الوجه الحقيقي لسالم حمدان

الرجل الشارد الذهن تحول من سائق أجرة بسيط عمله «تغيير الإطارات ومرشحات الزيت» إلى متهم في غوانتانامو

TT

مع ادانة المحكمة العسكرية الخاصة بمحاكمة معتقلي غوانتانامو، سالم حمدان اول من امس، الذي كان يعمل سائقاً لدى زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، باتهامات تتعلق بـ«الإرهاب»، من بينها «تقديم دعم مادي لجماعة إرهابية»، في إشارة لتنظيم «القاعدة» يكون الستار قد أسدل على الفصل الاول من اول محاكمات لجرائم حرب منذ الحرب العالمية الثانية. ومع الادانة هناك تساؤلات عدة حول دور حمدان الحقيقي، الذي تقاضي مرتبا شهريا من بن لادن قدره 200 دولار، لمدة أربع سنوات من 1997 وحتى اعتقاله في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 قبل ايام من سقوط حركة طالبان، وهو يحمل صاروخين ارض جو في سيارته، بعد ان اشرف على ترحيل زوجته الحامل من قندهار، ومعها نساء من العوائل العربية المقيمة في قندهار الى الحدود الباكستانية القريبة. ولد سالم حمدان في حضرموت باليمن حوالي عام 1970، ويعتقد انه تعرف الى زعيم تنظيم «القاعدة» في مدينة قندهار الافغانية، في عام 1996. وبحسب لائحة الاتهام الموجهة اليه اصبح حارسه الشخصي وسائقه. ويقول جوناثان مالر، الذي وضع كتابا عن سيرة حياة حمدان، من المقرر ان يصدر خلال ايام، ان هذا الشاب كان يعيش حياة بسيطة للغاية ويعمل سائق سيارة اجرة عندما تم تجنيده في عام 1996، للذهاب الى «الجهاد»، وكان يومها في السادسة والعشرين من العمر. وكان حمدان وهو يتيم معروف بتدينه، قد اختار الذهاب مع 35 شابا مسلما آخر الى طاجيكستان، حيث كان الناشطون الاسلاميون يخوضون حربا ضد الحكومة المدعومة من روسيا. وبعدما صدت الحكومة الطاجيكية المقاتلين الاسلاميين ودفعتهم باتجاه الحدود الافغانية، بعدما قضوا ستة اشهر من السير عبر الجبال، لجأوا الى اسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، الذي كان في حينه مقيما في افغانستان.

عمل حمدان في خدمة بن لادن على مدى اعوام، بداية في بلدة فرم هادا القريبة من جلال اباد في شرق افغانستان، ثم في قندهار في الجنوب. وتؤكد اللائحة الاتهامية ان «حمدان قام في مناسبات عدة بين 1996 نوفمبر و2001 بقيادة سيارة اسامة بن لادن، او مرافقته الى عدد من معسكرات التدريب التابعة للقاعدة والمؤتمرات الصحافية واللقاءات». وبحسب الاتهام فان حمدان تلقى تدريبا على البنادق والسلاح الابيض والاسلحة الرشاشة في معسكر تابع للتنظيم، كما ارسل اسلحة وذخائر وانواعا اخرى من الامدادات الى اعضاء «القاعدة» وشركائهم.

بنهاية نوفمبر 2001، بعد شهرين على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) القى امراء حرب في افغانستان، التحالف الشمالي المناهض لطالبان، القبض على حمدان قبل ان يسلموه الى القوات الاميركية. وقد اعتقل لمدة ستة اشهر في معسكرات اعتقال اقامتها القوات الاميركية في باغرام وقندهار. وفي مايو (ايار) 2002، تم ارساله الى قاعدة غوانتانامو البحرية الاميركية في كوبا، حيث وجهت اليه في يوليو (تموز) 2003 تهمة «التآمر». لكنه طعن بشرعية المحكمة العسكرية الاستثنائية التي كان مفترضا ان يكون اول متهم يمثل امامها في 2004. وفي يوليو 2006، تلقى الرئيس جورج بوش صفعة قوية من المحكمة العليا في قرارها الذي اعتبرت فيه ان الرئيس الاميركي تجاوز حدود صلاحياته بتشكيله هذه المحاكم. وبعدما نزعت المحكمة العليا الغطاء الشرعي عن هذه المحاكم العسكرية لبضعة اشهر عاد الكونغرس ومنحها شرعيته، التي عمد محامو حمدان مرة اخرى الى الطعن فيها، لكن طعنهم كان مآله الفشل.

