عاصمة الوحدة الأوروبية.. وشبح التقسيم

الفلامنكيون والفرنسيون يعجزون عن الاتفاق على تقاسم السلطة.. وقد يعجزون عن تجاوز الخلافات بينهما

TT

تحتفل بلجيكا الاثنين المقبل بالعيد الوطني، ويحل الاحتفال هذا العام في اجواء أقل ما يمكن وصفها بأنها صعبة. فبلجيكا، مركز الاتحاد الاوروبي، وعاصمتها بروكسل رمز توحد الشعوب الاوروبية تحت راية واحدة، على شفير الانقسام. والمكونان الاساسيان للمجتمع البلجيكي، الفرنسيون والفلامنكيون، يبدوان غير قادرين على الاتفاق على شيء.

فالحكومة قدمت استقالتها مطلع الاسبوع، والقصر الملكي يستقبل منذ مساء الاثنين الماضي زعماء الاحزاب ليحاول اخراج البلاد من الازمة التي يمكن وصفها بالقديمة الجديدة.

وسائل الاعلام الاوروبية والعالمية اتفقت على أن هناك أزمة حقيقية يعيشها هذا البلد الصغير الذي يقع في قلب أوروبا الغربية. والنقيض الذي تجمعه عاصمتها بروكسل لا يمكن الا ملاحظته. فهي عاصمة أوروبا الموحدة وتضم الى جانب مؤسسات الاتحاد الاوروبي مقر حلف شمال الاطلسي، ومع هذا يبدو ان الحفاظ عليها عاصمة لبلجيكا موحدة أمرا صعبا للغاية. تعتبر بلجيكا التي استقلت عن هولندا في العام 1830، من البلدان الستة التي أسست نواة الاتحاد الاوروبي في العام 1957. تحدها فرنسا من الشمال وهولندا من الجنوب والمانيا من الشرق. وتعرف البلاد لغتين رسميتين هما الفرنسية والفلامنية القريبة من الهولندية. يحكم بلجيكا نظام دستوري برلماني تم وضعه في العام 1831، وجرى تعديله أكثر من مرة. واثر التعديلات الاخيرة في العام 1993، اصبحت بلجيكا بلدا اتحاديا تضم حكومة اتحادية وحكومة المناطق (المنطقة الفلمنية، القريبة من الحدود مع هولندا، والمنطقة الوالونية، القريبة من الحدود مع فرنسا، ومنطقة بروكسل العاصمة). وتعرف البلاد ايضا حكومات للمجموعات اللغوية، وهي حكومة المجموعة الناطقة باللغة الفلامنية أو الهولندية وحكومة المجموعة الناطقة بالفرنسية وحكومة المجموعة الناطقة بالالمانية، وهذا ما أدى الى تعقيد المسؤوليات الادارية والسياسية. وتفاقمت الازمة في هذا البلد الصغير الذي يقطنه اقل من 11 مليون نسمة خلال الفترة الماضية، بعد ان قدم رئيس الحكومة ايف ليتيرم استقالة حكومته بعدما تبين له بوضوح أنه لا يمكن التغلب على التناقضات العميقة بين والونيا (المنطقة البلجيكية الناطقة بالفرنسية) والإقليم الفلامنكي (الجزء البلجيكي الناطق بالهولندية).

وبعد أن فشلت الحكومة في إيجاد أرضية مشتركة بشأن خطة إصلاح في مدة زمنية محددة، وكان من المفترض ان يقدم رئيس الحكومة بيانا امام اعضاء البرلمان البلجيكي حول هذا الموضوع، لكن خلافات داخل الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم الذي ينتمي اليه رئيس الوزراء وحزب الاتحاد الفلامنكي الشريك في الائتلاف، كانت وراء قرار ليترم اختيار الاستقالة بعد ان واجه عدم ترحيب من جانب زملائه وشركائه لمقترحه بتأجيل تسوية ملف الاصلاح المؤسساتي وازمة ضواحي بروكسل المتنازع عليها بين الفلامنكيين والفرانكفونيين.

