لبنان و«شفير» الانتظار

لبنانيون ولبنانيات ينتظرون أقاربهم «المفقودين» في سورية.. لإغلاق ملفات «علقت» عن عمد

لبنانيون يرفعون صور أبنائهم الذين فقدوا خلال الحرب الأهلية وبعضهم معتقل في السجون السورية (رويترز)
TT

توجهت ربيعة زوجة المفقود اللبناني في السجون السورية طوني رياشي الى وزير الخارجية السوري وليد المعلّم الذي زار لبنان قبل ايام، بالقول: «سيدي الوزير ما كان من داع للقول انه كان بإمكانك جلب اهال سوريين فقدوا في لبنان ليتظاهروا، فنحن اصلا نتعاطف معهم. كما انه ما من ضرورة لذهابنا الى سورية ما دام انك افتتحت علاقات رسمية طبيعية بين الدولتين. والا ما نفع الزيارة؟».

وبغصة أضافت، في حديث الى «الشرق الاوسط»: «عند الافراج عن المعتقلين في اسرائيل واسترجاع الرفات، اعترف بأنني حسدت ليس ذوي الاسرى فحسب، انما ذوي الرفات لانهم على الاقل تمكنوا من معرفة مصير مفقوديهم. نحن مستعدون للمسامحة ولكن على الاقل فليكشفوا لنا الحقيقة، لانه من دونها لن تكون مصالحة حقيقية (مع سورية)».

ربيعة لاتزال كمئات اللبنانيين معلّقة على حبال الانتظار. فزوجها طوني خطف على طريق المطار مع أخيه جورج وابن عمّه منصور في 31 اغسطس (آب) 1985 حين كان يهم للسفر الى الشارقة حيث يعمل.

تقول مستجمعة عزمها: «نعلّق آمالا كبيرة على رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعد ما ورد في خطاب القسم. نشعر بأنه صادق. وكونه على علاقة جيدة بسورية، نناشده حلّ قضيتنا. لا دليل حسيا على وجود زوجي واقربائه هناك سوى شهادة ثلاثة أسرى سابقين في سورية أدلوا بإفاداتهم الى الامم المتحدة ووقعوها».

وتتطرق الى الشغب الذي أثير لدى وصول المعلّم الى طريق القصر الجمهوري قبل أيام، حيث نظّم الأهالي تجمّعا، وتقول: «كنت ضد ما حصل، ولكن للاسف كان للأمر جانب ايجابي. لان الاضواء سلّطت علينا وأقرّ (المعلّم) ضمنا، وربما بعفوية، بوجود مفقودين في السجون السورية حين قال من صبر عقودا يصبر أسابيع. آمل ان يكون هذا الكلام بادرة ايجابية لفتح علاقات جديدة مع سورية».

وفي 17 سبتمبر (ايلول) 1985، خرجت الشابة اللبنانية كريستين سالم ،19 عاما، وأخوها ريشار ،22 عاما، ولم يعودا الى منزلهما في ساقية الجنزير في بيروت. مرّ 23 عاما والوالدة أوديت تزداد حسرة واصرارا على المطالبة بعودتهما، بعدما أكّدت المعلومات الواردة اليها أن ولديها نقلا الى سورية في العام 1990 وذلك بعدما اختطفتهما أيد لبنانية. تقول أوديت لـ «الشرق الاوسط»: «زوجي توفي قبل نحو 3 اعوام من اختطافهما. واحد عمومهما الثلاثة وكان في الـ75، خطف معهما ولكن وصلت الي معلومات عن وفاته في العام نفسه. اما العمّان المتبقيان فتوفيا لاحقا. وبتّ وحيدة مشلوحة في الطريق بعدما فقدت جميع افراد عائلتي. أحاول التشبّث والاستمرار لانه لم يبق احد غيري للمطالبة بعودة كريستين وريشار. وأؤكد، والجميع يعرفون، انهما ما كانا على اي صلة أو علاقة بأي عمل أو نشاط (...). احد الذين افرج عنهم من السجون السورية، أكد لي انه رآهما هناك وقد أدلى بشهادته للجنة الدولية للصليب الاحمر والاسكوا».

