رجل بحياتين.. ووجهين

زملاء وأصدقاء كراديتش يروون لـ «الشرق الأوسط» خبايا شخصية الرجل الذي أدخل أوروبا جحيم العصور الوسطى

TT

«كان يأتي إلينا في بيتنا ويأكل معنا طعامنا ويرافقنا في رحلاتنا كواحد منا، وكانت أمي تناديه بـ(ابني) ولم تكن تعلم أنه سيكون ألد أعداء من كانوا يعتقدون أنه صديق أو بمثابة الابن.. عندما نزلت أول قذيفة على سراييفو في أبريل (نيسان) عام 1992، وكان يوم عيد عندنا، قالت أمي: أعطني الهاتف وسوف اتصل بكراديتش، وبالفعل اتصلت به وهنأها بالعيد. زعم كراديتش خلال حديثه مع امي ان المسلمين يقصفون أنفسهم، فتركت أمي سماعة الهاتف وهي لا تكاد تصدق، ولم تفق من دهشتها إلا بعد فترة طويلة». هكذا يصف الدكتور عصمت تسيريتش صديق كراديتش لـ«الشرق الأوسط» كيف ان الكثيرين لم يصدقوا «ازدواجية شخصية» الرجل الذي لم يظهر من مسيرة حياته الاولى أنه سيكون الرجل الذي سيعيد اوروبا الى العصور الوسطى بارتكابه أعنف مذابح ارتكبت في تاريخ اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. استمر كراديتش في قصف سراييفو التي سقط فيها أكثر من 12 ألف قتيل، منهم 4 آلاف طفل، على وقع نشيده «الخطوات الثابتة» والذي ألفه سنة 1992. ويضيف تسيريتش «لم يكن يظهر تعصبه الفاشي، ولم يكن مبدأيا في مواقفه. البعض من الزملاء استغرب أن يكون لانسان وجهان، لاسيما إذا كان طبيبا، قصف المدن، وأحرق المستشفى الذي عملنا فيه جميعا، وقتل زملاءه في العمل والذين عاش بينهم لمدة 20 سنة». لم يكن رادوفان كراديتش المولود في 19 يونيو (حزيران) عام 1944 يتوقع المصير الذي آل إليه أبوه، عندما ترك قريته، بيتريتسا، في الجبل الأسود، وتوجه إلى سراييفو عام 1960 لدراسة الطب. وتخرج عام 1971 من كلية الطب. (كان «السرائليا» وهم سكان سراييفو، يلقبونه حتى اليوم بـ«التسرنو غوراتس» أي من سكان الجبل الأسود، وبالتالي فهو ليس بوسنيا مثله مثل العديد من سكان البوسنة الصرب والكروات. حتى الجنرال راتكو ملاديتش، المتهم هو الآخر بارتكاب جرائم حرب، ليس بوسنيا، ولم يولد في البوسنة). كان كراديتش في السادسة عشرة من عمره عندما وصل إلى العاصمة البوسنية، تاركا أباه في السجن بتهمة الانتماء إلى منظمة «التشتنيك» الصربية التي تدعو لعيش الصرب في دولة واحدة. واستطاع ذلك الوافد الجديد أن يكسب صداقات الكثير من المسلمين، ويصبح في فترة وجيزة صديقهم المفضل. وبعد تخرجه توجه إلى الولايات المتحدة لإكمال تخصصه في الطب النفسي، ثم عاد إلى سراييفو حيث عمل طبيبا في نادي سراييفو لكرة القدم. ثم عمل في عدد من المؤسسات الطبية منها مستشفى سراييفو حتى مارس (آذار) عام 1977. ثم انتقل في نهاية سنة 1983 وبداية 1984 للعمل في المركز الطبي ببلغراد، وفي نفس الوقت عمل طبيبا نفسيا لنادي «النجمة الحمراء» لكرة القدم هناك. لكن نجمه أفل في بلغراد بعد توجيه اتهامات له في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1984 باختلاس أموال وبناء استراحة له في بالي (15 كيلومترا شرق سراييفو) وحكم عليه بالسجن لمدة 11 شهرا.

