محنة هاني أمام السفارة

مصريون ينتظرون تأشيرات المرور للخارج.. عبر معجون الأسنان ومقاس الحذاء وعلى أي جنب تنام؟

معاناة المصريين أمام السفارات المصرية في الداخل والخارج مستمرة («الشرق الاوسط»)
TT

في حواديت كتاب خالد الخميسي «تاكسي: حواديت المشاوير»، الذي حقق مبيعات قياسية في القاهرة طوال العام الماضي، يحكي سائق تاكسي عن إعجابه الشديد بالرئيس الراحل محمد أنور السادات، لأنه قرر جمع 100 يوناني في القاهرة وترحيلهم جوا بعد ترحيل السلطات اليونانية لبعض المصريين هناك على ظهر سفينة للإسكندرية. القصة برمتها قد تكون غير حقيقية، ولكن كان أسلوب حكي الخميسي يدل على أنه يتمنى أن تكون القصة حقيقة، لاشتراكه مع غيره من المصريين، في شعور عام بالمرارة بسبب طريقة التعامل معهم، إذا فكر أحدهم في الذهاب للحصول على تأشيرة سفر لأوروبا أو أميركا.

هاني واحد ممن يملكون قدرا كافيا من المرارة، فقد بدأت رحلته مع السفارات منذ خمس سنوات عندما أراد السفر لأرض الأحلام، اميركا، لعله يحقق شيئا من أحلامه، التي طالما تدفقت أمامه وهو يرى أبناء بلدته عائدين صيفا من أوروبا محملين بكل ما لم يستطع خياله أن يصل إليه. في حي جاردن سيتي الراقي بوسط القاهرة، الذي يحتضن السفارة الأميركية، كان عليه أن يبدأ خطوته الأولى نحو تحقيق «أحلام الصيف» وهناك فوجئ «بطابور الألم»، مئات من الشباب والعجائز والنساء بعضهم يقف انتظارا لتأشيرة علاج، وآخرون يأملون في الدراسة أو السياحة، أما الأغلبية فكانت مثله تطمع في تأشيرة سياحية يطأ عن طريقها بلاد العم سام، وهناك يرتب أوضاعه.

بعد ساعات من الانتظار دخل هاني ليقابل الموظفة المسؤولة عن قبول الأوراق، تصور أن معه كل الأسلحة القادرة على إسكاتها، كشف حساب بنكي بسبعين ألف جنيه مصري، وأوراق تثبت ملكيته شركة استيراد وتصدير، وبطاقة ضريبة، وسجل تجاري بنشاطه في مصر. بدا هاني واثقا من قبوله، خاصة أنه استفاد من خبرة سابقيه في تلك المقابلات، وجهز نفسه للعمل بنصائحهم. كانت «أحلام الصيف» تتجلى أمامه، فأنسته متاعب السفر من قريته بالمنصورة والاستيقاظ مبكرا للحاق بدوره، لكنه استيقظ على استجواب الموظفة الأميركية له بلغة عربية «حديثة الاستعمال»: «من أين أتيت بتلك الأموال وأنت مازلت في الخامسة والعشرين؟ أجابها: لقد ورثتها عن عائلة أبي وأمي. تسأل: لماذا لم يدر والدك تلك الشركة بنفسه؟ فيجيب: لأنه موظف حكومي والقانون يمنعه من ذلك. تسأل: ماذا ستفعل في أميركا؟ فيجيب: من حقي أن أسافر لأي مكان في الدنيا للسياحة و«الشوبنغ».

ترد عليه المسؤولة بتوجس: ولكن نحن نستقبل سنويا 4 آلاف شخص على الأقل يقولون نفس الشيء، ثم نفاجأ بهم عمالة غير شرعية في اميركا؟ يجيب هاني: أنا غير مسؤول عن أي شخص آخر غيري. هكذا دار الحوار بين هاني والموظفة الأميركية في السفارة لربع الساعة، ثم انتهي على جملة صادمة «أوراقك ليست قوية، من الممكن أن نستقبلك في مرة قادمة عندما تعدل بياناتك».

كاد هاني ينهار وهو يرى جهده الذي بذله على مدى شهور يذهب سدى، ما بين الشهر العقاري والضرائب والغرفة التجارية واللف على الأقارب لتحويل رصيد بنكي باسمه، وبعد أن انتهى من ذلك.. ها هو يجر أذيال الخيبة.

يقول هاني لـ«الشرق الأوسط»: كانت كل الأوراق بالطبع صورية وإن كانت سليمة قانونيا، ولكن لماذا تطلب مني هذه الأوراق أصلا، وما علاقة الحساب البنكي والسجل التجاري بحقي في السفر والتنقل والعمل، وهل مصر تطلب ذلك من رعايا الدول الأخرى كي يدخلوها؟». أسئلة كثيرة طرحها هاني متألما مما حدث معه في السفارة قبل أن يؤكد أنه شاهد بعينيه رجلا محترما يمزق أوراقه أمام الجميع اعتراضا على أسلوب الاستجواب الذي مارسته معه موظفة أخرى افترضت أنه يكذب، فكان مصيره جره للخارج برفقة رجال أمن السفارة.

