحكومة المغربية للتقليص من كتلة الأجور التي تثقل كاهل الميزانية». ويؤكد الرماني أن أرقام الزواج لم تتأثر بشكل كبير بحكم تزايد عدد السكان. وبحسب الأرقام الرسمية فقد عرف الزواج ارتفاعا عما كان عليه الحال في السنوات السابقة، لكن سن الزواج عرف تراجعا ملحوظا عما كان عليه أيضا في الماضي، إذ أصبح يقارب 28 سنة بالنسبة للنساء، وحوالي 30 سنة بالنسبة للرجال بفارق كبير عما كان عليه مثلا سنة 1960 حيث كان معدل سن زواج المرأة هو 17 سنة ومعدل سن الرجل هو 20 سنة. ويرى «أن السبب القوي وراء نقص الخصوبة، وتراجع سن الزواج، وتوجه الرجل إلى المرأة العاملة، عوض «أم البيت» هو التغيرات الاقتصادية المتلاحقة التي عرفها المغرب على مدى العقود السابقة. كما أن غلاء السكن والإيجار عرف ارتفاعا كبيراً في العشرية السابقة تجاوز فيه الضعف بشكل ملحوظ». فمنذ سنة 2005 تضاعفت اسعار السلع والمواد الغذائية، وارتفعت فواتير الماء والكهرباء بحوالي 8 في المائة، وعرفت زيادات المحروقات خمس زيادات متتالية بسبب الزيادات المتتالية في سعر النفط التي يسددها المغرب سنويا بأكثر من ملياري يورو. ويشكل الإيجار أحيانا 40 في المائة من أجرة الموظف البسيط، علما أن الأمر يتعلق في الغالب بالسكن في أحياء هامشية وبعيدة، مما يفرض ضرورة التنقل يوميا بتكاليف إضافية. أما شراء السكن، فقد انقلب في الآونة الأخيرة إلى كابوس يرعب بأرقامه العالية التي لا طاقة للموظف بها على الرغم من المحاولات المتعددة للدولة لتشجيع السكن الاقتصادي الذي تسربت إليه موضة جديدة تسمى في المغرب «النوار»، أي المعاملات السوداء التي تفرض على المشتري مبالغ سرية، غالبا ما يعجز عن توفيرها، وتظل الديون هي السائدة والمسيطرة، إذ تظل الغالبية القصوى من هذه الفئات من الموظفين ترزخ تحت ثقل كبير لديون البنوك والشركات الوسيطة. ويقول النائب الامين بوخبزة، من (حزب العدالة والتنمية) ذي المرجعية الاسلامية، إن حكم الشرع في المهر، «أنه من أركان الزواج التي تثبت صحته، والأصل فيه أن يكون رمزياً». اما المهر الانسب، يقول بوخبزة، فقد حدده الشرع الحكيم بقوله: «أقل النساء مهرا اكثرهن بركة»، مشيرا الى انه لا علاقة بالمغالاة في المهور بتكريم المراة، ولا بتقديرها واحترامها بل العبرة بالتوافق الروحي والانسجام الفكري والتراضي للنزول عند حكم الشرع في دقيق الأمور وجليلها. فبين من يطالب بمهور مرتفعة ومن يرضى بالقليل المتوفر، ينقسم المغاربة بين من يقضي مستقبلا مليئا بانتظار المهر المناسب الذي قد لا يأتي أبدا، وبين من يقتنع بالعيش حياة متواضعة.