باتمان والجوكر: إذا لم يوجد قانون.. لا يوجد شر

الشخصية التي ولدت عام 1939 تفتح اليوم نقاشا فلسفيا جادا حول الخير والشر وما هي البطولة و«الديكتاتور العادل».. وبوش

TT

في عصر العولمة وفي عطلة نهاية الاسبوع الماضية، حولت شركة «وارنر» الاميركية العالم الى قرية. وشهد الملايين حول العالم فيلمها الجديد، في نفس الوقت الذي شاهده فيه الاميركيون. في الثانية عشرة من منتصف ليلة الجمعة الماضي اصطف اكثر من عشرة ملايين شاب وشابة اميركيين، اغلبيتهم مراهقين ومراهقات، امام اكثر من خمسين الف قاعة سينمائية في كل الولايات الاميركية، لمشاهدة الفيلم الجديد: «باتمان: دارك نايتز» (الرجل الوطواط: الفارس الاسود). ودفعوا ما قيمته اربعون مليون دولار. وخلال الثلاثة ايام الاولى لعرض الفيلم، بلغ دخله مائة وستين مليون دولار، وحقق رقما قياسيا. هذا بالاضافة الى اربعين مليون دولار من عرض الفيلم في دول اجنبية. لكن قبل ان يكون «باتمان» مصلحا او منقذا للعالم، كان شخصية كرتونية في مجلة «ديتيكتيف« (المحقق) التي تصدرها شركة «دي دي» لمجلات الكرتون، والتي أسسها مالكولم نيكلسون، اول ناشر مجلة رسومات كرتونية منتظمة ومتخصصة سنة 1929. في سنة 1932، بدأت المجلة نشر مسلسل رسومات «سوبرمان» (الرجل الخارق). وفي سنة 1939، بدأت نشر مسلسل رسومات «باتمان» (الرجل الوطواط). وفي سنة 1941، بدأت نشر مسلسل رسومات «اكوامان» (رجل الماء). وفي سنة 1944، بدأت نشر مسلسل رسومات «وندر وومان» (المرأة الخارقة).  وفي سنة 1956، بدأت نشر مسلسل رسومات «فلاش مان» (الرجل اللامع). وفي وقت لاحق، جمعت المجلة كل هؤلاء، وسمتهم «جستس ليغ» (عصبة العدل)، اشارة الى انهم كلهم يهبون لمساعدة المظلومين، ولمواجهة الظالمين.

كانوا كلهم رجالا، عدا «وندر وومان»، التي جمعت بين الجمال والقوة، وبين الاغراء ونشر العدل. وفي سنة 2001، وصفها سكوت بيتي، مؤلف كتاب «عصبة العدل في اميركا» بأنها: «اكثر جمالا من افروديت، واكثر حكمة من اثينا، واكثر سرعة من هيرمز، واكثر قوة من هيركيوليز» (آلهة وآلهات القوة عند قدماء اليونانيين). وصارت «وندر وومان» افلاما، ومسلسلات تلفزيونية، وكتبت عنها رسالات ماجستير ودكتوراه. وحدث نفس الشيء لبقية الشخصيات الكرتونية. ورغم ان «سوبرمان» (الرجل الخارق) كان الاول، ونال نصيبه من الكتب والافلام والمسلسلات التلفزيونية، تفوق عليه، خلال العشرين سنة الماضية «باتمان» (الرجل الوطواط). فلماذا كل هذا الاهتمام بالرجل الوطواط ومن هو الرجل الوطواط؟ جاء «سوبرمان» من الفضاء الخارجي، ثم صار بشرا، يدافع عن المظلومين. اما «باتمان» فقد حصل على ثروة من ابيه، ثم تركها ليتفرغ لمحاربة الجريمة. وهناك فرق آخر: يبدو «سوبرمان» اكثر مثالية من «باتمان». فيما يبدو «باتمان» اقوى من «سوبرمان». لكن، نجح «باتمان» اكثر لأنه تخصص في محاربة الفساد في نيويورك (تسمى في افلامه غوثام). ولانه لا يملك قوة سحرية (مثل سوبرمان، ولكن قوة طبيعية)، اي انه انسان مثلنا، لكنه يضحى بحياته في سبيل محاربة الظلم والجريمة والفساد.

