الحياة بلا عمل

البطالة في العالم العربي تجاوزت 66% في بعض الحالات.. والمتعطلون يدفعون الثمن.. وكذلك المجتمعات العربية

رجال وشبان من العاطلين عن العمل يدخنون النارجيلة في أحد مقاهي القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن محمود عبد الله علي، وشريف عبد العزيز، وعمر الحلو، الجالسون أغلب الوقت في مركز شباب حي حدائق القبة، القريب من وسط القاهرة، يعلمون أنهم سيجلسون في المنزل بلا عمل، بعد سنوات طويلة من الدراسة في مراحل التعليم المختلفة، انتهت بحصولهم على مؤهلات علمية متميزة من كليات التجارة، والتربية، والخدمة الاجتماعية، وأن مركز شباب الحي سيكون المأوى لهم الذي يختفي فيه كل منهم عن أنظار عائلته طوال النهار، حتى لا يواجهوا الحقيقة المرة (أنهم عالة على عائلاتهم) بعدما أنفقت تلك العائلات كل غال وثمين حتى يتعلموا.. إنهم يخجلون من أنفسهم.. يتوارون عن عائلاتهم ولا يعودون إلى المنزل إلا في الليل.. ولكن خلال النهار.. بالكاد يوفرون ثمن صحيفة كبيرة تنشر إعلانات الوظائف ويتشاركون في توفير قيمة الاتصالات بهواتف الجهات المعلنة عن فرص عمل، ولكنهم في النهاية يفشلون في التوصل إلى فرصة عمل.. إنها البطالة.

فمحمود، 28 سنة، الحاصل على بكالوريوس تجارة من جامعة عين شمس عام 2002، يقول «إنه يحصل يومياً بالكاد على جنيهات قليلة من والدته حتى يوفر قيمة كوب شاي وجريدة محلية للبحث عن فرصة عمل من خلال إعلاناتها، وحتى يتمكن من إجراء اتصال بالجهات طالبة العمل، لكنه في الغالب يفشل، إما لأن طبيعة العمل غير ممكنة، كمندوبي المبيعات الذين يمرون على المقاهي والتجمعات لعرض بضاعتهم، أو غير مقبولة مثل الوقوف في محطة بنزين لتقديم عروض «التيم شير» على الزبائن.. محمود لا يريد أن يكمل حديثه معنا ويتحدث بسخرية شديدة قائلاً: «إن الجنيهات التي أحصل عليها من والدتي لا يعلم بها والدي، ليس لأنه يرفض لكني أنبه والدتي لذلك خجلا منه»، ويسألني: هل تستطيع أن تواجه أنت هذا الموقف؟ لكني استوقفته قبل أن يتركنا وسألته ولماذا لا تعمل مندوب مبيعات؟ وهل ذلك عيب؟ لكنه لاحقني بالرد وكأنه يعرف السؤال مسبقاً: لا ليس عيباً لكني كنت أدور طوال اليوم ولا أحصل على أي عائد، حيث أن دخل مندوب المبيعات يتوقف على قدرته على البيع، والبيع ليس مكانه المقاهي ولا محطات البنزين.. إن الزبائن في هذه الأماكن ربما يتعاملون معنا وكأننا نصابون.. نريد أن نبيعهم أشياء فاسدة.

شريف الحاصل على بكالوريوس خدمة اجتماعية، وعمر (ليسانس حقوق)، نظرا إلينا مؤكدين كلام محمود، لكنهما كانا أقل حدة منه، وقالا «هذا هو واقعنا، نريد أن يشعر والدنا أن تعبه معنا لم يذهب هدرا أو على الأقل نخفف عنه عبء مسؤوليتنا.. نحن نعيش الإحباط والانكسار.. لا مخرج لنا سوى العمل، لكن لا عمل لنا، تجارب عديدة تماثل تجربة محمود.