خلال جلسات الاستماع الاولية تمهيدا للمحاكمة اكد حمدان، وهو شخص شارد الذهن، انه عانى كثيرا خلال فترة ستة اشهر من الاعتقال قضى فيها القسم الاكبر من وقته في العزل التام، متحدثا ايضا عن جلسة تحقيق مذلة خضع لها على يد محققة.

وعلى الرغم من ان حمدان بالاصل شخص في الصف الثاني من تنظيم «القاعدة»، ولم يكن ابدا من الصف الاول، إلا ان المدعين ذكروا أن حمدان أقر خلال التحقيقات بأنه كان على دراية بأن الطائرة المدنية الرابعة المختطفة، التي سقطت في وقت لاحق على أرض مفتوحة بولاية بنسلفانيا، بعدما تصدى الركاب للخاطفين، كانت ستصطدم بـ«القبة»، في إشارة، على الأرجح، لمبنى الكابيتول الذي يضم مقر الكونغرس وعدد كبير من الإدارات الأميركية، كما أفاد المدعون بأنه تم العثور على صاروخين في صندوق السيارة، التي كان يقودها حمدان، لحظة اعتقاله بجنوب أفغانستان، الا ان دفاع حمدان نفى هذه الاتهامات ودافعوا بأنه كان يستأجر السيارة وكان يعيدها إلى أصحابها، وأشاروا إلى أن موكلهم ربما يكون «مجرماً»، ولكنه ليس «مجرم حرب». وخلال كل هذه الاعوام كان حمدان في قلب الصراع بين الدفاع والادعاء، مما ساهم في ان تعاني شخصيته من اضطرابات نفسية واهتزازات. فقد شهدت المحكمة العسكرية خلافات وكثيرا من الشد والجذب، بين ممثلي الدفاع والادعاء، وكلاهما من العسكريين، وكان الدفاع يرد على الادعاءات بأن حمدان كان مجرد «سائق بسيط»، ليس على اطلاع على خطط بن لادن ومشاريعه، وأنه كان يعمل عنده لمجرد الحصول على أموال وليس لشن هجمات. وكان الشاهد الأول للدفاع في المحاكمة جندي أميركي، قيل إنه كان حاضراً عندما اعتقل حمدان أثناء نقله بسيارته صاروخ «سام 7» المضاد للطائرات، لكن استجواب الجندي من قبل الدفاع لاحقاً أفضي إلى قوله إنه غير متأكد من ان حمدان كان يقود السيارة بنفسه ضمن موكب ضم ثلاث عربات. واشتكى الدفاع مجدداً من أنه لم يتمكن من معرفة كافة الأدلة في الاتهامات المساقة بحق موكله.

وخلال مرافعة الدفاع قال المحامي بريان ميزر لهيئة المحلفين المشكلة من ستة ضباط أميركيين، إن موكله «ليس مقاتلا من القاعدة، بل إنه ليس عضوا فيها». وتابع «لم يكن ايديولوجياً متشددا، بل مجرد موظف حريص على كسب لقمة عيشه». مضيفا «لا يمكن إدانة سائق الجنرال على جرائم ارتكبها الجنرال».

واعتبر ميزر أن حمدان كان مجرد عامل مستأجر يشبه المتعاقدين الذين يوفرون خدمات للقوات الأميركية، و«تغيير الإطارات ومرشحات الزيت» لا يمثل جرائم حرب. اما حمدان نفسه فيقول إنه عمل سائقا لدى بن لادن في أفغانستان لاحتياجه إلى الأجر الشهري البالغ 200 دولار، لكنه ينفي الانضمام إلى «القاعدة» أو مبايعة بن لادن، أو المشاركة في أي هجمات. وضمن الاتهامات الاخرى التي وجهت الى حمدان انه كسب ثقة بن لادن وساعده على الهرب بعد هجمات استهدفت السفارتين الاميركيتين في شرق أفريقيا عام 1998، وبعد هجمات 11 سبتمبر. وكذلك انه عمل حارسا شخصيا وسائقا ونقل وسلم أسلحة وذخيرة وامدادات للقاعدة.

