صراع.. على الكوفية

استخدمها الثوار الفلسطينيون عام 1936 لإخفاء ملامحهم عن البريطانيين.. والجبهة الشعبية لونتها بالأحمر وحماس بالأخضر.. والإسرائيليون أضافوا لها نجمة داوود

الكوفية تتنازعها كل التيارات السياسية الفلسطينية (تصوير: ماهر يحيى)
TT

ظل ياسر عرفات، الزعيم الفلسطيني الراحل، يلبس الكوفية حتى ايامه الاخيرة، بطريقة هندسية على شكل خارطة فلسطين التاريخية. وكان ابو عمار يرفض ان تلتقط له اي صورة بدون هذه الكوفية. ومرة عندما منعه الاسرائيليون من حضور قداس منتصف الليل في كنيسة المهد عام 2001، وضع الفلسطينيون مكان جلوس عرفات الفارغ، كوفيته. وقال له بطريريك اللاتين انذاك، ميشيل صباح في قداس منتصف الليل، انت حاضر اكثر من اي وقت مضى.

ووحده عرفات، الذي اصبحت الكوفية جزءا من صورته، كان سببا في ان يحولها الى رمز، للنضال الفلسطيني. ويقول الفلسطينيون ان الكوفية ذات اللونين الابيض والأسود، التي لم تفارق عرفات في اي يوم، هي «رمز الرمز». ويصف شريف كناعنه، استاذ علم الانسان والفلكلور في جامعة بيرزيت الفلسطينية، الكوفية بقوله «انها رمز تربيع، اي رمز الرمز». ويفسر ذلك قائلا: «ابو عمار رمز الفلسطينيين والحطة رمز ابو عمار». الا ان الكوفية، لم تبق فقط رمز الفلسطينيين في مناهضة المحتل، لكنها اصبحت حاضرة في كل المظاهرات المناهضة لاي احتلال او سياسة في العالم، وفي كلّ تجمعات النضال الاخرى، الطلابية والنقابية، التي تحمل طابعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وفي الاراضي الفلسطينية ترى اليوم مئات المتضامنين الاجانب يلفون الكوفية البيضاء والسوداء حول اكتافهم، وبعضهم يرتدي «لفحة» انيقة على شكل كوفية، مرسوما عليها خارطة فلسطين او العلم الفلسطيني. وقال كناعنه «حتى الذين يريدون ان يعبروا عن تأييدهم لفلسطين وشعبها، اصبحوا يرتدون الكوفية كرمز للتضامن». ويقول طارق عبد الرحمن وهو ناشط شبابي، كان يرتدي الكوفية، الى جانب عشرات من الاجانب المتضامنين، لـ«الشرق الاوسط»، «انها عنوان التضامن معنا». وقالت سكادا، وهي المانية متضامنة مع الفلسطينيين، «انا احب فلسطين ولذلك ارتدي الكوفية». ورغم ان الكوفية، اصبحت بفضل عمار عالمية، الا ان اهتمام الفلسطينيين بارتدائها، قد تراجع مؤخرا. وتقول الخبيرة في التراث الفلسطيني مها السقا لـ«الشرق الاوسط»، «بسبب ضعف فتح، وتراجع ثقة الناس بالحركة، تراجع الاهتمام بالكوفية». وترى السقا ان كوفية ابو عمار تحولت الى رمز فتحاوي، ربما اكثر منها فلسطينيا. وقالت «بسبب ما تصنعه فتح يفضل البعض عدم ارتداء الكوفية». ويرفض بعض الفلسطينيين منطق السقا، اذ يعتبرون الكوفية رمزا لفلسطين، وليس تنظيما بعينه، وان كان كثير منهم يسمي الكوفية «حطة ابو عمار». وقالت السقا، «نعم انها رمز لفلسطين، لكنها حطة ابو عمار والا لماذا يرفض اليساريون وحماس ارتداءها».

