واشنطن.. العاصمة المتجددة

شهدت خططاً كثيرة لتطويرها.. ويمنع تشييد ناطحات سحاب فيها

أعمال ترميم تحيط بالبيت الابيض في صورة التقطت في العام الماضي («نيويورك تايمز»)
TT

صادف يوم الاربعاء الماضي الذكرى السنوية لتأسيس العاصمة الاميركية واشنطن (16-7-1790). وقبل ذلك بأسبوع، كشفت لجنة تخطيط العاصمة الوطنية (ان سي بي سي)، ولجنة الفنون الجميلة (سي اف ايه)، وهما لجنتان حكوميتان، عن خطة لإعادة تصميم واشنطن العاصمة بالتركيز على تاريخها. وكان الكونغرس، قبل سنتين، قد كلف اللجنتين دراسة مستقبل العاصمة، وذلك في قرار اسمه: «دور ازدواجي: عاصمة ومدينة». وفي هذا اشارة الى ان واشنطن، عبر تاريخها لعبت دورين: الاول، عاصمة البلاد، ومركز اهتمام الاميركيين، ثم في وقت لاحق عاصمة للعالم ومركز اهتمام الدبلوماسيين والسياسيين ورجال الاعمال والسياح. والثاني، انها مدينة مثل غيرها من المدن، وسكانها مثل غيرهم من السكان، يريدون خدمات تسهل حياتهم من مواصلات وسكن وتعليم وترفيه. وركزت اقتراحات اللجنتين الحكوميتين على منطقة «المول»، وهو الميدان الرئيسي الذي يمتد من مبنى الكونغرس في الشرق الى تمثال الرئيس لنكولن التذكاري في الغرب. ويطل عليه البيت الابيض، ومجموعة متاحف سموثونيان، وكل الوزارات، ما عدا وزارة الدفاع (البنتاغون) التي تقع عبر نهر «بوتوماك» في ولاية فرجينيا. وفي منتصف «المول» يرتفع الى السماء تمثال جورج واشنطن التذكاري. وهناك تماثيل تذكارية لرؤساء آخرين، مثل: توماس جيفرسون، وفرانكلين روزفلت. و«المول» هو مركز واشنطن الرسمي والشعبي والترفيهي والسياحي. لهذا اقترحت اللجنتان توسيع منطقة «المول»، ليس فقط لتشجيع السياحة، ولكن اهم من ذلك، للتركيز على تاريخ المدينة، والذي هو تاريخ اميركا. وتهدف الخطة الجديدة الى دمج التاريخ والجغرافيا. ففي جانب، ربط منطقة التماثيل والمباني التاريخية بالحدائق والميادين المطلة على نهر «بوتوماك»، وفي الجانب الآخر، ربط هذه المناطق التاريخية بالمناطق السكنية في المدينة. لكن هذه الخطة انتقدت لأكثر من سبب. فهي اولا تريد هدم مباني وزارات مثل وزارة الطاقة ووزارة المواصلات، ومبنى مكتب التحقيقات الفيدرالية (اف بي آي). وثانيا، ستكلف كثيرا، ربما 100 مليار دولار، في وقت تواجه فيه اميركا مشاكل اقتصادية كثيرة. وثالثا، تهتم بسكان واشنطن الاغنى والاقرب الى قلب المدينة (واغلبيتهم بيضاء) اكثر من السكان الابعد والاكثر فقرا (وأغلبيتهم سود ولاتين هاجروا من المكسيك وغيرها من الدول التي تتكلم اللغة الاسبانية). إلا ان هذه الخطة، ليست الاولى لاعادة تصميم واشنطن. فمن وقت لآخر يعاد تصميم شوارع او مناطق معينة، مثل «تصميم روزفلت» عام 1945 الذي نقل وزارة الدفاع الى مبنى البنتاغون الحالي، وبناء وزارات بالقرب من البيت الابيض. ومثل «تصميم كنيدي» عام 1961 الذي دمر مبانيَّ قديمة في شارع بنسلفانيا في المنطقة بين مبنى الكونغرس والبيت الابيض، ومبان جديدة، منها مبنى الـ«اف بي آي». ومن الامثلة أيضا، «تصميم السناتور مويناهان» عام 1985 الذي بنى مجمعا حكوميا سميَّ في وقت لاحق «مبنى ريغان»، جمع فيه وزارت ومصالح حكومية كانت مبعثرة في مناطق اخرى في واشنطن، وفي خارج واشنطن. غير ان الخطة الاهم من بين كل تلك الخطط، «خطة لافانت» الذي بنى المدينة في عهد الرئيس الاول جورج واشنطن. ولم يكن اسم واشنطن هو واشنطن، بل كانت