ولكل هذه الاسباب أصبح « باتمان» ملهما وصديقا للاطفال والكبار، اي شيء عليه اسمه يباع بسرعة خارقة. فقبل ان يصبح «باتمان» فيلما، كان رسوما كارتونية، ثم مسلسلا تلفزيونيا. وقبل فيلم «باتمان: الفارس الاسود» كانت هناك افلام «بداية باتمان» و«عودة باتمان» و«انتقام باتمان»، وافلام اخرى خلال العشرين سنة الماضية. ولهذا، صار «باتمان» ظاهرة ثقافية اميركية، ثم عالمية، فهو يجسد قيما وقدرات ربما يحلم الانسان الطبيعي ان تتوافر فيه، حتى ان جريدة «ذي غارديان» البريطانية، كتبت بمناسبة مرور سبعين سنة على اول كارتون «باتمان»: «صارت رسوم وافلام ومسلسلات باتمان رمزا لمن يريد احقاق الحق». فيما قالت مجلة «بيزنس ويك» الاميركية: «لم تثر شخصية خيالية مثلما اثرى باتمان. بينما لم يثر الناس الذين ساعدوا في رفع الظلم عن العالم». ولهذا، كلما ظهر فيلم جديد لهذا الرجل الوطواط، بدأ النقاش، ليس فقط حول الفيلم والجوانب الفنية فيه، ولكن حول الفلسفة، التي وراءه، وملخصها انه رجل يحارب الفساد والظلم (في عالم تمدد وتوسع وابتعد عن قيم اخلاقية كانت سائدة في الماضي).

وامتدت ظاهرة «باتمان» من اميركا الى العالم كله. ففي مكسيكو سيتي (عاصمة المكسيك)، تظاهر الناس بعد عرض فيلم «باتمان»، ودقت النساء بالملاعق والسكاكين على اواني وصحون المطابخ، احتجاجا على ارتفاع الاسعار. وفي جانب آخر من الميدان، وقف «باتمان» (اسمه الحقيقي)، وهو طالب جامعي، يلبس ملابس «باتمان»، ويلتقط صور الاطفال، ويبعيها الى آبائهم وامهاتهم، ويقول في فخر: «انا باتمان المكسيك». ولكلامه صلة بزلزال المكسيك سنة 1985، عندما عجزت الحكومة عن مواجهة الكارثة الكبرى، وتطوع عشرات الآلاف من الناس لتوزيع الطعام والشراب. وسموا انفسهم «باتمان»، وصار الاسم رمزا لمواطنين فقدوا الامل في الحكومة، وتطوعوا لخدمة المواطنين. كما كان «سوبرمان» ملهما للمكسيكيين، فقد غيروا الاسم من «سوبرمان» الى «سوبرباريو» (تعني الحي الشعبي في اللغة الاسبانية). وفي سنوات لاحقة، ظهر «سوبر ايكو» (لنظافة الشوارع، وتحسين البيئة)، و«سوبر شوباكابرا« (لمساندة الضعفاء ضد الاقوياء). اي أنهم استغنوا عن الحكومة بكل من «سوبرمان» و«باتمان». وفي استراليا، كتب شخص في «ادليد تايمز» الاسترالية ان فيلم «باتمان» الجديد ربما سيحل المشكلة الاقتصادية التي يواجهها العالم اليوم.. كيف؟  «لن يسافر الاميركيون في اجازات طويلة الى ديزني وبقية الملاهي الصيفية، وسيفضلون مشاهدة الفيلم، وبالتالي، سيوفرون صرف بنزين لسياراتهم، وبالتالي، سيخفضون سعر غالون البنزين». وفي تلفزيون «سي ان بي سي» الاميركي، خلال نقاش عن نجاح الفيلم، تفلسف المشتركون في النقاش: قال واحد: «باتمان يؤمن بان الخطأ والصواب لا يتغيران من بلد الى بلد، ومن ثقافة الى ثقافة». وقال ثان: «يؤمن باتمان بالواقعية الايجابية». وقال ثالث: «باتمان اسود وابيض، غني وفقير، رجل وامرأة، كبير وصغير.. انه باختصار، بطل اميركي». وتناقش الحاضرون ما اذا كان باتمان مثاليا، او شعبيا او مهيجا للجماهير، او «متفانيا صامتا؟