محمد (بكالوريوس علوم قسم كيمياء)، وأنور (ليسانس آداب)، وأسماء (بكالوريوس تجارة)، كانوا أوفر حظاً من (محمود وشريف وعمر)، حيث يواجهون غول البطالة مثلهم، لكنهم قاموا بما يشبه «عملية انتحارية» كي يتخلصوا منها ومازالوا يعانون من تبعات «عمليتهم الانتحارية»، لكنهم على أي حال بدأوا طريق الخلاص، لقد ذهبوا في النهاية بصحبة عائلاتهم الى البنوك وصندوق التنمية الاجتماعية بحثاً عن قرض يبدأون به مشروعاً يعتاشون منه في مواجهة البطالة التي حلت عليهم، إذ لم يجد أي منهم فرصة عمل لائقة تناسب مؤهلاته العلمية، كل واحد منهم اصطحب ولي أمره إلى البنك كي يحصل على قرض لا يتجاوز 5 آلاف جنيه ليصبح المجموع 15 ألف جنيه مصري، يفتحون به محلا عبارة عن عربة متنقلة لبيع سندويتشات خفيفة على ناصية أحد الشوارع في حي حدائق القبة.. محمد وأنور يعدون السندويتشات بسرعة وفي خفة ورشاقة ويقدمانها للزبائن.. بينما أسماء تتوارى بعيداً بعض الشيء لمحاسبة الزبائن، الاتصال بالمخبز، وبموزعي المواد الغذائية لتوفير المواد المطلوبة لعمل السندويتشات مثل الكبد والمشهيات.. هذا هو مصير ثلاثة من خريجي الجامعة في مصر.. إنها البطالة، وهم يقاومونها.

محمد يرى «أن المحزن أن والده الموظف، المتوسط الحال اضطر للتوقيع على شيكات للبنك بضمان راتبه الشهري كي يساعدني وكذلك فعل أولياء أمور زملائي في هذا المشروع البسيط (عربة كبدة لبيع السندويتشات).

أنور كان أكثر تأثراً حين قال «لم يكن ممكناً أن أطلب مصاريف من والدي كي أنفق على نفسي، بعد أن آل حالي الى الجلوس في المنزل.. لقد أنفق والدي عليّ أموالا كثيرة على مدى سنوات طويلة في مراحل التعليم المختلفة.. كنت آمل أن أساعده في تحمل جزء من مصاريف العائلة، لكن هذا كان مستحيلاً.. كنت أخرج أهيم في الشوارع .. تارة للبحث عن عمل.. وتارة أخرى بلا هدف.. الوضع كان غير مقبول على الإطلاق.. أشقائي ما زالوا صغارا ويحتاجون كل مليم من دخل والدي، كنت اشعر بأني سأموت إذا لم احصل على عمل، لكني لم أمت ولم أحصل على عمل.. إنها المعادلة الصعبة التي يستحيل أن تكون في وضعها الصحيح.. حياة بلا عمل.. إلى أن جمعني لقاء بالصدفة مع جارتي أسماء ومع رفيق الصبا محمد. كنا نعاني الأمرين.. فنحن نواجه نفس المشكلة، هي تدور طوال اليوم على المحلات بحثاً عن عمل وأنا كذلك ومحمد.. لكننا قررنا فجأة أن نذهب إلى مقهى قريب من جامعة عين شمس، الجامعة التي درسنا فيها، لا أعرف لماذا ذهبنا إلى هناك، لكننا في كل الأحوال ذهبنا وجلسنا نفكر في أمورنا ولمعت الفكرة الخافتة التي سبق أن عرضها أنور علينا.. مشروع لبيع سندويتشات الكبد والجبن ولننسى ما درسناه .. نريد أن نعيش.. ذهبنا إلى البنك بحثاً عن تمويل، لكن المسؤولين هناك فاجأونا بأنه من الممكن أن نحصل من خلال اولياء امورنا على مبلغ 2000 جنيه فقط وبشرط أن يتم تحويل مرتب الوالد إلى البنك كضمان للقرض، ولكن بعد محاولات، ووساطات، استطعنا رفع قيمة القرض إلى 5 آلاف جنيه، لكل منا، أو بمعنى أدق لوالد كل واحد منا، حتى جمعنا المبلغ وبدأنا المشروع الصغير الذي تراه، حولنا ثلاث مدارس وبعض اماكن العمل، مما يوفر لنا عددا معقولا من الزبائن.. يقلون خلال الصيف لكننا نراهن خلال هذه الأشهر على الشباب الذين يسهرون الليل ويعودون إلى منازلهم جائعين فيمرون علينا للحصول على بعض السندويتشات.

كم من مثل (محمد وأنور وأسماء) آخرين في مصر والعالم العربي لا يجدون عملا؟.. العالم العربي.. إنها البطالة.. منظمة العمل العربية وضعت يدها على الجرح.. جرح العاطلين في العالم العربي.. لقد مدت مبضعها داخل الجرح فماذا وجدت؟

المنظمة قالت في تقرير لها أصدرته قبل أيام: «إن معدلات البطالة في العالم العربي هي الأعلى بين مناطق العالم المختلفة، ليس ذلك فحسب إنها الأسوأ أيضاً، لكن ماذا تعني كلمة الأسوأ في العالم.. وفقاً للتقرير فإنها تعني أن البطالة تتركز بشكل أساسي بين المتعلمين.

