أسوأ من الحرب الباردة

جنون اضطهاد روسي ومقامرة جورجية.. وحرب بلا منتصر

مواطنون من اوسيتيا الجنوبية يرفعون صورة رئيسهم في فصول أحد المدارس بعد اعلان استقلال الجمهورية عن جورجيا («الشرق الاوسط»)
TT

التدخل الروسي في جورجيا يمكن أن يكون الى حد كبير بمثابة تشكيل جديد للبيئة الجيوسياسية لما بعد الحرب الباردة. فهذا التدخل يمثل أزمة كبيرة في العلاقات الروسية ـ الغربية، إضافة إلى المحاولة الواضحة من موسكو لتأكيد سطوتها في الجوار وما وراءه. وقف الغرب عاجزًا عن محاولة منع أو احتواء التدخل الروسي في جورجيا، كما وقف عاجزا أمام كبح الممارسات الجورجية ضد الأقلية الأوسيتية وإقليمها المنفصل أوسيتيا الجنوبية والتي جاءت كالشرارة التي أججت نيران الصراع الحالي. وفي الوقت الذي أعلن فيه حلف الناتو يوم الثلاثاء الماضي «أن الحال مع روسيا لن يكون كما كان من قبل» فإن التداعيات البعيدة المدى لهده الأزمة من الصعب التنبؤ بها الآن.

فقد بات جليًا أن النظام العالمي الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة عام 1989 والذي بني على فرضيات التعاون والشراكة الاستراتيجية بين روسيا والعالم، لم تعد هذه الفرضيات تعكس حقيقة هذا النظام العالمي الجديد الذي تشكل كنهاية للحرب الباردة. فبدلاً من أن نشهد حربا باردة جديدة بتنا نشهد مرحلة من الشكوك والغموض، إذ يبدو أن التوتر في العلاقات الروسية ـ الغربية حول العديد من القضايا بات يهدد بإضعاف المؤسسات الدولية ويحيي المنافسة ويزيد من إعلاء دور القوة العسكرية وإضعاف الوحدة الدولية. لقد عادت روسيا: تُمثل الأعمال العسكرية الروسية الحالية تجاه جورجيا أول استعراض استراتيجي لقوتها العسكرية في دولة خارج حدودها، غير أنها قريبة منها في ذات الوقت. وفي بداية التسعينيات عندما بدأت حرب القوقاز كان الرد الروسي فوضويًا لأن موسكو كانت تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية طاحنة. لكن التدخل الروسي هذه المرة هو استعراض للقوة المدعومة بالاستراتيجية السياسية والدعم الشعبي في الداخل. وقد أعقب تلك الحرب عقد من الزمن حاولت فيه روسيا إعادة تأسيس نفوذ اقتصادي وسياسي في أعقاب الحقبة السوفياتية وتنامي استعدادها لتحدي المخططات الغربية لضم حلفائها السابقين إلى المؤسسات الغربية كحلف الناتو. كما يأتي التدخل الروسي في جورجيا في أعقاب عام من تنامي التوترات في العلاقات مع الغرب والذي تصاعد في الشهور الأخيرة بشأن وضع كوسوفو ومحاولة الولايات المتحدة نشر أنظمة الدرع الصاروخي في أوروبا الوسطى ودعم إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش لعضوية كل من جورجيا وأوكرانيا في حلف الناتو. كل تلك الأحداث التي أحس فيها الروس بنوع من التهديد أقنعت بوتين ـ الذي ظل متمتعًا بسلطة اتخاذ القرارات الاستراتيجية في روسيا، حتى بعد انتقال السلطة الرسمي لخلفه المكبل ديمتري ميدفيديف ـ بأن الغرب يخطط لعملية «احتواء روسيا» متجاهلاً مصالحها الاستراتيجية ومحاولاً تطويقها عبر قواعدها الأساسية من خلال دول أعضاء في حلف الناتو وأنظمة غير صديقة مثل جورجيا. والكثيرون في المؤسسات السياسية الروسية يعتقدون أن الهدف النهائي الذي يسعى إليه الغرب هو تغيير النظام الحاكم في روسيا ذاتها والسيطرة على مواردها الضخمة. عملت تلك التركيبة أو جنون الاضطهاد (البارانويا) والعزلة الذاتية من ناحية، والثروات المتنامية والثقة بالذات من ناحية أخرى على تشكيل لب القرار الروسي بالتدخل في جورجيا. وبدخول جورجيا تكون موسكو قد بعثت بأقوى رسائلها، وهي أنها قد عادت لتأكيد سطوتها في المنطقة وربما فيما وراءها. والثقة الروسية يغذيها التماسك السياسي الداخلي والثروة الاقتصادية الكبيرة التي انهالت على روسيا نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة. وهي تشعر الآن أنها قوية بما يكفي ليس لمعارضة خطط الولايات المتحدة بشأن كوسوفو أو العراق بل لاستخدام القوة المسلحة بالرغم من المعارضة الشديدة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغالبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن.

