أميركيون باتوا في الشارع

رووا لـ «الشرق الأوسط» كيف تحولوا من طبقة وسطى إلى مشردين في محطات المترو

أحد المشردين في واشنطن يجلس في محطة قطارات الانفاق بالقرب من البيت الابيض (أ.ف.ب.)
TT

لعقود طويلة اعتبر الاستثمار في العقار ملاذاً آمناً للمستثمرين والمضاربين الذين يبحثون عن «فلوس سهلة» على حد التعبير الاميركي الدارج، بيد ان أزمة الرهن المنزلي والكساد الاقتصادي الذي لم تشهده اميركا منذ السبعينات، أدى الى مآس اجتماعية، حيث تحولت شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى الى متشردين بدون مأوى بعد ان قررت البنوك نزع مساكنهم Homeless.

وهو ما زاد من زخم المشاعر الميالة للابتعاد عن الاستثمار في العقار، الأمر الذي دفع بأسعار هذه العقارات إلى انحدارات قوية. وهو ما يدعم ايضاً الإحساس كذلك بالقلق من أن الاستثمار السهل او ما يعرف هنا بـ«عصر العقار» قد ولى. قصة المهندس بيتر جوزفين، وموظف العلاقات العامة فيكتور جيمسون، وما حدث في مدينة بلتمور القريبة من واشنطن، هو أفضل تجسيد لمأساة اجتماعية. وهي مأساة باتت تعانيها مئات الآلآف من الأسر الاميركية، التي كانت تأمل في تعيش في مستوى الطبقة المتوسطة في منزل عائلي، وطموحات مستقبلية ببيع هذا المنزل وشراء آخر أكثر اتساعاً مع الاستفادة من ربح قد يصل الى 100 الف دولار. بيد ان كل هذه الاحلام تبخرت، وأصبح كثيرون الآن يبحثون فقط عن مأوى.

روى المهندس بيتر جوزفين قصته لـ«الشرق الاوسط» وقال «تخرجت من جامعة جورج ميسون في فرجينيا قبل سبع سنوات، متخصصاً في هندسة بناء شبكات الكومبيوتر، عملت في عدة شركات صغيرة الى ان وجدت عقدا مع شركة سبرينت للهواتف المحمولة، وبعد ان تحسن دخلي، فكرت في شراء منزل بدلاً من الشقة التي كنت استأجرها في حي كريستال سيتي في مقاطعة ارلينغتون، ووجدت أن المكان المناسب شراء منزل هو في منطقة شانتيلي التي تقع قرب مطار دالاس، خاصة انه لا توجد بنايات في تلك المنطقة وهو ما يعني انها مكان هاديء اضافة الى ان الغابات والمروج الخضراء تجعل منها منطقة بيئية ممتازة، لكن من هنا بدأت مشاكلي».

باقي تفاصيل حكاية جوزفين كما رواها تمثلت في اتخاذه قراراً مع زوجته التي تعمل موظفة في شركة تأمين على شراء منزل صغير وهو ما يطلق عليه «تاون هاوس» يتكون من غرفتين في طابقه الأعلى وصالون ملحق معه المطبخ، مع غرفة في الطابق السفلي تطل على حديقة صغيرة. اتصل جوزفين مع شركة مالية من الشركات التي تتوسط بين الزبناء والبنوك، وحصل على سعر فائدة مغر للغاية حيث بلغ 6.3 بالمائة فقط. وكان سعر المنزل في حدود 340 الف دولار، ودون ان يدفع اية دفعة على الحساب. حيث كان يفترض ان يسدد مبلغ يتراوح ما بين عشرة الى عشرين الف دولار نقداً من قيمة المنزل قبل توقيع عقد الشراء، وهذه هي واحدة من الاسباب التي ادت الى الازمة، ذلك ان البنوك الاميركية وفي إطار منافسة غير نزيهة بينها بسبب الكساد الاقتصادي وتراجع الدولار على نحو متسارع وحاد مما أضر ضررا بليغاً بالاستثمارات الاميركية خارج الحدود، بادرت الى التساهل الى اقصى الحدود في الموافقة على قروض شراء المنازل.