لم يعد لكراديتش بعد تلك الفضيحة مقام في بلغراد، التي تعرف فيها على زوجته ليليانا زيلينا كراديتش، التي تعمل هي الأخرى كطبيبة نفسية، فعاد إلى سراييفو لكنه سرعان ما حكم عليه في 26 سبتمبر (ايلول) 1985 بالسجن لمدة 3 سنوات، بتهمة النصب والاحتيال، ثم أطلق سراحه بعد تدخلات من عناصر متنفذة داخل السلطة، وقيل إنها من عناصر التشتنيك التي اخترقت الحزب الشيوعي، ثم سيطرت على يوغسلافيا بعد موت جوزيف بروز تيتو. وعاد كراديتش مرة أخرى إلى بلغراد، التي سرعان ما تركها ليعود إلى سراييفو سنة 1987 . دخل كراديتش الميدان السياسي سنة 1989، وانضم، للحزب الديمقراطي الصربي، وفي يوليو (تموز) 1990 انتخب رئيسا للحزب، حيث رشحه للمنصب 221 عضوا من الجمعية العامة للحزب من أصل 222 عضوا.

كانت الصفات الحادة التي طبعت سلوك كراديتش منذ الستينات، حيث أقدم أثناء مظاهرات للطلبة سنة 1968 على اطلاق النار، وراء اختياره زعيما لصرب البوسنة. يقول البعض إن كراديتش لم يكن قوميا متطرفا إلا بعد أن أصبح سياسيا، فرئيسا للحزب الديمقراطي الصربي، سنة 1990، ثم رئيسا لما عرف باسم جمهورية صرب البوسنة طيلة فترة الحرب بين اعوام 1992 و1995 ، وقائدا أعلى للقوات المسلحة الصربية في نفس الوقت. لكن البعض الآخر يعتقد أن كراديتش ولد فاشيا، وزاد سجن والده من تطرفه الذي نما معه كالسرطان.

ويقول الكاتب ماركو فيشوفيتش لـ«الشرق الأوسط»: «أذكر جيدا ما قاله بعض عناصر الشرطة في بداية الحرب لكراديتش من أن بعض القادة المسلمين لا يرغبون في حمل العناصر الصربية للسلاح، فرد عليهم: اقتلوهم جميعا». وتابع: «كراديتش كان مسؤولا عن كل شيء». فقد كان الرجل الاول في الحزب الديمقرطي الصربي، والمسؤول عن الاذاعة والتلفزيون، وجمعية الصليب الاحمر، لدى صرب البوسنة، والقوات المسلحة الصربية. عندما هدد في أبريل (نيسان) سنة 1991 بإبادة المسلمين إذا اندلعت الحرب في البوسنة، لم يصدقه الكثيرون. كان البوشناق واضحين في موقفهم «إما أن تعود يوغسلافيا موحدة أو نصبح دولة مستقلة مثل بقية الجمهوريات» ولم يكن قرارا منفردا بل بعد استفتاء أيده أكثر من 60 في المائة من سكان البوسنة. سالت دماء كثيرة في البوسنة، في سراييفو، وفي جوراجدة، وفي بيهاتش، وفي موستار، وفي توزلا ، وبريتشكو، وبريدور، وزفورنيك، وسريبرينتسا، وفي كل البلاد. وبلغ عديد الضحايا في السنة الاولى للحرب عشرات الآلاف وهجر نحو مليون ولاسيما من شرق البوسنة، وقتل في سريبرينتسا قبل مجزرة يوليو (تموز) 1995 أكثر من ثلاثة ألف نسمة. في سنة 1993 أقيمت محكمة جرائم الحرب في لاهاي ووجهت تهما لـ 161 شخصا على رأسهم كراديتش، لكن المذابح استمرت على يد كراديتش، وكان أكبرها مجزرة سريبرينتسا في 11 يوليو (تموز) 1995 والتي سقط فيها أكثر من 10 آلاف نسمة. وفي 25 يوليو (تموز) 1995 وجهت محكمة جرائم الحرب في لاهاي، أول الاتهامات لرادوفان كراديتش بارتكاب جرائم إبادة، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم حرب، قسمتها على 16 نقطة أو اتهاما. ثم وجهت محكمة لاهاي إلى كراديتش في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 اتهامات جديدة، من 20 نقطة، عندها بلغ عديد ضحايا كراديتش أكثر من 200 ألف نسمة، ودمرت آلياته العسكرية نحو 90 في المائة من البنية التحتية للبوسنة، واغتصبت ميليشياته أكثر من 30 ألف امرأة. وفي 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 تم توقيع اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب، كما أنهت النفوذ السياسي لكراديتش. لقد كان ذلك بمثابة النهاية السياسية لكراديتش فقد اختفى عن الانظار وكانت آخر صورة التقطت له في هان بياسكا، في يوليو سنة 1996. وكان لتنازل رادوفان كراديتش، أو إجباره بالأحرى على الاستقالة، مدعاة لإثارة الكثير من التخمينات الصحافية والشعبية وحتى السياسية، والتي اتخذت طابع اليقينيات لدى البعض، ومن ذلك ما سبق ذكره، وهو أن كراديتش، عقد صفقة مع السفير الأميركي الأسبق في الأمم المتحدة ريتشارد هلبروك. بل أن شقيق كراديتش، فوك، ردد مرارا أن ردوفان وقع مع هلبروك على وثيقة تقضي بمقايضة السلطة والعمل السياسي بعدم تتبعه قضائيا. وزاد اختفاء كراديتش وعدم القبض عليه من قبل قوات حلف شمال الأطلسي سنتي 1995 و 1996 رغم مرور موكبه قرب ثكناتهم ودورياتهم العسكرية من تلك الشكوك التي اتخذت طابع الحقائق لدى البعض. وهناك من أكد إلى جانب فوك كراديتش وجود اتفاق بين زعيم صرب البوسنة السابق وهلبروك، ومن بينهم السفير الصربي السابق في موسكو تودور دودينا، لكن المسؤولين الاميركيين نفوا بشدة وجود مثل هذا الاتفاق.