ووصف صحافيون اميركيون في غوانتانامو حضروا جلسات المحاكمة، المتهم اليمني بانه رجل شارد يسير بصعوبة بسبب معاناته من آلام في الظهر. وهذه الوثائق التي كشفها الدفاع افادت ايضا بان المحققين عمدوا على مدى خمسين يوما في عام 2003 الى حرمان حمدان من النوم عبر ايقاظه باستمرار. وكان قاضي أول محكمة أميركية لجرائم حرب منذ الحرب العالمية الثانية، قد منع استخدام أدلة استخلصها محققون من حمدان، بدعوى انه اُخضع لـ«ظروف قسرية للغاية» في أفغانستان. كما رفض القاضي استخدام الادعاء لسلسلة من الاستجوابات في قاعدتي باغرام وبانشير العسكريتيين في أفغانستان، جراء الظروف القسرية البالغة التي أحاطت باستخلاص تلك الإفادات. الا ان أهم اللحظات في محاكمة حمدان كانت عندما سخر خالد شيخ محمد «العقل المدبر» لهجمات سبتمبر المحتجز في غوانتانامو من حمدان، مقللاً من موقع الأخير في التنظيم ككل، عبر الإشارة إلى أنه كان لا يهمه إلا «المال والمتعة». وقال شيخ محمد، خلال شهادة مكتوبة قدمها محامو حمدان، إن السجين اليمني غير متعلم، كما أنه كان سائقاً وليس جندياً، وظل مع زعيم «القاعدة» لأجل راتبه المقدر بـ200 دولار شهرياً. وأوحى شيخ محمد، الذي يصف نفسه بأنه «المدير التنفيذي لهجمات 11 سبتمبر»، بأن حمدان كان أقل شأناً من أن يصار إلى إطلاعه على الخطط، وذلك من خلال قوله إن الأخير «من طبيعة بعيدة عن الحضارة، وغير صالح للتخطيط أو التنفيذ». وأشار شيخ محمد إلى أنه قابل حمدان أكثر من 50 مرة، وكان اللقاء الأخير بينهما في نوفمبر عام 2001، في اليوم الذي اعتقل حمدان فيه خلال محاولته نقل زوجات وأبناء عدد من قادة «القاعدة» من أفغانستان إلى باكستان لحمايتهم من المعارك، خلال التدخل العسكري الأميركي لإسقاط نظام طالبان. واتهم شيخ محمد حمدان بأنه ظل مع بن لادن لأجل الراتب الشهري الذي كان يتقاضاه، قائلاً إن السجين اليمني «لم يكن يشاطر بن لادن الايديولوجيا عينها»، وأن الذين من طينته «لا يبحثون إلا عن المال والمتعة في حياتهم». وكان الإدعاء قد قدم شهادة أخرى من قيادي اخر من «القاعدة» وهو وليد بن عطاش، الذي اكتفى بالإشارة إلى أنه «كان قريباً بما يكفي من بن لادن لمعرفة أن حمدان غير ضالع في تنفيذ أي هجوم». وأشار مورفي ممثل الادعاء في المرافعة الختامية الى ان «حمدان، وهو رجل على سجيته لا يمانع في الكلام، واعترف بالكثير ضد «القاعدة» بعد اعتقاله، كان مقاتلا في «القاعدة» قدم ولاءه الكامل لزعيم هذا التنظيم اسامة بن لادن وبايعه على الموت. واضاف قد لا يكون قاتل المسلمين الا انه كان مستعدا تماما لمقاتلة اي كان من غير المسلمين». وتابع، «كان لدى زعماء «القاعدة» مشاريع ضخمة وهدفهم كان تدمير الغرب وقتل الاف الاشخاص فنجحوا في ذلك.. وكانوا في حاجة الى ناشطين مهوسين، كما هي حال المتهم هنا سالم حمدان». في المقابل قال محامي الدفاع بريان ميزر لهيئة المحلفين ان «حمدان تعاون تماما مع الاميركيين بعيد اعتقاله في افغانستان في نوفمبر 2001. وبحسب الكثير من الشهود الذين مثلوا امام المحكمة، فان حمدان دل المحققين على مخابئ «القاعدة» قرب قندهار معقل طالبان». واليوم وبعد انتهاء المحاكمة واصدار حكم بإدانة حمدان، وهو ما يمكن ان يؤدي الى سجنه مدى الحياة، فإن شخصية الرجل ما زالت غامضة ومحيرة الى حد بعيد. فهل فعلا كان مقربا من بن لادن وعرف بخططه أم إنه مجرد سائق بسيط؟ وهل تعاون حمدان مع الاستخبارات الاميركية بعد اعتقاله دليل انه لم يكن يوما بالتنظيم، ام مجرد طريقة للحصول على حكم البراءة. يقول اسلاميون في لندن ان الـ200 دولار كان بن لادن يدفعها لحمدان ولكثير من العوائل العربية المقيمة بالقرب منه في قندهار كنوع من الكفالة او لقدامى المقاتلين، الذين قاتلوا معه ضد الروس، حتى لو لم يقدموا عملا مباشرا له سوى الولاء له، وهو ما يعني ان حصول حمدان على 200 دولار شهريا من بن لادن لا يمكن ان يكون بحد ذاته دليل ادانة. وأعرب الاسلامي المصري الدكتور هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات بلندن عن قناعته بان المحكمة العسكرية التي حوكم حمدان امامها غير معترف بها دوليا، مشيرا الى ان وجود المحلفين العسكريين كان من نوع ذر الرماد في العيون واضفاء نوع من المصداقية. واكد ان بن لادن كان لديه اكثر من سائق وليس حمدان فحسب، مشيرا الى وجود ضابط اتصال في قندهار من «القاعدة» كحلقة وصل بين زعيم «القاعدة» والسائقين والمستخدمين الذين يعملون لديه.

