المنعزلون.. لغويا

سؤال: ماذا تسمي من يتكلم لغتين؟ أسميه يتكلم لغتين * سؤال آخر: ماذا تسمي من يتكلم لغة واحدة؟  أسميه أميركياً

مترجم لاتيني يترجم لأميركيين من أصول اسبانية الصلاة من الانجليزية للاسبانية في ولاية يوتا («الشرق الاوسط»)
TT

في الاسبوع الماضي، وخلال ندوة انتخابية في اتلانتا بولاية جورجيا، اقترح السناتور باراك اوباما، مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية، أن يتعلم الاميركيون اللغة الاسبانية، وذلك: اولا: لتكون لهم لغة اجنبية، لأن الاميركيين من اقل الشعوب التي تتحدث لغة اجنبية. ثانيا: لحل المواجهة المستمرة بين المهاجرين الذين يريدون الكلام بالاسبانية، والذين يريدون منعها، والاكتفاء بالانجليزية.

وقال اوباما: «ليعمل كل واحد منا على تعليم اولاده وبناته الاسبانية». لكن، اعترض كثير من الاميركيين، وخاصة البيض، بالذات المعارضين منهم للهجرة الاجنبية. وقال مارو ميويكا، رئيس لجنة «يو اس انغلش» (اميركا انجليزية): «يفكر السناتور اوباما بطريقة النخبة المتعجرفة التي لا تعرف مشاكل المواطن العادي. هذا بالاضافة الى انه يعارض تيارا تاريخيا عمره مئات السنين بأن الولايات المتحدة هي وعاء ذوبان».

هذه مشكلة كبيرة تشغل بال الاميركيين، ما بين مؤيد ومعارض ومحايد ومحتار. في الشهر الماضي، قدمت السيناتور هيلاري كلينتون في الكونغرس مشروع قانون لتشجيع المهاجرين على تعلم اللغة الانجليزية. واقترحت زيادة ميزانية وزارة التربية، وبداية برنامج سمته «فاميلي ليتراسي» (تعليم العائلة). وتقديم اغراء بخصم 1500 دولار من مدرسي اللغة الانجليزية الذين يتخصصون في تعليم العائلات الاجنبية.

الموضوع لا يهم الديمقراطيين فقط. فقبل سنتين، ناقش الكونغرس اصدار قانون جديد عن الهجرة والمهاجرين، بهدف حسم كل مشاكلها. لكنه فشل بسبب اختلاف بين الرئيس الاميركي جورج بوش وقادة حزبه، الحزب الجمهوري، في الكونغرس. منذ ان كان حاكما لولاية تكساس (حيث اقلية مكسيكية كبيرة جدا، وحدود مع المكسيك) تعلم بوش التسامح والاعتدال مع هؤلاء. لكن أثار كثير من قادة الحزب الجمهوري دعايات عن خطر المهاجرين، وتهديدهم للأمن الاميركي.

وبعد نقاش طويل في الكونغرس، تراجع بوش، وقال في خطاب في كلية مهنية فيها كثير من المهاجرين المكسيكيين (قانونيين وغير قانونيين) في اوماها بولاية ايداهو: «سنبدأ برنامجا اسمه اميركا الجديدة، بهدف دمج كل الناس في المجتمع الاميركي، بداية من تعليم كل واحد اللغة الانجليزية».

ومؤخرا، سافر مراسل مع جريدة «نيويورك تايمز» الى هارتفورد عاصمة ولاية كونيتيكت لمقابلة بعض «المنعزلين لغويا». فـ 40% من سكان المدينة هم من المهاجرين الذين يتكلمون الاسبانية. حتى العمدة، ايدي بيريز، منهم. وقال: «انا عمدة مدينة لاتينية في بحر من الانغلوساكسون». كما أن نصف تجار المدينة يتكلمون الاسبانية، ولهذا، انعكس الوضع، وصار الذين يتكلمون الانجليزية يحتاجون للاسبانية للمعاملات اليومية. وتهكما، وصفت «نيويورك تايمز» هؤلاء بأنهم «منعزلون لغويا».

زار مراسل «نيويورك تايمز» منازل لا يتكلم فيها كبار السن اي كلمة انجليزية. لكنه لاحظ اشياء منها: اولا: يقوم صغار السن بالترجمة اذا خرج الاب او الام الى متجر او مطعم (ويجدون حرجا امام اصدقائهم الاميركيين). ثانيا: توزع المدينة كثيرا من المعلومات بالاسبانية (لا يشجع هذا هؤلاء لتعلم الانجليزية). ثالثا: يعيش هؤلاء وكأنهم لا يعيشون في اميركا لانهم يشاهدون تلفزيونات بلادهم، ويستمعون الى اذاعاتها، بالاضافة الى تلفزيونات واذاعات محلية بلغتهم. ولهذا، قويت في المدينة والولاية حملة «يو اس انغلش» (اميركا انجليزية)، وهي من اكبر لوبيات الضغط لاقناع اعضاء الكونغرس باصدار قانون (او ربما تعديل دستوري) يعلن الانجليزية لغة رسمية للبلاد.