المقامرة الجورجية: التدخل الروسي في جورجيا تأتي خلفه أسباب معقدة ممتزجة باعتبارات جيوسياسية إقليمية ودولية عالمية، وقد كانت العلاقات الروسية ـ الجورجية تترنح على شفير الحرب منذ سنوات، ولم يكن الأمر مدهشًا إن كان ذلك التصعيد قد حدث.

ويعزي الكثير من المحللين التحرك الروسي إلى قلقها حيال أمنها، فعلى مدار عقد مضى كانت موسكو تشعر بالقلق بشأن أمنها في إقليم القوقاز الشمالي المشتعل ـ حيث خاضت حربين مع الانفصاليين الشيشانيين ولا يزال التمرد والإرهاب نشطين هناك ـ الذي يجاور روسيا وإقليميها المنفصلين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ولقد ذاقت روسيا تبعات تلك الصراعات عندما لجأ أكثر من 50.000 أوسيتي من جورجيا إلى شمال القوقاز الروسي. وفي السنوات الأخيرة أبدت روسيا قلقها من أن تصاعد الصراعات في أوسيتيا وأبخازيا يمكن أن يهدد استقرار شمالي القوقاز مرة أخرى. علاوة على ذلك فإنه بالإضافة إلى أن المواطنين الأوسيتيين الذين سكنوا أوسيتيا الجنوبية حصلوا على الجنسية الروسية، حذرت روسيا جورجيا مرات عديدة من أنها ستعمد إلى حمايتهم إذا ما أقدمت جورجيا على مهاجمتهم.

وفي 7 أغسطس (آب) أرسل الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي دباباته ومدفعيته لتقصف السكان في أوسيتيا الجنوبية المنفصلة، وهو يعلم يقينًا أنه بذلك يندفع نحو المواجهة العسكرية مع روسيا. علاوة على ذلك ستؤدي تلك الأفعال التي راح ضحيتها مئات المواطنين من أوسيتيا إلى كارثة إنسانية وستجعل من الصعوبة بمكان على الغرب دعمه. ويعتقد الكثيرون أن إرسال القوات إلى أوسيتيا الجنوبية كان نتيجة لسوء التقدير من ساكاشفيلي.