واكد ان بن لادن بطبيعته رجل كتوم جدا ولا يبيح باسراره الا لخاصة الخاصة مثل نائبه ايمن الظواهري او ابي حفص المسؤول العسكري للتنظيم الذي قتل في الغارات الاميركية على قندهار نهاية عام 2001. واشار الى ان الدليل على ذلك ان بن لادن حتى الان لم يعتقل، فهل من المعقول انه كان يثق في سائقه الخاص حمدان او يقربه منه، ويمنحه اسرار التنظيم. والصورة الان واضحة وهو ان حمدان تعاون مع الاميركيين في مرحلة من التحقيقات نهاية 2001. واوضح السباعي ان من طبيعة الحركات الاصولية في السودان او افغانستان كان السائق في العادة يجلس بعيدا عن اجتماعات قادة التنظيم، مشيرا الى ان بن لادن يعرف ان السائقين سيتعرضون لكمائن قد تؤدي الى اعتقالهم، وهو ما حدث مع حمدان عند عودته في الطريق السريع الى قندهار بعد ايصال زوجته الى ملاذ آمن. واعتبر ان بن لادن كان يثق في سائقه حمدان الى حدود معينة، وكان يعرف انه رجل صالح وتقي، لكن ليس الى حد اباحة اسرار التنظيم امامه. وقال السباعي: ان العهدة في تنظيم سري مثل «القاعدة» كانت تتطلب السرية والكتمان. أي كلما سألت اكثر دارت حول السائل الشكوك اكثر. ومع انه من غير المتوقع ان يؤدي صدور الحكم في قضية حمدان الى اغلاق باب النقاش حول حمدان وشخصيته، الا ان الأيام المقبلة قد تكشف المزيد من خبايا الشخصية ودوافعها، وهل كان ضحية ظروف وضعته في مكان اكبر من حجمه الحقيقي، ام أنه في الحقيقة كان بالفعل ضالعا في الهجمات بطريقة او باخرى، والصورة التي يقدمها لنفسه على انه سائق بسيط يسعى فقط لاعالة اسرته ليست الا طريقة للنجاة.