ويقول ليترم عن الخلافات بين الفلامنكيين والناطقين بالفرنسية، انها خلافات «لا يمكن تجاوزها»، ويضيف: «لقد بلغنا نهاية حد ما هو ممكن في هذا البلد على المستوى الفدرالي». ويقصد ليترم بذلك أنه لا يمكن التوصل إلى الاتفاق على حلول وسط بين الطرف الناطق بالفرنسية والطرف الناطق بالفلامنكية داخل جهاز الدولة البلجيكية الدستوري الفيدرالي الحالي. وهذا التصريح يبين حدة الأزمة العميقة التي تتخبط فيها بلجيكا. وقد وعدت كل الأحزاب الفلامنكية مؤيديها في العام 2007 بالعمل على تحقيق إصلاحات دستورية في البلاد حتى يحصل الفلامنكيون على مزيد من الصلاحيات. إلا انه أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة التي استغرقت تسعة أشهر، سرعان ما اتضح أن الأحزاب الناطقة بالفرنسية لا ترغب بتاتا في مثل تلك الإصلاحات. وترغب والونيا في ان تتركز السلطة وشؤون الموازنة العامة والمالية في أيدي الحكومة الفيدرالية لأن إقليمهم والونيا سيواجه مشاكل إذا استقل الفلامنكيون بشؤونهم المالية. ويتوجس الوالونيون أيضا من تفكك الدولة البلجيكية بتخويل المزيد من الصلاحيات للأقاليم لتبقى الحكومة الفيدرالية هيكلا فارغا. وفور الاعلان عن الاستقالة، اتجهت الانظار الى القصر الملكي ببروكسل واتجه رجال الاعلام ايضا صوب القصر. وخلال وجودهم أمام بوابة المدخل الرئيسي للقصر، لم يتمكنوا الا من ملاحظة التحضيرات والاستعدادات للاحتفال الرسمي بالعيد الوطني يوم الاثنين المقبل، ومنها المنصة الرئيسية امام باب القصر. وراحوا يتساءلون عن من سيجلس في المنصة الرئيسية الى جانب الملك ومن سيوجه الدعوات للشخصيات الكبيرة سواء من داخل بلجيكا أو خارجها؟ ومن سيكون في استقبال هؤلاء؟ في الحديقة العامة امام القصر، يتنزه عدد كبير من المواطنين البلجيكيين والسياح. ناتاشا، وهي شابة في العشرينات من عمرها، هي من المنطقة الفرانكفونية، تقول وهي تتحدث عن الازمة في بلادها: «بعد مرور كل هذا الوقت لم نصل الى حلول ترضي الجميع وبدأت اسئلة كثيرة تطرح نفسها. الى متى يمكن ان يستمر الوضع الحالي؟ فانا فرانكفونية وصديقي فلامنكي ونجد من المؤسف ان تصل الامور الى هذه المرحلة من الانقسام. انا شخصيا اتمنى بقاء بلجيكا موحدة ولكن اذا كان لا بد من الانقسام فانا اشعر بالاسف لما سيترتب على ذلك».

روبير الموند، وهو مواطن بلجيكي من الجزء الفلامنكي، يقول: «الحالة صعبة ولكن من الافضل ان تظل بلجيكا موحدة. لقد سبق ان ساعدنا الفرانكفونيين، وهم ايضا سبق لهم ان ساعدونا، واتمنى ان نظل دولة واحدة. اتمنى ان تنجح المشاورات الحالية في ايجاد حل للازمة».