العاصمة تسمى بـ«ديستريكت اوف كولومبيا» (مدينة كولومبيا). وكانت «كولومبيا» رمزا لرجل وفتاة: الرجل هو كرستوفر كولومبس، الايطالي الذي اكتشف اميركا باسم ملك اسبانيا عام 1492. والفتاة خيالية، اسمها «كولومبيا»، وتمثل اميركا وتقدمها الحضاري وفكرها وروحها. صورتها لوحات فنية كثيرة: شقراء طويلة، فستانها من العلم الاميركي، وترفع علما اميركيا بيد، ونسرا بيد. وفضل الاميركيون «كولومبيا» الفتاة على المكتشف الايطالي كولومبوس، لان اغلبية المهاجرين الاوائل جاءوا من بريطانيا والمانيا (بروتستانت)، لا من ايطاليا واسبانيا (كاثوليك). بل كان الاميركيون ينظرون في استعلاء الى كل ما هو كاثوليكي، وخاصة الايطاليين، حتى بابا الفاتيكان. لذا، عندما عين الرئيس الاميركي الاول جورج واشنطن لجنة لاختيار عاصمة جديدة، (كانت فيلادلفيا عاصمة مؤقتة)، قررت اللجنة ان تكون العاصمة في الوسط، بين ولايات الجنوب وولايات الشمال. ولاحظت اللجنة تلك ان ولاية فرجينيا الجنوبية تلاصق ولاية ماريلاند الشمالية على طول نهر «بوتوماك». واختارت منطقة مربعة على نهر «بوتوماك»، قطعتها من ولاية ماريلاند، وسمتها «كولومبيا». فضل أعضاء اللجنة البنت التي في خيالهم على كولومبس. والنظر الى المستقبل على النظر الى الماضي. لكن، في وقت لاحق، اعطوا كولومبس حقه، وداخل كولومبيا صمموا ميدانا باسمه، ووضعوا تمثالا له، لا يزال قائما حتى اليوم. وقبل وفاة الرئيس واشنطن، سمى الكونغرس العاصمة التي تقع داخل مقاطعة كولومبيا، على اسمه. وبعد 100 عاما تقريبا، دمج الكونغرس العاصمة بالمقاطعة، وصارت واحدة، ووضعها تحت ادارته المباشرة، لكنه احتفط باسم المقاطعة لان مدنا اميركية كثيرة كان اسمها واشنطن. ولم ينس الكونغرس «كولومبيا»، الفتاة الخيالية. وضع صورة لها في شعار المدينة الى جوار صورة الرئيس واشنطن. الا ان تفسيرات أخرى قالت ان الفتاة هي رمز العدل. ولا يذكر تصميم واشنطن، الا ويذكر بيير لافانت الذي اختاره الرئيس واشنطن، بعد سنة من تأسيس المدينة، لوضع تصميم لها. كان لافانت مهندسا فرنسيا هاجر الى اميركا قبل استقلالها، وعمل ضابطا في فرقة فرنسية تحالفت مع الاميركيين في «الحرب الثورية» ضد الاستعمار البريطاني، نكاية، بسبب الصراع التاريخي بين فرنسا وبريطانيا. اليوم يمشي زائر «فريدوم بلازا» (ميدان الحرية) في شارع بنسلفانيا، بقدميه فوق تصميم المهندس لافانت لمدينة واشنطن. وذلك لأن التصميم بنيَّ بالاسمنت والخرسانة ليمشي عليه الناس، ويدرسونه، وفيه اسماء شوارع واشنطن لا تزال حتى اليوم. واليوم يقرأ الذي يزور دار الوثائق الوطنية، القريبة من «فريدوم بلازا»، وثيقة الدستور الاميركي الاصلية. وتدعو المادة الاولى فيها الى بناء عاصمة وطنية للبلاد تكون مقرا للسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويشاهد زائر مكتبة الكونغرس التي تقع على مقربة من «فريدوم بلازا» ايضا، الورقة التي رسم عليها المهندس لافانت خريطة المدينة. وبالقرب من الخريطة سيرة حياته. بدأ حياته في اميركا متحمسا لها، وانتهى غاضبا عليها. وذلك لأنه اختلف مع مهندسين اميركيين، اتهموه بـ«التعالي الفرنسي»، وفصل من وظيفته، وتوفيَّ فقيراً. ودفنوه، عكس وصيته، بعيداً عن المدينة التي رسم خريطتها. لكن، بعد 100 عام، أعاد الاميركيون الاعتبار له، ونقلوا جثمانه الى مقابر آرلينغتون التذكارية، والتي كان وضعها في خريطته.