وقدر التقرير أعداد الداخلين على سوق العمل في الدول العربية كل سنة بنحو 4 ملايين عامل. ويذكر التقرير أن معدل البطالة في الدول العربية تخطى حاجز الـ14 في المائة، ويصل إلى 25 في المائة بين الشباب، وترتفع في بعض البلدان إلى 66 في المائة. ويوضح التقرير «أن البطالة بين الأميين هي الأدنى في غالبية البلدان العربية، وترتفع هذه المعدلات لدى ذوي التعليم الثانوي والمتوسط والجامعي، لتبلغ عشرة أضعاف في مصر، وخمسة أضعاف في المغرب، وثلاثة أضعاف في الجزائر، مما يعني أن غير المتعلمين أكثر حظا في الشغل من المتعلمين في البلدان العربية. وأرجع التقرير تباين معدلات البطالة بين الأميين والمتعلمين، إلى تدني التوافق والمواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل من جهة، ونقص الخدمات الداعمة للتشغيل من جهة أخرى».

ووفقاً للتقرير أيضاً تتباين معدلات البطالة في الدول العربية في قارة أفريقيا، حيث بلغت 16.1%، مقابل 13.8% في الدول العربية بقارة آسيا، كما أظهرت معدلات البطالة تبايناً ملحوظاً بين الدول تراوحت قسمته ما بين 1.7% في دولة الكويت، و50% في جيبوتي.

وأظهر المعدل تدني معدلات البطالة في كافة الدول العربية الخليجية وتراوحت بين 1.7% في الكويت و7.5% في سلطنة عمان، في حين يسجل معدل البطالة في ليبيا 10%، ومصر 10.7%، و14.2% في تونس، وفي العراق 29%.

الدكتور نادر الفرجاني أستاذ الاقتصاد، خبير التنمية البشرية يرى أن هذه الأرقام التي سجلها تقرير منظمة العمل العربية حول معدلات البطالة في الوطن العربي، تؤكد عجز الاقتصاديات العربية عن التعامل مع مجتمعاتها وفق آليات تسمح بتوفير فرص العمل ولو بشكل جزئي، ذلك أن أغلب تلك الاقتصاديات تعتمد على المشروعات الخدمية وتحصيل ريعها، وليس تقديم إنتاج، يحتاج إلى أيدي عاملة تنتجه، ثم يتم تسويقه عن طريق موزعين، وتجار يقومون بتشغيل نوع ثالث من الأيدي العاملة لديهم، وهكذا دورة عمل كاملة، وكل دورة تحتاج إلى عاملين، بعكس الاقتصاد الخدمي الذي يقوم على استهلاك منتجات الآخرين، أي بيع منتجات الآخرين من خلال عدد محدود من العمال.

كما يحذر خبير القوى العاملة الدكتور‏ مكاري سرور‏ من خطورة وصول معدلات البطالة إلى حدود تتجاوز في تأثيرها الجانب الاقتصادي، وتمتد إلى جوانب اجتماعية وأمنية، داعياً إلى ضرورة الربط بين سياسة التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل في مصر والعالم العربي كما وكيفا‏، وشدد على ضرورة إعادة النظر في نظام القبول في الجامعات والمعاهد العليا والمعاهد فوق المتوسطة والمدارس فوق المتوسطة والمدارس المتوسطة بأنواعها المختلفة لتصحيح مسار تدفق الطلاب وتوجيههم للمجالات التي تعاني عجزا في سوق العمل والحد من الأعداد في المجالات التي بها فائض‏.‏ وعلى الرغم من تباين آراء الخبراء والمهتمين والمختصين في المجال الاقتصادي حول قضية البطالة، إلا أنهم اتفقوا على أن العمل على بناء القدرات ورفع المهارات، بإعادة صياغة المناهج التعليمية وربطها بأسواق العمل، واتباع أساليب التخطيط العلمي، والتوسع في برامج التدريب التنموي، وتوفير تسهيلات ائتمانية للانخراط في المشاريع الصغيرة، وتفعيل دور القطاع الخاص لخلق فرص عمل لمخرجات التعليم، ودعم مؤسسات الضمان الاجتماعي لامتصاص فائض العمالة الناتجة عن إعادة الهيكلة، هذه كلها افكار قابلة للتطبيق، وقد طبقت من قبل في بلدان اخرى. لكن حتى تنفذ فإن الملايين من الشباب العربي يدفع الثمن.. وكذلك المجتمعات العربية.