ويقول دانييل دوكارم، عضو البرلمان البلجيكي من حزب حركة الاصلاح الليبرالي الفرانكفوني، ان ما تعيشه بلجيكا اليوم «هو بداية النهاية لبلجيكا التي عرفناها في الماضي». ويضيف: «علينا الان ان نضع على طاولة التفاوض فكرة بلجيكا مغايرة والتي تضم كل الطوائف. انا من مؤيدي الحوار بين الطائفتين الكبيرتين الفرانكفونيين والفلامنكيين لايجاد حل سياسي تعايشي». وترد فضيلة لعنان وزيرة الثقافة في حكومة بروكسل من الحزب الاشتراكي، قائلة: «وصلنا الى مرحلة حرجه ووضع سياسي صعب يشكل منعطفا كبيرا ستكون له اتعكاساته السلبية على المواطنين. وكان الحزب الاشتراكي قد وافق على المشاركة في الائتلاف الحكومي بشرط التركيز على القضايا الاجتماعية وغيرها. وصلنا مع الاحزاب الاخرى الى اتفاق بشأنها ولكن الاستقالة ستحول دون تنفيذ تلك الاتفاقات... الان في الحقيقة الوضع صعب جدا».

مظاهر عدم التفاهم تركزت في الأسابيع الماضية حول تقسيم الدائرة الانتخابية في بروكسل. فبالنسبة للناطقين بالفرنسية القاطنين ببلديات فلامنكية محيطة ببروكسل، تقسيم هذه الدائرة الانتخابية يعني أنه لن يكون بوسعهم التصويت لصالح حزب والوني. ويرى الفلامنكيون أنه على الناطقين بالفرنسية الذين يأتون للعيش في المنطقة الفلامنكية، أن يندمجوا وأن يتعلموا اللغة ويشاركوا في الحياة السياسية الفلامنكية. وينص الدستور البلجيكي على انه لا يمكن للغالبية الفلامنكية (6 ملايين) أن تفرض إرادتها بشكل أحادي على الأقلية الوالونية (4 ملايين)، مما يعطي الوالونيين حق الفيتو في المسائل الرئيسية وقد استخدموه في الأشهر الماضية. لكن رفض الفلامنكيين لهذا المبدأ يتصاعد، لأنه يعني في الواقع أن تفرض الأقلية إرادتها على غالبية الفلامنكيين. ويتشاور الملك ألبرت الثاني الآن حول عواقب استقالة ليتيرم. قد ينظم انتخابات جديدة بالرغم من أن غالبية الأحزاب لا تؤيد هذا المنحى لأنها لن تحل الأزمة السياسية وستواصل الأطراف المتشابكة اشتباكها داخل وقت وجيز. إلى جانب هذا، فستنظم العام المقبل انتخابات برلمانية محلية في كل الأحوال. من المحتمل أن يقرر الملك تشكيل حكومة تسيير أعمال، تنكب على السياسة الاجتماعية الاقتصادية قد يترأس ليترم هذه الحكومة وقد يترأسها شخص آخر. قبل عام قال ليترم: «خمس دقائق فقط من الشجاعة السياسية تكفي لحل معضلة تقسيم هذه الدائرة الانتخابية المعقدة». بعد ثلاثة عشر شهرا، اتضح جليا أن الحل يحتاج لما هو اكثر من الشجاعة السياسية، وان تنفيذ إصلاح سياسي جذري يحتاج أيضا دعما كاملا من والونيا. لقد مارست الأحزاب الفلامنكية في الشهور الماضية ضغطا كبيرا على الأحزاب الوالونية، إلا أن هذا الأمر لم يجد. وإجراءات أحادية الجانب مثل إعلان استقلال الفلاندرز في قلب الاتحاد الأوروبي، لن تكون واقعية بل إنها مستحيلة. الإشارة الايجابية الوحيدة هنا هي أن الأحزاب الناطقة بالفرنسية، لا تكتفي بـ «لا» للتعديلات الدستورية، بل تبدي أيضا رغبة واستعدادا للتفاوض. واكتشف الفلامنكيون أنهم على الرغم من الوعود التي قدموها للناخب، لا يستطيعون فرض هذه الإصلاحات. قد يستغرق الأمر شهورا وربما أعواما قبل التوصل لحل حقيقي، وفي هذا الوقت تعيش بلجيكا بالانتظار وسط مخاوف التقسيم.