لكن المهندس لافانت لم يصمم معالم بارزة في المدينة تأسست في وقت لاحق، مثل البنك الدولي وصندوق النقد العالمي ومنظمة الدول الاميركية وبنك التصدير والتوريد الاميركي والغرفة التجارية ورئاسة اتحاد نقابات العمال (بالقرب منها) وسفارات 170 دولة. ولم يكن المهندس لافانت يعرف ان الفن المعماري سيتطور، وأنه سيؤدي الى تشييد أبنية يزيد ارتفاعها على 100 طابق. في عام 1894، عندما بنيت عمارة ارتفاعها 13 طابقا، اصدر الكونغرس قرارا بألا تبنى عمارة اعلى من ذلك في المستقبل، حتى لا تكون اعلى من مبنى الكونغرس وحتى تظل واشنطن «عاصمة وطنية» (لا عاصمة تجارية، مثل نيويورك، تكثر فيها ناطحات السحاب)، وحتى تصير «باريس اميركية»، كما قال الرئيس الرابع توماس جيفرسون الذي كان سفيرا لفرنسا قبل ان يصل الى البيت الابيض. لذا، وحتى اليوم، لا توجد أبنية فارعة الارتفاع في واشنطن. وكان اسم العمارة التي بنيت سنة 1894 «القاهرة»، وذلك لتصميمها العربي. كانت ارقى فندق في واشنطن، وجرى الآن تحويلها وأصبحت تتضمن شققا سكنية، وتقع في نفس الشارع السادس عشر الذي يقع عليه البيت الابيض، ولكن بعيدا منه. ولكن مهندس واشنطن، لافانت، لم يكن يعرف ان اكثر من نصف سكان العاصمة سيكونون من السود، وانهم سيتمردون عام 1968، ويحرقون جزءا كبيرا من قلب المدينة. وفي العام الماضي، كان عدد السكان يبلغ نصف مليون شخص تقريباً. ولكن قبل 50 عاما، كان يبلغ عددهم نحو مليون شخص، مما اعتبر رقما قياسيا. ثم بدأ نزوح السود من ولايات الجنوب، وبعدها بدأت «هوايت فلايت» (هجرة البيض الى الضواحي، تاركين المدينة لهم). وهكذا، سكن السود في احياء مجاورة لمبنى الكونغرس، وفي قلب المدينة. وبعد حرائق عام 1968 التي نشبت عندما غضب السود بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ، زعيم حركة الحقوق المدنية، بقي نصف المدينة تقريبا مهجورا او شبه مهجور، حتى جاء الرئيس رونالد ريغان وامر بإزالة الكثير من المباني البائسة والمحروقة، وبناء عمارات سكنية ومكتبية حديثة مكانها. ولأن ريغان كان من الجناح اليميني للحزب الجمهوري، اتهمه بعض السود بأنه عنصري، وانه يريد طردهم من المدينة. لكن في الحقيقة، كانت واشنطن قبيحة قبل ريغان. وكانت منازل الدعارة ودور السينما الفاضحة ومسارح الرقص العالي تقع على مسافة شارع او شارعين من البيت الابيض. واتهم الرئيس ريغان بالعنصرية لسبب آخر، عندما شجع برنامج «جنتريفيكيشن» الذي كان يهدف الى تحسين المناطق التي يسكن فيه السود والطبقة الفقيرة عبر شراء منازلهم وتحسينها وبيعها الى بيض ينتمون الى الطبقة الوسطى. لكن صار واضحا ان هذا مشروع اقتصادي، اغرى البيض الذين يريدون العودة ليكونوا قريبا من اماكن عملهم، بدلا من السكن في الضواحي البعيدة.