والحقيقة هي أن ريتشارد هلبروك ساهم من حيث يدري أو لا يدري، في رسم ذلك الانطباع، ففي 19 يوليو (تموز) 1996 صرح لوسائل الاعلام بأن ردوفان كراديتش، قبل ترك وظيفته كرئيس لصرب البوسنة وكذلك ترك العمل السياسي وقال «من المؤكد أن كراديتش أنهى حياته السياسية». والسؤال الذي ظل بدون إجابة حتى إلقاء القبض على كراديتش يوم الاثنين 21 يوليو (تموز) 2008، هو ما الثمن الذي قبضه كراديتش مقابل تنازله عن السلطة بل العمل السياسي برمته ؟! الجواب جاء على وجه السرعة من البوشناق المسلمين الذين أكد الكثير منهم لـ «الشرق الأوسط» من بينهم الدكتور أسعد دوراكوفيتش عميد كلية الفلسفة في سراييفو، وهو أن إبعاد كراديتش كان «يهدف لمحاولة إلصاق جرائم الحرب بأشخاص معدودين، والتبرئ من تهمة جرائم الإبادة التي كانت مشروعا شاملا، اشترك فيه الساسة والخبراء والعسكريون والمنظمات التشتنيكية». وبالفعل فقد قام «الحزب الديمقراطي الصربي» في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2001 بشطب عضوية جميع المتهمين بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك رادوفان كراديتش، وكانت تلك خطوة ، كما يقول المراقبون، شكلية، لان كراديتش استقال من الحزب قبل ذلك. لم ينه اختباء كراديتش المشكلة، فقد ظلت تهم ارتكاب جرائم حرب تلاحقه في مخابئه، وظلت محكمة جرائم الحرب في لاهاي تطالب باعتقاله، وأدت الضغوط القانونية والاعلامية على السياسيين في الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، إلى قيام قوات حلف شمال الأطلسي، سي فور، ومن ثم القوات الاوروبية، يوفور، بمداهمات وعمليات تفتيش واسعة، وصفت بـ( الاعلامية ) بحثا عن كراديتش وبقية المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن جائزة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود لاعتقال كراديتش. وذلك لتبديد الشائعات التي تحدثت عن وجود صفقة بين كراديتش وهلبروك تقضي باختباء كراديتش مقابل عدم اعتقاله ومحاكمته. كما تزامن ذلك مع وجود دلائل تفيد بأن حكومة الحكم الذاتي في بنيالوكا والتي يهيمن عليها الصرب ويشترك فيها البوشناق والكروات تقدم الدعم المادي واللوجستي لكراديتش، إضافة للاحزاب الصربية وفي مقدمتها «الحزب الديمقراطي الصربي»، مما حدا بالمبعوث الدولي الأسبق إلى البوسنة بيدي اشداون إلى وضع نصف أعضاء حكومة صرب البوسنة في القائمة السوداء. لكن ذلك لم يفض إلى شيء، بل أن أنباء صدور رواية لكراديتش، وكتاب للأطفال، كانت تغطي على كل الحراك السياسي والأمني الهادف لاعتقال كراديتش. وأخيرا كشف اللثام وبعد اعتقال كراديتش في بلغراد يوم الاثنين الماضي، عن الحركة المضادة التي قامت بها الاستخبارات الصربية لعرقلة اعتقال كراديتش والالتفاف على الجائزة الاميركية. وتبين أن الاستخبارات الصربية، زودت كراديتش في نفس السنة (1998) بهوية مزورة تحمل اسم دراغن دافيد دابيتش. وكان عندما يسأل عن شهادته يقول بقيت عند مطلقتي في أميركا. ولم يكن يرغب في الحديث عن تفاصيل حياته ومكان دراسته أو عمله السابق.