حصل جوزفين على منزله في يوليو (تموز) 2006، وشرع في تسديد اقساطه التي بلغت في حدود 2560 دولار شهرياً، اما ما يعادل ثلث راتبه، وكان سعيداً بامتلاك منزل في منطقة هادئة وذات طبيعة خلابة وهو ما أسعد اكثر طفليه، على حد قوله على الرغم من انه كان يقطع المسافة بين منزله وبين مكان عمله في حوالي ساعة زمن بالسيارة. بيد ان جوزفين سيواجه مع مطلع السنة الحالية مشكلة لم ينتبه اليها، إذ كانت هناك عبارة صغيرة في العقد مع الشركة المقرضة تشير الى ان القرض هو من نوع Balloon loan أي «القرض البالوني» بحيث يمكن ان ترتفع اسعار الفائدة لتصل الى أكثر من الضعف، وهو ما قد حدث بالفعل. كان جوزفين يسدد الاقساط الشهرية بصعوبة خاصة انه لم يكن يتوقع ان سعر الخدمات الاخرى في منطقة «شانتيلي» مرتفع جداً، مثل خدمات الكهرباء والماء والغاز وكيبل الشبكات التلفزيونية. اضافة الى ان اسعار متاجر المواد الغذائية هي نفسها مرتفعة.

وقرر جوزفين في ابريل (نيسان) الماضي عرض منزله للبيع في ما يسمى «البيع القصير الأجل» حتى يستطيع ان يرحل باقل الخسائر كما يقول. لكن عروض الشراء لم تتجاوز 260 الف دولار اي ان هناك حوالي 80 الف دولار تشكل الفارق بين سعر البيع وسعر الشراء المقترح بيد ان البنك صاحب القرض رفض هذا العرض، وازاء هذا الوضع لم يكن هناك حل سوى ما يعرف هنا باسم «إغلاق الرهن» او افلاس صاحب العقار ونزع منزله، بعد ان يعجز عن تسديد الاقساط، اي ان يبيع البنك المنزل عبر المزاد العلني. ولم يكن هناك خيار امام جوزفين سوى ان يرضخ لهذا الاختيار الصعب.

لكن المأساة ستحدث بعد ذلك. رحل جوزفين عن منزله وتركه خالياً صفصفاً، بعد ان نقل متاعه الى منزل احد اصدقائه وانتقلت زوجته مع طفليهما الى ولاية ميرلاند لتقيم مع شقيقتها، وهذه من حالات التكافل الاجتماعي النادرة في اميركا. ثم قرر جوزفين البحث عن شقة صغيرة من جديد لتقيم اسرته معه، بيد انه اصطدم هذه المرة بمشكلة سوء سجله المالي Bad credit.

وبما ان اصحاب الشقق والمنازل المعروضة للايجار يتأكدون مسبقاً من ان السجل المالي لاي راغب في الايجار سليم، اي انه يسدد فواتيره في مواعيدها ويدفع جميع المستحقات ومعاملاته البنكية لا توجد بها اشكالات كأن يكون سبق له ان سلم شيكاً بدون رصيد، كما يتأكدون من سجله العدلي، بحيث لا يكون قد سبق له ان ارتكب جريمة، فإن سجل جوزفين بعد بيع منزله في المزاد اصبح سيئاً للغاية. والذي حدث انه لم يقبل احد بتأجير شقة الى جوزفين. والنتيجة ان الرجل اصبح بين عشية وضحاها مشرداً بلا مأوى، يقول جوزفين بحسرة شديدة «احيانا امضي الليل في فندق متواضع لقاء ما بين 30 الى 40 دولاراً في الليلة، أو مع صديق، لكن في أغلب الاحيان اضطر للمبيت في احدى محطات قطارات الانفاق».

لقد اصبح جوزفين متشرداً.

ولا تختلف قصة فيكتور جيمسون كثيراً عن قصة جوزفين. يعمل جيمسون موظف علاقات عامة في شركة تتولى تنظيم المؤتمرات في الفنادق الكبرى في واشنطن. ومع بداية غزو الولايات المتحدة للعراق ازدهر هذا النوع من الاعمال، وحصل جيمسون على ساعات اضافية بلا حصر وارتفعت مداخيله، مما جعله يفكر وهو ما يزال عازباً في شراء منزل صغير. وبالفعل اقترض لشراء المنزل الذي كان سعره في ديسمبر (كانون الثاني) 2005 في حدود 167 الف دولار في منطقة الكسندريا في ولاية فرجينيا. قال جيمسون لـ«الشرق الاوسط» بعد شراء المنزل فكرت في الزواج وبالفعل تزوجت من زوجتي هوانيتا التي تعمل موظفة استقبال في احد الفنادق، وانتقلنا الى المنزل الجديد. وعشنا فترة مثالية». لكن ماذا حدث؟