وسأل مارو موييكا، رئيس اللوبي: «هل يعلم حاكم ولاية كونيتيكت ان في قلب الولاية اسبان لا يتكلمون الانجليزية؟» والطريف ان موييكا مهاجر من تشيلي، ويبدو انه حريص على الانجليزية اكثر من الاميركيين انفسهم، مثله مثل السناتور الراحل هاكاياوا، مؤسس لوبي «يو اس انغلش»، وأصله من هاواي، ولم يكن والداه يتكلمان الانجليزية.

وليس المهاجرون الجدد من عرب اميركا في قائمة «المنعزلين لغويا» والتي وضعها مكتب الاحصاء الفدرالي. ولكن يواجه المشكلة بعض الذين يعيشون في ديربورن بولاية ميشيغان، بالقرب من مصانع السيارات في ديترويت، حيث اكبر تجمع للعرب في اميركا.

وقال د. علي حسن المقداد، اميركي لبناني، وخبير في الشؤون الصحية في «دي سي دي» (مركز السيطرة على الامراض ومنعها) في اتلانتا بولاية جورجيا لـ«الشرق الاوسط» إن المركز ينسق مع منظمات تعمل وسط الذين يتكلمون الاسبانية في المكان الاول، لكن ايضا ينسق مع منظمات عربية اميركية. وأوضح ان المركز يتعاون مع السعودية ولبنان والاردن ومصر ودول عربية اخرى. وكان قد اجرى ابحاثا عن السمنة في الاردن. وانه يستفيد من هذه الابحاث في اختراق عزلة بعض العرب في اميركا، موضحا ان الابحاث في الدول العربية اشارت الى ان العرب، نسبيا، يعانون من السمنة، والسكري، والتدخين، وضغط الدم. وتنتشر هذه الامراض وسط عرب اميركا ايضا. ووسط هؤلاء، يصعب الوصول الى الذين يميلون نحو «العزلة اللغوية»، إلا بالاستعانة بمترجمين عرب، خاصة عند اجراء استطلاعات بالتلفون. لكن هل تعزز الارقام مسألة الخوف من العزلة اللغوية في اميركا؟ قبل اربعة اشهر فقط، اصدر مركز «بيو» للاستفتاءات نتائج استفتاء وسط عائلات اسبانية مهاجرة اوضحت ان اغلبية اطفالهم يجيدون اللغة الانجليزية عندما يدخلون المدرسة الثانوية، رغم ان ثلاثة ارباع آبائهم وامهاتهم لا يتكلمونها.

وقسم الاستفتاء هذه العائلات الى ثلاثة اجيال: الاول، الذين هاجروا، ويتكلم 20% منهم لغة انجليزية جيدة. والثاني، اولادهم وبناتهم، ويتكلم 90% منهم لغة انجليزية جيدة. والثالث، احفادهم الذين ولدوا في اميركا، ويتكلم كلهم تقريبا لغة انجليزية جيدة.

لكن، في 5% من هذه العائلات، يوجد من يولد ويعيش ويموت دون ان يتكلم اللغة الانجليزية بـ«درجة معقولة». (فسر مكتب الاحصاء الفدرالي «المعقول» بأنه المستوى الذي لا يعرقل الدراسة والعمل وطلب العلاج والتصرف في حالات الطوارئ).

وفي يونيو (حزيران) الماضي، اصدر معهد «ببليك بوليسي» (السياسة العامة) في ولاية كاليفورنيا نتائج دراسة في احياء المهاجرين في لوس انجليس، اوضحت ان في 50% من المنازل يتكلمون اللغتين الانجليزية والاسبانية، وفي 50% لا يتكلمون الانجليزية لانهم لا يريدون، وفي 30%، حتى لو ارادوا، لا يتكلمونها بـ«درجة معقولة»، وفي 20% لا يتكلمونها لأنهم لا يعرفونها «ابدا».

نسبة 30% من منازل لوس انجليس التي لا يتكلمون فيها الانجليزية بـ«درجة معقولة» هي نفس النسبة في كل اميركا. ويسمي مكتب الاحصاء الفدرالي هذا «لنغويستيك ايسوليشن» (عزلة لغوية). 70% من هؤلاء الـ30% مهاجرون اسبان، و10% صينيون، و5% فيتناميون، و5% فلبينيون، و5% من جنسيات مختلفة، خاصة مهاجرون جدد من دول شرق اروبا، وتحديدا بولنديون، وبلغاريون، ورومانيون. غير ان هناك 5% من مجموعة «لنغويستيك جويس» (خيار لغوي)، وهؤلاء هم الذين يريد اولادهم وبناتهم ان يتعلموا لغة المانية، مثلا، لأنها مقررة لهم في المدارس، فتوافق كل العائلة على الحديث بالالمانية.