في تلك الأثناء تواصلت مطالبات المحكمة الدولية باعتقال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي مقدمتهم كراديتش وملاديتش، وفي 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2002 أكدت محكمة لاهاي التهم الموجهة إلى كراديتش. ووصفت المدعية العامة السابقة لدى محكمة لاهاي كارلا ديل بونتي ، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2005 ، كراديتش وبقية المتهمين الفارين بالفئران « 10 سنوات ونحن نلعب معهم لعبة القط والفأر ، القط هو المجتمع الدولي الذي يفرك عينيه هنا وهناك والفئران هم المتهمون بارتكاب جرائم حرب وهم يتنقلون بين هذا الجحر وذاك».

وقد بلغت الضغوط أوجها في يوليو (تموز) 2005 عندما قامت القوات الدولية باعتقال نجل زعيم صرب البوسنة سابقا، ساشا كراديتش، حيث ظل مسجونا لمدة 10 أيام، قال إنه تعرض لضغوط نفسية كبيرة وللتعذيب. ورد كراديتش على ذلك في أبريل (نيسان) 2006 بطبع كتاب في بلغراد يضم الحوارات التي أجريت معه أثناء الحرب عندما كان رئيسا لصرب البوسنة وقائدا أعلى لميليشياتهم المسلحة المدعومة من بلغراد والتي ستكون ضمن ملفات الاتهام في محكمة لاهاي. في 2007 وعلى إثر ازدياد الضغوط على صرب البوسنة ولاسيما أسرته في بالي، بدأ الحديث في الكواليس ووسائل الاعلام وعبر تصريحات المسؤولين في محكمة لاهاي بأن كراديتش موجود في صربيا، وتقوم بمساعدته شخصيات متنفذة في بنيالوكا البوسنية وبلغراد. وهناك كان زعيم صرب البوسنة سابقا رادوفان يمارس عمله كطبيب فيما يعرف بالطب البديل، متواريا خلف لحية بيضاء كثة، وهوية مزيفة تحمل اسم دراغن دافيد دابيتش، وزوجة أجمل من زوجته ليليانا، وأصغر سنا، عاش معها 13 عاما. وتبين أن زوجته ليليانا كانت تعلم بذلك، مما حملها على توجيه نداء له للاستسلام في 28 يوليو (تموز) سنة 2005، فسجن الزوج أحب إليها من ضرة في ظل ثقافة النفاق الاجتماعي وما هو أبعد من ذلك. كان كراديتش يعمل في وضح النهار في كلينيك، ويلتقي بالناس، ويتواصل معهم عبر شبكة الانترنت، حيث له موقع على الشبكة. وقد فوجئ رواد مقهى «لودا كوتشا» وتعني «البيت المجنون» كيف عاشوا مع متهم بارتكاب جرائم حرب لمدة 13 سنة بدون أن يكشفوا هويته الحقيقية. وقال ميروسلاف أحد رواد المقهى لـ«الشرق الأوسط»: «كان كراديتش هادئا، ويعلق على الأحداث بمنطق المطلع، وغالبا ما كان يعزف لرواد المقهى بدون أن يعرفه أحد». وحول عمله كطبيب قال «لم يكن معه ما يثبت ذلك سوى خبرته، وكان يقول إن شهاداته بقيت مع زوجته في أميركا وأنه مطلق، كما كان يذكر أن له ابنا وبنتا لكنه لم يكن يذكر اسميهما ولم يكن يحب الخوض في تفاصيل حياته».

زوجته الثانية تدعى ميلا، في الثلاثينات من عمرها، جميلة ودائمة الابتسام، قالت إنها هي التي كانت تؤمن حركة سير كراديتش، وليست ميليشيات أو قوات خاصة كما كانت وسائل الاعلام تتحدث وتثرثر طيلة 13 سنة، على حد قولها «بعد عشرات الآلاف من المقاتلين وعشرات الوزراء وموظفي البروتوكول، والخدم، لم يبق حول كراديتش سوى إمرأة».