فجأة قفزت الاقساط الشهرية بسبب «القرض البالوني» واصبح جيمسون مطالبا بان يسدد مبلغ 1780 دولارا شهرياً بدلاً من 1250 دولاراً، لكنه لم يستطع ان يصمد طويلاً، وعلى عكس جوزفين لم يفكر جيمسون في بيع المنزل، بل توقف عن تسديد الاقساط مدة خمسة اشهر، وتدخل البنك وقرر ايقاف الرهن ونزع المنزل، ثم بدأت المأساة الاجتماعية. قررت زوجة جيمسون هوانيتا ان تفصل عنه وهي حامل. ولم يستطع هو ان يستأجر شقة بسبب سجله المالي السيء. وبعد ان تشرد عدة ايام، اقترح على الشركة التي يعمل معها ان يشتغل حارساً ليلياً اضافة الى عمله الصباحي.

لقد اصبح جيمسون متشرداً مقنعاً يمضي لياليه في مرأب الشركة.

أما مدينة بلتمور التي تبعد حوالي ساعتين من واشنطن العاصمة فانه تجسد بحق أزمة قروشض الائتمان والعقارات المستفحلة في اميركا. في حي «رزيرفوار هيل» والذي كان يعتبر من الاحياء الواعدة في المدينة، فإن المشروع العمراني يقف الآن على حافة الانهيار. إذ خلال سنتين عرض 95 منزلاً للبيع بالمزاد عن طريق البنوك. وتوجد عدة بنايات مغلقة بسبب أزمة الرهن العقاري، وسطا اللصوص على الابواب والنوافذ فاصبحت مجرد خرابات عمرانية. كان حي «رزيرفوار هيل» يعتبر نموذجاً للفورة العمرانية في هذه المدينة قبل 18 شهراً. لكنه الآن تحول مرتعاً للمتشردين، ولم يعد هناك سبيل لانقاذ الحي الا إذا تم انقاذ الشركتين العملاقتين في مجال العقارات وهما فريدي ماك وفاني ماي والتي تمول حوالي نصف القروض العقارية في اميركا. وكان مجلس النواب الاميركي أقر يوم الاربعاء الماضي وذلك بغرض مساعدة حوالي 400 الف اميركي يحتاجون للمساعدة من أجل تفادي اعلان افلاسهم وايقاف رهونهم العقارية وبالتالي بيع منازلهم عبر المزادات العلنية.

وفور اجازة القانون الذي تراجع الرئيس الاميركي جورج بوش عن تلويحه باستخدام الفيتو ضده، بحجة ان القانون يهدف الى حماية مضاربين ارادوا شراء منازل لاعادة تدويرها في السوق العقاري، سارعت منظمة «اميركان نيبرهود فاونديشين» وهي منظمة غير ربحية تعمل على ايقاف عمليات انتزاع المنازل من اصحابها حتى لا يتحولوا الى متشردين الى توزيع اعلانات في صناديق البريد لجميع الاشخاص المهددين بنزع منازلهم تحت شعار «انه منزلك احتفظ به» ويقول الاعلان «نحن لن نشتري منزلك او نبيعه او نقرضك مالاً نحن فقط نتدخل من أجل ايقاف البيع بالمزاد العلني». ويحذر الخبراء من أن تدهور سوق العقارات في الولايات المتحدة يعتبر أبرز المخاطر التي تواجه الاقتصاد الأميركي، وهم يعتقدون ان القانون الذي اجازه مجلس النواب يوم الاربعاء الماضي لم يكبح الازمة. إذ ان الدعوات إلى وضع لوائح جديدة للإقراض العقاري وتقديم المساعدة للمتعثرين من أصحاب المنازل، ظل شعاراً مطروحاً منذ السنة الماضية وقالت به حتى الحكومة الاميركية لكن الأزمة تتفاقم، وانزلاق أشخاص من الطبقة الوسطى نحو حالات التشرد في تزايد وليس في تراجع. ويقول متري ساليس استاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسون في فرجينيا لـ«الشرق الاوسط» إن تهاوي اسعار المنازل وتراجع حركة البناء سيستمر في التأثير لفترة طويلة على أداء الاقتصاد الاميركي». وأضاف يقول إنه يساند منظمة اميركان نيبرهود فاونديشين التي تعمل للحد من حالات نزع ملكية مساكن للحيلولة دون انخفاض في أسعار العقارات ودفع شارئح كبيرة من الناس لكي يتحولوا الى اشخاص بدون مأوى. بيد ان هذه التحليلات لن تغير كثيراً من الواقع الذي يعيشه المهندس بيتر جوزفين، وموظف العلاقات العامة فيكتور جيمسون. إنهما الآن متشردان.