ولم تخرج أي من روسيا أو جورجيا من تلك الحرب رابحة، فقد أظهرت روسيا قوتها العسكرية ضد دولة جارة ضعيفة، لكنها خسرت الدعم الدولي ودعوة الكثير من الدول إلى طرد روسيا من المنظمات الدولية مثل مجموعة الثماني ومنع دخولها إلى منظمة التجارة العالمية. ومدى هزيمة روسيا سياسيًا واضح في عدم تقديم أي دعم لها سوى من دولة كوبا التي أيدتها صراحة في تدخلها في جورجيا. وربما يكون التدخل الروسي قد أنقذ الآلاف في أوسيتيا من القتل أو التشريد من قبل القوات الجورجية لكنه لم يمنع وقوع مئات الضحايا ودمار الإقليم. وعلى الجانب الآخر عانت جورجيا من الإذلال والاحتلال وتشريد أكثر من 150.000 لاجئ ومئات الضحايا وخسائر اقتصادية ضخمة والأكثر من ذلك هو خسارة إقليميها ـ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ـ واللذين لن تتمكن من استعادتهما بعد الأعمال العسكرية التي قامت بها ضد سكانهما. ولقد نجح ساكاشفيلي في تعزيز الجبهة الداخلية الجورجية ضد الاحتلال الروسي، لكن ما ان تنسحب القوات الروسية من الأراضي الجورجية حتى سيسارع الكثيرون إلى المطالبة بمساءلته على قراره بغزو أوسيتيا. غير أن جورجيا نجحت في تحقيق بعض النتائج المهمة، فساكاشفيلي كان على حق في أنه باستفزاز روسيا للتدخل، فإنها لن تتمادى كثيرًا، وأنها بذلك تدفع نفسها إلى العزلة الدولية وتمهد الطريق في النهاية إلى تدخل دولي أكبر لاستصدار قرار لصالح جورجيا. علاوة على ذلك فإنه بالرغم من بدء جورجيا الصراع ومعاناتها لمرارة الهزيمة العسكرية من الروس، إلا أن الجورجيين خرجوا من هذا الصراع مدعومين بصورة أكبر من أوروبا والناتو والولايات المتحدة.

الغرب ضعيف ومنقسم: بعيدا عن الخسائر الروسية والجورجية فقد الغرب الكثير من مصداقيته في هذا الصراع، فاستجابة المجتمع الدولي لكل من الاعتداء الجورجي أو الرد الروسي كان بطيئًا ومتأخرًا جدًا.

ومنذ الثورة الوردية الجورجية كانت الولايات المتحدة أقرب حليف لجورجيا. فقد دربت قواتها المسلحة وأمدتها بالدعم السياسي ودعمت عضويتها في حلف الناتو. فلماذا لم تتدخل لمنع الرئيس ساكاشفيلي من ارتكاب هذا الانتحار السياسي في أوسيتيا؟ وإذا كانت الولايات المتحدة كما يعتقد الكثيرون مناصرة للخطط الجورجية فلماذا لم تقدم الدعم لهم بدلاً من التصريحات السياسية الجوفاء؟

علاوة على ذلك لم تكن للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي القدرة على التأثير على القرارات الروسية، ولم تبد أي من دول الناتو استعدادها للتدخل العسكري لدعم جورجيا ضد روسيا. وعلى الجانب السياسي، بالرغم من الانشقاق الواضح بين الاتحاد الأوروبي والناتو في الوقت الذي فقدت فيه واشنطن الكثير في العراق والبلقان حيث تدخلت دون أي تفويض دولي، استغلت روسيا المبدأ الغربي بـ«فرض السلام» و«مسؤولية الحماية» لتبرير أعمالها.

وبعد عدة أيام من توقيع الرئيس ساكاشفيلي قرار وقف إطلاق النار الذي توسط فيه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تجاهلت روسيا إعلان واشنطن وبلجيكا بسحب قواتها من جورجيا. وحتى اليوم يبدو أن الغرب ليس بإمكانه فعل الكثير لإجبار روسيا على سحب قواتها من جورجيا أو قبول وحدة الأراضي الجورجية.

وعواقب هذا الفشل في منع واحتواء العنف ستظل باقية معنا لسنوات عدة قادمة، وستتمثل تلك العواقب في منح روسيا السلطة لتحدي الغرب أكثر وأكثر في ساحته الخلفية. يعتقد الكثير من الخبراء أن أوكرانيا يمكن أن تكون الهدف التالي لروسيا، وأوكرانيا مثل جورجيا إحدى دول الاتحاد السوفياتي السابق التي تسعى إلى الحصول على عضوية الناتو في الوقت الذي تظل فيه تحت التأثير الروسي. هذه التطورات كلها قد تكون أسوأ من الحرب الباردة.

* زميل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ـ لندن