واليوم، يشاهد الذي يزور احياء «شو» و«لوغان» و«يو ستريت» عددا كبيرا من الشباب والأزواج البيض، يشربون قهوة في «ستاربك»، ويشاهدون تمثيليات في مسرح «لنكولن»، ويشترون المأكولات والمشروبات من «فريش فيلد». لكن مع ظهور جيل جديد من السود، من خريجي الجامعات والاكثر انفتاحا من آبائهم وأجدادهم الذين كانوا رقيقا، صار هؤلاء يرتادون الاماكن الحديثة. كل هذه التحسينات، تحدث في الاحياء الغربية لواشنطن، لا الاحياء الشرقية حيث لا تزال اغلبية السكان من السود الفقراء. ولذا، انتقد مشروع اعادة تصميم واشنطن الذي اعلن في الاسبوع الماضي لانه تجاهل هذه المنطقة. تجاهل منطقة «ساوث ايست» (الجنوب الشرقي)، مركز الجرائم والمخدرات والتسول والفاقة والفقر. وقبل 20 عاما تقريبا، سميت واشنطن «عاصمة الجريمة» في الولايات المتحدة، اذ كانت تشهد جرائم قتل بمعدل قتيلين يومياً، وخاصة «ساوث ايست». لكن الوضع تحسن خلال السنوات القليلة الماضية، وانخفضت نسبة القتلى بمعدل واحد كل يومين. غير ان افتاء المحكمة العليا قبل شهر، بأن قانون منع امتلاك الاسلحة في واشنطن يخالف حرية حمل السلاح التي يضمنها الدستور، من المتوقع ان تزيد من نسبة الجرائم. لكن يبدو ان الملاعب الرياضية الجديدة في واشنطن لن تكون فقط معالم جديدة بالمدينة، ولكن ايضا وسيلة للقضاء على مناطق الفقر. ففي السنة الماضية، بني ملعب «ناشونال» لكرة البيسبول في منطقة «ساوث ايست». وهناك خطة لبناء ملعب لكرة القدم، وآخر لرياضة الغولف. وقبل ثماني سنوات، اثبت بناء ملعب كرة السلة الداخلي (فورايزون)، في قلب المدينة، في المناطق التي كانت قد أحرقت، ان الملاعب تجلب المطاعم والمقاهي الحديثة، وان هذه ترفع من مستوى الحياة بالمنطقة. واليوم، يشاهد الذي يزور «فورايزون» حياة عصرية بمنطقة كانت فيها، قبل 20 سنة، منازل دعارة، ومسارح «ستريبتيز».

واعادت هذه المظاهر الحديثة الحياة الى متاحف تاريخية كانت شبه معزولة لخمسين عاما بسبب موقعها في مناطق جريمة ومخدرات. حتى في منتصف النهار، لم يكن الناس يقدرون على زيارتها، ناهيك من بعد غروب الشمس. عادت الحياة الى متحف الفنون الاميركية، ومتحف اللوحات المرسومة. وبنيت متاحف جديدة، مثل متحفي التجسس والجريمة.

وأخيراً، ربما بسبب المشاكل الاقتصادية التي تواجهها اميركا، لن يكن سهلا صرف 100 مليار دولار على خطة اعادة تصميم واشنطن. لكن ستظل واشنطن تتطور سنة بعد سنة، وحياً بعد حيٍّ. ملعب قرب متحف فنون، وتمثال تذكاري قرب حديقة عامة، وسفارة اجنبية بجنب وزارة ـ خليط من التاريخ والجغرافيا والفن والسياسة والجمال. ومثلما تقول اغنية «واشنطن» التي يغنيها جيمي نيومان: «جاء ابريل وتفتحت زهور اشجار الكريز. وحمل النسيم عطرها الى غرفتي في الفندق. وسرت على شارع بنسلفانيا. حرا، وفخورا. أمامي الكونغرس، وخلفى فينوس. لقد وقعت في غرام واشنطن. اريد ان اعود الى واشنطن. من فضلك، خذني الى حبيبتي واشنطن...».