ليبيا.. على أبواب التغيير

تركيبة النخبة المعقدة والخيارات الجديدة ومنها الانفتاح على أميركا.. تغير أولويات وأشخاص النظام

TT

يبدو المشهد السياسي الراهن في ليبيا متناقضا للوهلة الأولى، فالعقيد معمر القذافي الذي يحكم البلاد منذ 39 عاما ويحمل لقب عميد الحكام العرب، باعتباره أطولهم بقاءً في السلطة، يعترف علانية بأن تجربة الديمقراطية المباشرة، التي يطبقها وفقا لنظريته الجماهيرية الثالثة الواردة في «الكتاب الأخضر» قد وصلت اليوم إلى منتهاها، فيما نجله الثاني، سيف الإسلام القذافى يلوح غاضبا بالرحيل تاركا غصة في حلق كل من راهنوا على أن الإصلاح والتغيير المنشود في ليبيا سيأتي على يديه.

لكن هذه الصورة لا تعكس تماما حقيقة المشهد، ذلك أن إعلان سيف الإسلام القذافى مؤخرا اعتزاله العمل السياسي وتهديده بالاختفاء لبعض الوقت، بعدما انتهى زمن المعارك الكبرى، على حد تعبيره، قد صاحبته تحركات هامشية توحي بأن الهدف الحقيقي ليس الانسحاب تماما من على الساحة السياسية، بل العودة بشرعية جديدة يكتسبها هذه المرة من الشارع الليبي نفسه.

الصحف الجديدة التي أسستها «شركة الغد» التابعة لمؤسسة القذافي للتنمية، التي يديرها سيف الإسلام القذافي منذ سنوات، تقود حملة لحشد الرأي العام، خاصة الشباب للمطالبة بعودته. وحركة اللجان الثورية التي تعتبر العمود الفقري للنظام الجماهيري، التي دشنها القذافي عادت بعد انتقادات علنية وصريحة وجهها إليها سيف الإسلام بدأب شديد على مدى السنوات الأخيرة، لتنضم هي الأخرى إلى هذه الحملة.

على مدى اليومين المقبلين سيحتفل القذافي بذكرى تسلمه مقاليد الأمور بعدما أطاح في مطلع شهر سبتمبر( أيلول) عام 1969 بنظام حكم الملك الراحل إدريس السنوسي، وسيلقى القذافي كما هو متوقع خطابا علنيا انطلاقا من مدينة بنغازي الساحلية بهذه المناسبة، سيتعرض فيه وفقا لمصادر ليبية، إلى الجدل الدائر حول الوضع السياسي لنجله الثاني سيف الإسلام.

احتفالات القذافي بالثورة هذا العام تبدو مختلفة للغاية، فهو سيستقبل في خيمته البدوية الشهيرة سليفيو بيرلسكونى رئيس الوزراء الايطالي للتوقيع على اتفاق تمنح بمقتضاه ايطاليا ليبيا تعويضات مالية عن فترة احتلالها في عشرينات القرن الماضي، كما سيعقد القذافي أول اجتماع علني مع وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، إيذانا ببدء حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الليبية الأميركية.

لقاء رايس مع القذافي سبقته رحلة طويلة من العداء التاريخي، الذي ورثته إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش من الإدارات التي تتالت على حكم البيت الأبيض، لكن القذافي رأى أن الوقت قد حان لوقف سياسة مناطحة أميركا، والدخول معها في المقابل في شراكة سياسية واقتصادية جديدة، علها تساهم في إحداث نقلة نوعية في الداخل الليبي. هنا تحديدا يجب الانتباه، كما يرى محللون سياسيون، إلى أن تلك المرحلة الجديدة من العلاقات بين واشنطن وطرابلس تتطلب تهيئة للمناخ السياسي في ليبيا، فالشارع الذي تربى على أن الولايات المتحدة هي أكبر الأعداء بعد إسرائيل سيتعين عليه أن يرحب بالعم سام. مسؤول ليبي بارز قال لـ«الشرق الأوسط»: هذه مرحلة سيف الإسلام.. يحتاج النظام إلى وجه جديد وشاب ومحل ثقة ولديه أدواته الجاهزة، كل هذه المؤهلات تنطبق على سيف الإسلام». يمتلك نجل العقيد القذافي شبكة علاقات دولية، ليس فقط بحكم كونه ابن القذافي، بل أيضا بحكم الميزانية المخصصة لنشاطاته. لكن لماذا اختار سيف الإسلام أن يبتعد الان عن الواجهة السياسية؟ يقول معارضون ليبيون، إن هذه كانت خطة القذافي لتقديم ابنه على نحو مختلف للشعب الليبي. ويشرح ناشط ليبي مقيم في الولايات المتحدة لـ«الشرق الأوسط» الأمر بقوله: «كان الهدف تقديم سيف الإسلام كمعارض للنظام من الخارج لتفتيت المعارضة الليبية ولتكوين شعبية جماهيرية عبر محاولة الترويج للإصلاح ومحاربة الفساد». وخلافا لأشقائه الذين يشغلون مناصب أمنية وعسكرية، لا يحتل سيف الإسلام أي منصب رسمي في الدولة الليبية تماما كوالده الذي يرفض حتى تسميته بالرئيس الليبي، مفضلا لقب: الأخ قائد الثورة. يريد سيف الاسلام ان يبدأ مسيرته السياسية بشكل جديد مختلف. وربما لهذا السبب اختار سيف الإسلام تعبير «ليبيا الغد» لتدشين حملة ترويجه في هذا السياق، عبر تبنيه مبادرات حقوقية طموحة كشف في بعضها عن ملابسات تدين بعض رموز الحكم بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان في حقبتي الثمانينات والتسعينات.