وفي ردها على سؤال حول أسباب ارتداد كراديتش لمقهى «لودا كوتشا» وليس أي مقهى آخر قالت «لأن صاحبها من عناصر الميليشيات السابقة، ذهب من بلغراد إلى البوسنة للقتال في صفوف القوات الصربية، ويعلق صورة الجنرال ملاديتش عند الاستقبال». وقالت إنها كانت مثل صديقة أو مساعدة أكثر منها زوجة. وذكرت أن «كراديتش كان يشكو من كوابيس فظيعة، أثرت عليه كثيرا، وأنه غالبا ما يقوم من الفراش مذعورا، وهو يتصبب عرقا» وحول كوابيس كراديتش أفادت بأنه «يرى أناسا يحملون فؤسا يريدون قطع رأسه» وعن حياتها معه وأهم ما لاحظته في سلوكه قالت «كان كثيرا ما يعاني من شرود الذهن، وأكلمه فلا يسمع». وقال صاحب بقالة قريبة من منزل كراديتش لـ«الشرق الأوسط» امتنع عن ذكر اسمه «لم يكن دراغن دافيد دبيتش (كراديتش) يسرف في الشراء، بيد أنه يشتري يوميا 5 ليترات من الماء والفواكه وبعض الخضار. وعند سؤاله عن سر اللحية والشعر الطويل كان يجيب إنها تعطيني قوة للاستمرار».

وفي 21 يوليو (تموز) أعلن مكتب الرئيس الصربي بوريس طاديتش عن اعتقال ردوفان كراديتش، وهو نبأ هز الجميع وأحدث ردود أفعال كثيرة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية، وتنفس الكثيرون الصعداء ولا سيما أهالي الضحايا، بينما حبس الكثير من الصرب أنفاسهم لسماع الخبر، ووصف بعضهم عملية الاعتقال بـ«التراجيديا». وقال أحد صرب شرق سراييفو ويدعى فويكو لـ«الشرق الأوسط» ان «كراديتش في قلب كل صربي» لكنه لم يجب عما إذا كان في قلب من اعتقلوه. وكان من بين الذين أطربهم النبأ ريتشارد هلبروك الذي مثل اعتقال كراديتش صك براءته من تهمة عقد صفقة معه حيث قال «اعتقال كراديتش مهم لصربيا ولعلاقتها مع الغرب، وهذه خطوة كبيرة لتقدم صربيا وتحقيق رغبتها في الاندماج في الشراكة الأوروأطلسية». وأشار هلبروك الذي نفى في وقت سابق وتحديدا في الذكرى العاشرة لمذبحة سريبرينتسا سنة 2005 عقده صفقة مع كراديتش يتم بموجبها اعتزال كراديتش السياسة مقابل عدم تتبعه قضائيا «الجنرال راتكو ملاديتش لا يزال حرا ولكن اعتقال كراديتش أحد أهم مطلوبين مهم جدا». ووصف «كراديتش بأنه أسامة بن لادن أوروبا» الذي «ظل هاربا لمدة 13 سنة» واعتبر كراديتش أخطر من ميلوشيفيتش «في رأيي كراديتش أخطر من ميلوسيفيتش، وهو بمثابة روبن هود بالنسبة لصرب البوسنة» ووصف الرئيس الصربي بالشجاع «فقد قتل رئيس وزراء صربيا الاسبق زوران دجنجيتش لانه سلم الرئيس الاسبق سلوبودن ميلوشيفيتش».

ولا يعرف تحديدا السبب الحقيقي وراء اعتقال كراديتش، هل هي الرغبة في الانضمام للاتحاد الاوروبي، أم تصفية صراعات داخلية لاضعاف الراديكاليين، وتوجيه رسالة لصرب البوسنة تحذرهم من نفس المصير، أم كل ذلك جميعا، لاسيما أن هناك أنباء تحدثت عن أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية كشفت هوية كراديتش وطلبت اعتقاله بينما قالت مصادر الاستخبارات الصربية إن الجهات الامنية سجلت مكالمة لكراديتش مع ابنه ساش قبل شهرين، حيث تحدث إليه باسم دراغن دافيد دابيتش، وإنها تابعت الخيط حتى تمكنت من اعتقاله. أعتقل كراديتش لكن هذا ليس إلا بداية لفصل آخر من الرواية الطويلة السوداء، ففي محكمة لاهاي ستتكشف جوانب أخرى من هذه الفترة المظلمة في تاريخ اوروبا، وجوانب مظلمة من شخصية الرجل الذي حير بتناقضاته الجميع.