لكن هذه القيم التي يتحلى بها «باتمان» ليست مصدر اتفاق الجميع. فقد سأل مذيع في اذاعة «ان بي آر»: «ألا يبدو باتمان دكتاتوريا؟».  واجاب هنري ديساغول، ناقد افلام في هوليوود: «يؤمن باتمان بان له هدفا في الحياة يجب ان ينفذه. لا يكفي الايمان، لا بد من العمل. وطبعا، برهن باتمان على أنه يقدر على تنفيذ ما يؤمن به». واضاف: «في الجانب الآخر، ينفرد بتنفيذ ما يؤمن به، ولا يريد ان يشاركه احد في ذلك. ربما يكون متطرفا في ذلك، لكنه لا يجبر احدا على ان يقتنع بما يفعل. هل يجعله هذا دكتاتورا؟ لنقل انه دكتاتور مثالي، ولنتمنى ان يكون كل واحد منا دكتاتورا مثاليا».

اذا كان «باتمان» هو المخلص، فان «جوكر» هو الشيطان. تكرر هذا في كل سلسلة هذه الافلام. وفي هذا الفيلم الاخير، «الفارس الاسود»، يبدو الشيطان (الجوكر) صاحب فلسفة وانصار وتابعين. وله استراتيجيات ومخططات. لكنه شبه مبهم، ولا يعرف الناس من أين جاء والى أين هو ذاهب. وعندما اعتقلته الشرطة، لم تعثر معه على عنوان منزل، او رقم تلفون، او بطاقة شخصية. كان الشيطان بلا تاريخ ولا جغرافيا، وكأنه في كل مكان وزمان. وكتبت جريدة «واشنطن بوست» الاميركية: «قال الجوكر لباتمان: انت سبب وجودي. اي انه اذا لم يوجد قانون، لم يوجد شر».  وكتبت جريدة «نيويورك تايمز» الاميركية «يوجد الجوكر لأن المجتمع يحتاج له، لينتصر عليه باتمان». وكتبت جريدة «فلادلفيا انكوايارار» الاميركية: «يريد باتمان ان يصلح المجتمع، ويريد الجوكر ان يقول له ان ذلك مستحيل». واضافت: «يقول الجوكر انه يجب الا يطيع قوانين لم يشترك في وضعها».

وفي عصر الحرب على الارهاب، وبعد اكثر من عشرة افلام وعشرين مسلسلا تلفزيونيا، ومئات الكتب عن باتمان، يستعد فرانك ميلار، كاتب «باتمان: الفارس الاسود» لكتابة «باتمان: الارهاب المقدس». مرة اخرى ستدور حوادث القصة في «غوثام» (نيويورك). يهجم ارهابيون على نيويورك، ويهب «باتمان» لانقاذها. وعن هذا، قالت مقدمة برنامج في اذاعة «ان بي آر» الاميركية: «بعد هجوم 11 سبتمبر، وبعد ان صار الارهاب هو شاغلنا الاول، كان لا بد ان يلتقي ابطالنا الخياليون بالارهابيين. ولهذا، ليس غريبا ان يواجه باتمان الارهابيين».

لكن، قبل فيلم «باتمان: الارهاب المقدس»، هناك اشارات الى حرب الارهاب في الفيلم الاخير الذي صدر في الاسبوع الماضي. قالت جريدة «نيويورك تايمز» في افتتاحية رئيسة صدرت يوم صدور الفيلم: «ليس سرا ان الفارس الاسود، عندما واجه الجوكر الشرير، كأنه واجه ارهابيا مثل اسامة بن لادن. وذلك لان الجوكر اقسم ان يفعل شيئين: اولا: يدمر كل شيء في نيويورك، ويقتل عشرات الآلاف من الناس. ثانيا: يثير الخوف والرعب وسط الذين لم يقتلهم».

وربطت الافتتاحية الفيلم بسياسة الرئيس الاميركي جورج بوش نحو الارهاب. وقالت ما معناه ان «باتمان» ربما افضل من بوش في مواجهة الارهاب.

فمن جانب، استفاد «باتمان» في الفيلم من مساعدات المواطنين لمواجهة «الجوكر» والقضاء عليه. ويشبه هذا دعوة ادارة بوش للمواطنين الاميركيين لمساعدتها في ملاحقة الارهابيين، وحتى بالتجسس عليهم.

لكن، في الجانب الآخر، وفي منتصف الفيلم تقريبا، حذر «فوكس»، مساعد «باتمان»، من التجسس على المواطنين باسم القضاء على «الجوكر».

وسألت الجريدة: «هل باتمان اكثر حرصا على الحقوق المدنية من الرئيس بوش؟».