لكن المدهش أن بعض من ترددت أسماؤهم على ألسنة ممن تعرضوا لهذه الممارسات في أشرطة مصورة وزعتها مؤسسة القذافي للتنمية عبر شبكة الانترنت، وخاصة موقع «يوتيوب»، هم الآن في عداد الموتى، كما يقول قيادي بارز في المعارضة الليبية في الخارج.

ويتابع: «هي محاولة تحميل هؤلاء الموتى مسؤولية ما حدث، وتنقية سجل النظام الليبي من تلك الممارسات. الجميع رابح من تلك المعادلة، وحصل على ما يريده. فالنظام برأ ساحته والمسؤولية ألقيت على كاهل من لا وجود لهم. وسيف الإسلام بدا بطلا شعبيا لأنه فضح ما حدث». لكن كيف هي تركيبة الحكم في ليبيا اليوم؟ يقدم الدكتور محمد زاهي المغيربي الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة قار يونس في بنغازي، قراءة لواقع النخبة السياسية في ليبيا، حيث يحدد في دراسة له 5 مراكز للقوة والنفوذ ضمن بنية هذه النخبة، وهي: اولا، العقيد القذافي، ثانيا، الأعضاء الباقون من مجلس قيادة الثورة الأصلي، ثالثا، قيادات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، رابعا، اللجان الثورية، وخامسا التكنوقراط أعضاء اللجنة الشعبية العامة (أو مجلس الوزراء). ويرى زاهي بوضوح أن تأثير وقوة هذه المراكز ليست متساوية، وتتفاوت من وقت لآخر، مع تربع العقيد القذافي على قمة بنية النخبة من حيث التأثير والقوة لكونه قائد الثورة، مما يعطي لتوجيهاته وتعليماته شرعية لا تتوفر لسواه.

ويمثل التكنوقراط المستوى الخامس والأقل أهمية من مراكز السلطة ضمن بنية النخبة في ليبيا، ويتكون من أعضاء مجلس الوزراء الذين على الرغم من أنهم يمثلون أعلى مستوى للسلطة التنفيذية في ليبيا، فإن سلطتهم وتأثيرهم الحقيقي والفعلي لا يرقى إلى مستوى سلطة وتأثير مراكز القوى الأخرى.

ويرى زاهي أن النظام السياسي الليبي يعتمد على قاعدة ضيقة من النخبة التكنوقراطية، تتراوح ما بين 20 – 30 شخصا، في تسيير مختلف القطاعات المهمة والرئيسية، وحتى في حالة عدم تولى هؤلاء الأشخاص مناصب وزارية، فإنه يتم تكليفهم بمهام ومناصب أخرى في بعض القطاعات الرئيسية، مثل أمانة مؤتمر الشعب العام ومجلس التخطيط العام والأمم المتحدة والجامعة العربية وبعض السفارات المهمة وغيرها.

تحييد النخبة على هذا النحو سبقه تحييد مجلس القيادة التاريخي للثورة، فمن بين أعضائه الـ12 الذين قاموا بثورة عام 1969، لا يوجد سوى خمسة فقط على قيد الحياة، أولهم الرائد عبد السلام جلود الذي كان إلى مطلع التسعينات بمثابة الرجل الثاني في النظام، يليه الرائد عبد المنعم الهوني، الذي يتولى حاليا منصب مندوب ليبيا لدى الجامعة العربية، بعدما أمضى قرابة ربع قرن في معارضة القذافي انتهت بمصالحة بينهما.

ويبقى أبو بكر يونس جابر الذي يشغل نظريا حقيبة الدفاع، لكن لأن الجيش لم يعد له رسميا أي وجود، فالمنصب بلا اختصاصات تقريبا، فيما تحول الخويلدي الحميدي ومصطفى الخروبي إلى متابعين لبعض الأنشطة المحلية. هؤلاء يلعبون أحيانا دور مستشار النظام الخفي، بيد أن القذافي عين ابنه الأوسط المعتصم مستشارا للأمن القومي وهو منصب مستحدث نسبيا لم يكن له أي وجود في السابق.

وسط تركيبة النخبة هذه يبقى السؤال وهو: ولماذا الآن يختار سيف الإسلام التلويح بالانسحاب؟ يقول فايز سويري رئيس تحرير صحيفة «ليبيا اليوم» الالكترونية المستقلة: «لا يزال المشروع الذي يطرحه سيف الإسلام، بمباركة العقيد القذافي، يخوض معارك واسعة وصعبة مع عقلية مقاومة التغيير، التي تهيمن على أطراف عديدة بعضها داخل المنظومة السياسية وبعضها خارج المنظومة السياسية».

ووفقا لتقدير فايز الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من مقره في العاصمة البريطانية لندن، فانه وبعد ثلاث سنوات من طرح هذا المشروع يظهر أنه قد آن الأوان لتوحيد مشروع سيف الإسلام الإصلاحي مع مشروع الدولة، التي عبر عنها سيف الإسلام بوصف الجماهيرية الثانية، «جماهيرية الدولة»، والمؤسسات والقانون والدستور، وقاعدة الشرعية الشعبية كشرعية وحيدة فيها، وبضمانات من رأسمال اجتماعي متمثل في مجتمع أهلي قوي وحاضر بمؤسساتها وبرامجه، وقضاء نزيه، وصحافة مستقلة.

هذا السيناريو يعنى أن المشروع انتقل إلى طور جديد من خلال تحوله من مبادرة من خارج المنظومة إلى نسق عام يهيمن على المنظومة واعتماده بشكل رسمي كخيار سياسي واقتصادي للدولة برعاية الرئيس القذافي، وبالتالي فان سيف الإسلام سينتقل إلى الخلف قليلا أثناء فترة نقل المشروع من «مبادرة فردية» إلى «خيار دولة» تحت رعاية القذافي.