وفي عام 2000 وبعد الاستفتاء الذي يجريه كل عشر سنوات، اوضح مكتب الاحصاء الفدرالي ان في كل اميركا مائة مليون منزل. في 14 مليون منزل يتكلم الناس لغتين، انجليزية وغير انجليزية. وفي ثلاثة مليون منزل يعيشون «عزلة لغوية».

وتأكد ان هناك صلة وثيقة بين هذه العزلة والوضع الاقتصادي الاجتماعي، ووسط المنازل «المعزولة»: في مليون منها لا يزيد الدخل عن 2000 دولار في الشهر (اقل من مستوى الفقر قليلا). وفي مليون منها لم يولد رب البيت في اميركا. وبالمقابل فإن المنازل التي لا تعاني من عزلة لغوية كان الدخل مرتفعا ليصل الى 8000 دولار في الشهر في ثمانية ملايين منزل (تمثل الطبقة الوسطى العليا، والعليا).

فأين يعيش المنعزلون لغويا ؟ تاريخيا: في 90% من منازل هياليا (ولاية فلوريدا، شرق ميامي)، وفي لاريدو (ولاية تكساس، قرب الحدود مع المكسيك). وخلال العشر سنوات الماضية، بسبب زيادة الهجرة (قانونية وغير قانونية)، ظهرت مناطق في ولايات جورجيا، ونيفادا، ونورث كارولينا. اغلبية هؤلاء تتكلم الاسبانية، وتتكلم اقليات اللغات الصينية، ثم الفيتنامية، ثم الفلبينية. وهناك نصف مليون يتكلمون لغات روسية وشرق اوروبية، ونصف مليون يتكلمون الفرنسية (مهاجرون من جزيرة هايتي، التي كانت فرنسا قد استعمرتها في البحر الكاريبي).

لكن تاريخيا، وفي البداية، لم يهتم مكتب الاحصاء الفدرالي بموضوع العزلة اللغوية. حتى سنة 1890، عندما اوضح ان 4% من الاميركيين يتكلمون في منازلهم لغة غير الانجليزية. لكن، بعد ذلك بمائة سنة، سنة 1990، هبطت النسبة الى 1%، لا يتكلمونها «ابدا». و5% يتكلمونها بصعوبة.

واعتبر الاحصائيون أن المشكلة ليست مشكلة «المنعزلين لغويا» بقدر ما هي مشكلتهم هم في احصائهم. فحتى احصاء سنة 1990، لم يكن المكتب يستخدم مترجمين بأعداد كافية لاحصاء هؤلاء. وفي استفتاء سنة 2000، وزع عليهم الاسئلة بخمس لغات: اسبانية وكورية وصينية وكورية وفلبينية (تاغلوغ). وبسبب زيادة الحديث بلغات اجنبية، يخطط المكتب لزيادة اللغات الى اربعين. وفي بحث كتبه خبراء في مكتب الاحصاء اوضحوا ان هناك مشكلة اكبر، وهي ان 20% من «المنعزلين لغويا» لا يجهلون الانجليزية فقط، ولكن ايضا الكتابة والقراءة بلغتهم.  و20% يعرفونها قليلا، لكنهم لا يقدرون على كتابة خطاب «جيد» بها. وقال روبرت لونغلي، مسؤول في المكتب: «بالنسبة لنا، هذه مشكلة اساسية. لا نجد اجابة حتى على اول سؤال نسأله: «هل هناك من لا يتكلم الانجليزية داخل هذه المنزل؟» وحتى اذا اجابوا علينا بنعم او لا، لا يعرفون معني «إنْ (في الداخل)» او «آوْْت (في الخارج)». خارج ماذا؟  خارج البيت، او خارج المدينة او خارج الولايات المتحدة. وحتى اذا اجابوا علينا بهذه او تلك، لا يعرفون هل داخل «هوم» (منزل) او «هوم» (البلد الذي جاءوا منه). ولخص خبير هذا الموضوع في نكتة وهي: «سؤال: ماذا تسمي من يتكلم لغتين؟ اجابة: يتكلم لغتين. سؤال: ماذا تسمي من يتكلم لغة واحدة؟  اجابة: اميركي». والقصد هنا ان الاميركيين هم الذي يجب ان يتعلموا لغة اجنبية، ولهذا اعتبرهم «منعزلين لغويا».