وتضيف وعيناها دامعتان، تنظر الى صورة ولديها المعلّقة في عنقها كسائر المعتصمين امام مبنى «الاسكوا» في بيروت من ذوي المفقودين في السجون السورية: «اعرف من خطف ولديّ وسلّمهما الى جهات حزبية لبنانية ومنها الى سورية في 1990». وتذكر: «حين ذهبت اسأل عنهما في ثكنة فتح الله. كان احد المحازبين الاشتراكيين يكتب على علبة السجائر اسم ريشار. وسألني ساخرا ريشار (الدبلوماسي الأميركي ريتشارد) ميرفي؟ فأجبته لا، يشبهه».

ما خلّفته أعوام المعاناة التي قاستها أوديت جلية واضحة لا تحتاج الى اي سؤال. لا بل ان الاسئلة التي تنكأ الجراح وان بغير عمد، ستبدو وقحة امام امرأة جبارة كهذه المرأة.

حال اوديت ليست افضل من حال عشرات، لا بل مئات الامهات والزوجات والشقيقات اللواتي يعانين من جراء الاخفاء القسري واعتقال ذويهن. يعتصمن في خيمة منذ ثلاث سنوات وثلاثة اشهر. يتبادلن بعض الاحاديث قبل ان تنصرف كل منهن الى همّها وجرحها الذي لم يتكفل الزمن بلأمه ولا حتى بحض المسؤولين اللبنانيين والسوريين على معالجته بشكل جاد بعيدا عن المماطلة والانكار المستمر. يبدّلن صور مفقوديهن المعلّقة على ذاك اللوح الذي فعلت به الشمس والمطر فعلهما، تماما كما فعلت المعاناة بقلوبهن. امهات على «شفير» الانتظار «يتناوبن» على دخول المستشفيات. تقول احداهن وكأنها نسيت جرحها: «فقدنا احدى الامهات قبل سنة على التمام. ماتت حسرة اذ خطف صغيرها وهو في الثالثة عشرة. وأخرى باتت تعدّ ايامها بعدما اصابها السرطان في العمود الفقري. الواقع ان هذه دولة لامبالية. لقد اكتفت بوضع ملفاتنا في ادراجها المهترئة».

كثيرة هي روايات الحرب مع الاختطاف، هنا في حديقة «الاسكوا» يمكن الزائر «التقاط» مئات قصص الاحزان المعلّقة بآمال لاتزال اسيرة الوعود. والانتظار هو السيّد الذي لا يجرؤ احد على معاندته وإلا كان الاحباط نصيبه... ومخطئ من اعتقد ان دموع البعض جفت. فمجرّد استراق النظر الى الماضي بسؤال عن ظروف الاختطاف وآخر من هنا او هناك، كاف لذرف المزيد منها! والدة رشيد محمد علي النداوي الذي خطف في العام 1976 وكان في الخامسة عشرة، لاتزال كلمات ابنها ماثلة في ذهنها. وعدها لدى خروجه من المنزل في 10 ابريل (نيسان) من ذاك العام بأنه سيعود عند الثالثة بعد الظهر. ولاتزال منذ ذاك اليوم تنتظر عودته. وتقول: «جلت على كل الاحزاب اللبنانية والفلسطينية في طرابلس حيث نقطن. تفقدت كل السجون اللبنانية والفلسطينية في المخيمات والمستشفيات. بعد فترة، قال لي احد المطلعين انه نقل الى سورية. والى اليوم لاازال استيقظ كلما سمعت عجلة سيارة أو باب أوصد. اركض لأرى اذا كان قد وصل كما وعدني».

صونيا والدة المعتقل جهاد جورج عيد الذي خطف مع كثيرين من افراد الجيش في احداث 13 سبتمبر 1990، كان نصيبها «اوفر»، ذلك انها تمكنت من رؤية ابنها في سورية «معصوب العينين مقيّدا بحبال، نصف عار ككثيرين غيره ممن اقتيدوا الى التحقيق»، وذلك بعدما «استحصلتُ من احد الضباط اللبنانيين على اذن لزيارة سرية، شرط الا اكلّمه». وتقول بصوت متهدّج مسترجعة تلك اللحظة: «مرّ قربي على مسافة مترين. حاولت ان اصرخ واناديه لكنني انهرت، سقطت... واختنق صوتي». وأضافت: «كنت متأكدة من وجوده حتى العام 1996 حين أفرج عن جورج قطار الذي ادلى بإفادته امام اللجنة اللبنانية التي ترأسها النائب فؤاد السعد. وقال انه سجن مع جهاد سنة و3 اشهر».