المهم أن هذه المرارة لم تمنع هاني من تكرار المحاولة مرة أخرى بعدها بشهور، ولكن كانت الإجراءات قد تغيرت، اختفى الزحام والطوابير وإن لم تختف المرارة. كان عليه أن يأخذ موعدا تليفونيا كي يذهب لتقديم أوراقه، والمدة قد تطول لستين يوما، ثم يدفع حوالي 600 جنيه مصري ثمنا لأوراق التقديم، ثم يكرر نفس المقابلة التي فعلها في السابق وينال الرفض. يقول هاني: «المسألة سبوبة، شوف كام واحد عايز يسافر. دول عايزين يمصوا دمنا وكمان بيعاملونا كده». هكذا برر هاني سبب تراجعه عن التقدم مرة أخرى لتقديم أوراقه للسفر لأميركا.

هذه المعاناة لا تقتصر على من يتوجهون للسفارة الاميركية، فالسفارة الإيطالية في القاهرة مثلا تعلق على أحد جدرانها البادية للعيان بيانا مطبوعا يشدد على ضرورة الاتصال بها قبل تقديم الأوراق لمعرفة البيانات المطلوبة وتحديد الموعد، علما بان ثمن الدقيقة التليفونية جنيهان مصريان.

لكن هذا لا يمنع من المحاولة، فبعد سنوات من التجربة المؤلمة لهاني مع السفارة الأميركية، خاض هاني تجربة أكثر ألما مع السفارة البلجيكية. كان قد هجر قريته مؤقتا وعمل في السياحة بمدينة الغردقة، وهناك تعرف على سائحة بلجيكية ثم تطورت العلاقة إلى زواج. عادت مرة أخرى «أحلام الصيف»، ولكن سرعان ما تحولت لكوابيس. ذهب هاني برفقة زوجته إلى السفارة البلجيكية للحصول على ورقة بدل ممانعة للزواج، وبعد أسئلة وصفها بـ«المتأففة»، مثل: أين عرفته؟ ولماذا تزوجته؟ تم منحهما الورقة. وفي الشهر العقاري تم توثيق الزواج، ثم ذهبا مرة أخرى للسفارة لنيل التأشيرة. وهناك كان هاني جاهلا بالأوراق المطلوبة، جواز السفر وقسيمة الزواج المترجمة و4 صور شخصية له وشهادة الميلاد. عادت الأسئلة تلاحقه. يقول هاني: «هل تصدق إنهم سألوني عن معجون الأسنان الذي تستخدمه زوجتي، ومقاس حذائها ولون عينيها الحقيقي والأدهى سألتني الموظفة: بتنام على جنبك اليمين ولا الشمال؟».

يضيف هاني: «بعد الاستجواب السخيف سلمت كل أوراقي، وانتظرت الموافقة على منحي التأشيرة، وطالت المدة حتى وصلت لثمانية أشهر، ثم فوجئت بجواز السفر وبقية أوراقي تأتيني على عنوان المنزل ومعها ختم الرفض بدون ابداء أسباب». تبددت أحلام هاني مرة أخرى وها هو مثل «البيت الوقف»، لا يستطيع اللحاق بزوجته ولا يقدر على مواصلة حياته في بلد آخر ويتركها. والحل المتاح أمامه حاليا أن تأتي هي وتعيش معه في مصر.

إذا كانت معاناة هاني سببت له بعض المرارة، والغصة لا تزال عالقة في حلقه إلى الآن، فإن فايق، الذي ينتمي لنفس بلدته كان على موعد مع مأساة بمعنى الكلمة. كان فايق مدرسا للغة العربية وبعد عد جولات في الخليج عاد بحصيلة عمله واستقر في القاهرة. كان أبوه مقاولا ميسورا، ولظروف مرضه استقال من عمله وتفرغ للمقاولات بدلا منه.

رست عليه بعض الإنشاءات الحكومية، وتأخرت الحكومة في دفع مستحقاته، ولم يصبر عليه العمال وتجار الخامات وتضاعفت ديونه، خاصة مع مروره بفترة كساد وندرة ما يتم صرفه من «المستخلصات» الحكومية له. تكاثرت ديونه، ولم يجد أمامه إلا الحل السحري.. السفر لأرض الأحلام. أعد عدته قبيل الطابور الشهير، وكان أبرز العقبات أمامه، كشف الحساب البنكي، لكنه وجد ضالته في قريب له أوهمه بقدرته على إحضاره له بكل سهولة. وذهب فرحا بهدية الصديق. أكد له موظفو السفارة أن التأشيرة على بعد ساعات منه. طالت تلك الساعات حتى وجد نفسه في سيارة للشرطة أقلته إلى قسم قصر النيل متهما بتزوير كشف الحساب. وبعد أخذ بصماته وتصويره كمذنب تم ترحيله للنيابة وهناك تبين أنه وقع ضحية فتم إخلاء سبيله. لم يستسلم فايق، وأعاد الكرة أكثر من مرة في سفارات أخرى حتى أنقذه صديق له وأرسل له دعوى لبلجيكا وبعد مضايقات شبيهة سافر. ومنها انتقل لألمانيا، التي عاش بها لاجئا اقتصاديا لمدة عام ثم تزوج ألمانية واستخرج أوراقا رسمية قبل أن يعود جثة هامدة بعد إصابته بالسرطان. «راح في شهرين بس»، هكذا استطرد هاني بعد أن امتزج صوته بمزيد من المرارة. وهو الان وبعد أن تجاوز سنه الثالثة والثلاثين يبحث من جديد عن فرصة سفر.