بخلاف اوديت التي لم تحاول زيارة سورية، قامت صونيا بـ«زيارات متكررة لسورية. وفي العام 2001 شكلنا وفدا من 60 والدة. وأعلنا عزمنا على مقابلة الرئيس السوري بشار الاسد في مؤتمر صحافي. عند الحدود قالوا لنا انه ليس بامكاننا مقابلته، لكنهم سمحوا بمقابلة وزير الداخلية السوري علي محمود ورئيس السجون سيرج بوغوس. كان الاستقبال رائعا وأكد الوزير محمود لجميع الامهات انه سيحرك الملف خلال شهرين او ثلاثة كحد اقصى. لكن مرت المهلة ولم يقم بشيء، وحين طلبت موعدا رسميا بعد اربعة اشهر رُفِض طلبي».

رئيس لجنة «سوليد» المعنية بهذه القضية غازي عاد علّق على كلام المعلّم بقوله: «انه اعتراف للمرة الاولى من وزير خارجية سوري بأن هذه الممارسات عمرها 30 سنة والتزامه بضعة اسابيع نعتبره التزاما جادا وسنتابع الموضوع». وقال لـ «الشرق الاوسط»: «لدى زيارتنا الرئيس سليمان عرضنا معه آلية المعالجة وشددنا على ان تتضمن الهيئة المخوّلة معالجة الموضوع عددا من الاهالي. وقد تعهد الرئيس اثارة الموضوع في مجلس الوزراء. كما قال لنا انه سبق ان تحدث بالموضوع مع الرئيس (السوري بشار) الاسد وأكّد وجود نية لمعالجة القضية لدى الطرفين».

واشار الى ان العقدة التي تمنع الحل تكمن في ان «جريمة الاخفاء القسري، جريمة موصوفة ضد الانسانية. ولن يعترف النظام بارتكابها اذا علم أن هناك تداعيات جنائية وقضائية لهذا الاعتراف. الجميع يعلمون ان اعتقال مواطنين لبنانيين على الأراضي اللبنانية ثم نقلهم الى الأراضي السورية ينتهك القوانين اللبنانية والدولية، خاصة أن القوات السورية لم تكن تتمتع بالصلاحيات القضائية للقيام بهذه الممارسات. حقيقة هذا الملف ستظهر عندما تتبلور ارادة سياسية جدية عند الحكومتين اللبنانية والسورية». وقال: «لا يمكن أن يبقى الأهل معلقين في المجهول من دون معرفة حقيقة المصير. فهذا هو التعذيب بحد ذاته».

ولفت الى ان لا عدد محددا للمعتقلين في السجون السورية، لانه «لا شفافية في التعامل مع هذه القضية، لكن اللائحة التي نملكها تحوي 600 اسم. انما التجارب تؤكد ان العدد قد يكون أكثر وليس أقل. وهنا أعطي مثلا، في العام 1998 افرج عن 121 لبنانيا من السجون السورية. لم نكن نملك سوى أربعة أسماء من أصل كل اللائحة، أي كان هناك 117 حالة كنا نجهلها».

واوضح ان «هناك ملفات يغيب عنها الدليل المادي، لكن الأهل يعرفون تمام المعرفة الجهة المسؤولة عن التوقيف. في حالات كثيرة كان الأهل يزورون سورية لكنهم لا يملكون الدليل المادي مثل إذن الزيارة على سبيل المثال».

ولفت الى ان «هناك حالات كثيرة فيها اثباتات على وجود معتقلين في السجون السورية. وقد ذكر التقرير الصادر عن نقابة المحامين في بيروت بعضا منها مثل حالات سعيد خباز، بشارة رومية، داني منصوراتي، علي سعيد الحاج، جهاد عيد، علم الدين مهنا حسان، علي موسى عبد الله وغيرهم»، شكا من ان «القضية برمتها كانت تقابل بالتهميش وعدم المبالاة وليس فقط الاثباتات، لكنها كانت مفيدة جدا مع الأمم المتحدة وغيرها من المراجع الدولية». ولفت الى انه لايزال يؤمن «أن عددا غير قليل مازال على قيد الحياة في السجون السورية».

ماذا عن قضية الراهبين الانطونيين ألبير شرفان وسليمان ابو خليل اللذين خطفا في 13 تشرين الاول 1990؟ يقول عاد: «المعلومات التي نملكها تؤكد أنهما كانا لايزالان حيين في 14 تشرين الأول (اكتوبر) 1990 ونقلا الى البقاع في شاحنة سورية. وآخر المعلومات الواردة تؤكد مشاهدة الأب ألبير شرفان حيا في العام 2004».

من جهته، قال عضو لجنة حقوق الانسان البرلمانية النائب اللبناني غسان مخيبر لـ «الشرق الاوسط» ان «المشكلة لا تتعلّق بالآليات رغم انها لم تكن مناسبة. المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الارادة السياسية عند الطرف السوري الذي استمر في انكار وجود عدد كبير من اللبنانيين الذين تمكن ذووهم من تقديم ادلّة على وجودهم. وفي موازاة الانكار السوري، كان هناك غياب للارادة السياسية الرسمية وغير الرسمية اللبنانية بسبب وقوعها خلال مرحلة طويلة تحت الوصاية السورية وتورّط عدد كبير من هذه القوى التي امتلكت ميليشيات، بمئات لا بل بآلاف حالات الاخفاء القسري والكثير منها سلّم الى سورية». واستغرب كيف ان «الحكومة السابقة لم تحاول التحرّك باتجاه المجتمع الدولي أو رفع شكوى على سورية في هذه المسألة أو المطالبة بلجنة تحقيق دولية».

أضاف: «اليوم وبفضل اصرار الاهالي والجمعيات المدنية المعنية وتحرّك بعض الاطراف السياسية، فرض هذا الملف نفسه أولوية فأصبح موضع اجماع سياسي واسع. ويتوقع ان يدخل جديا في التزام الحكومة الحالية على مستوى جاد. يبقى التزام الحل لدى الطرف السوري. وآمل في ان تكون الزيارة المتوقعة لفخامة الرئيس سليمان لسورية فاتحة خير تنبئ بالتزام رسمي لبناني يدعو الى ان يلتقي بالتزام رسمي سوري لحل هذه القضية». وأشار الى انه «ضمن تكتل التغيير والاصلاح يسعى الى تضمين البيان الوزاري التزاما سياسيا صارما وتطوير خطة عمل كنا قد بدأنا العمل عليها في لجنة حقوق الانسان النيابية». وعن ابرز ما تنص عليه هذه الخطة، قال: «اختيار احد وزراء الدولة للاهتمام بمتابعة هذا الملف وتأليف هيئة مستقلة ذات صلاحيات واسعة في التحقيق وجلاء حقيقة اختفاء كل شخص على الاراضي اللبنانية وفي سورية ايا كان المسؤول عن الاختفاء».

وعن وثيقة التفاهم بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» التي تنص في احد بنودها على السعي لحل هذا الملف، قال: «المعلومات المتوافرة لدي ان حزب الله ولدى تحرّيه عن الموضوع، جُبِه بالنكران نفسه. لكنني اعتبر انه لم يبذل الجهد نفسه الذي بذله لاستعادة الاسرى والرفات من اسرائيل. لذلك ادعو الى تطوير ارادة سياسية جامعة على المستويين الرسمي والحزبي».

وعن سبب احتفاظ سورية بهذه «الورقة»، قال: «هذه قضية انسانية والدليل ان المفقودين والمسجونين لدى سورية ينتمون الى كل الطوائف والتيارات السياسية، لذلك لم يعد بالامكان استغلال هذا الملف للمساومة ويجب ابعاده عن السياسة. فحله عنصر اساسي لاستعادة الثقة بين لبنان وسورية».