وتشعر السقا بالغضب، من انصار اليسار الفلسطيني والحركات الاسلامية، الذين يرتدون عادة الكوفية الفلسطينية، ولكن ليس باللونين الابيض والاسود، مثل الكوفية الحمراء، للجبهة الشعبية، او الكوفية الخضراء، لحماس والتنظيمات الاسلامية. وتقول السقا ان هؤلاء «اجرموا في تلوين الحطة، ويريدون تقسيم كل شيء، ويستخدمون كوفيات ليست فلسطينية». وبحسب السقا فان الكوفية الحمراء اردنية، اما الخضراء فلا اصل لها وهي من اختراعات حماس. ويقول كناعنه، «ان الفصائل السياسية، ارادوا التأكيد على انهم فلسطينيون، لكنهم ليسوا فتحاويين. فقسموا الرمز، اليسار اختار الاحمر نسبة للاتحاد السوفياتي، وحماس اختارت الاخضر نسبة الى الاسلام». وتابع «هذا اسمه تنويع الرمز، لقد حاولوا ان يتمايزوا بالرمز المشترك نفسه، وكما تنقسم اراؤهم السياسية، تنقسم رموزهم ايضا».

وبخلاف السقا، لا يرى كناعنه ان اصحاب الرمز، هم اصحاب الكوفية. وقال «الكوفية التي صارت فلسطينية هي اصلا ليست فلسطينية»، وتابع «هي عربية انما احتكرها الفلسطينيون، احتكروها كرمز فلسطيني». ويقول كناعنه، «ان اصل الكوفية لم يكن على الشكل الحالي، وانها كانت بيضاء تماما، اي بدون خطوط سوداء، وتسمى الشورة، وكان يستخدمها الفلاحون». وفي قرى الضفة الغربية، ما زال كثير من كبار السن يعتمرونها حتى الان متمسكين بالكوفية الاصل. ولا يعرف كناعنه تحديدا، متى او كيف ولماذا ادخلت الخطوط السوداء الى الكوفية، لكنه يعتقد ان ذلك بدأ مع ثورة 1936 ضد الاحتلال البريطاني، التي ارتبط فيها اسم الكوفيه لاول مرة بالكفاح الوطني. وقالت السقا، إن الثوار استخدموا الكوفية البيضاء والسوداء، عام 1936 كرمز للتعارف في ما بينهم، وكانوا يتلثمون بها لإخفاء ملامحهم أثناء مقاومة الاحتلال البريطاني، وبعد ان اصبح الاحتلال البريطاني يعتقل كل من يضع الكوفية، امر قادة الثورة آنذاك كل الفلسطينين باعتمارها. فصارت مهمة الانجليز صعبة بعدما وضعها شباب وشيوخ القرى والمدن، على حد سواء.

ويعود تاريخ الكوفية التي يصر كناعنه على انها عربية، الى ما يسميه ثقافة «الصحراء»، وقال انها استخدمت غطاء للرأس كي تحميه من حرارة الشمس. وقال «انظر الى الطوارق الان، الذين يعيشون في الصحراء كيف تجدهم يعتمرون الكوفية، وتلثمون بها». وبحسب كناعنه فانه لم يكن ممكنا ان تجد عربيا يعيش في الصحراء، بدون غطاء الرأس. وقال «من اسخف ما شاهدته في فيلم لورانس العرب ان عمر الشريف الامير العربي في الصحراء كان مكشوف الرأس». ويعزز كناعنه وجهة نظره قائلا: «ان العقال الذي يوضع عادة فوق الكوفية مأخوذ اساسا من خيط معقود فوق الرأس لتثبيت الكوفية، صحيح انهم طوروه من الناحية الجمالية لكنه ظل يؤدي الوظيفة نفسها».

شيئا فشيئا تحولت الكوفية من غطاء تقليدي للرأس، الى وسيلة مقاومة لاخفاء ملامح الثوار، ومن ثم الى رمز فلسطيني ونضالي، يرتديه كل مناهضي الحروب في العالم، الا انها كذلك، تحولت الى «اكسسوار» انيق لكل محبي الموضة، الذين يستخدمونها شالا او قمصانا واثوابا، وفي استخدامات اخرى.

وقال كناعنه انهم «يسوقون الرمز، اي يحولونه الى سلعة للبيع والشراء». واضاف هذا موجود في كل العالم. وتابع «انا تلقيت مرة ربطة عنق مصنوعة من حطة».

ورغم تحولها الى اكسسوار، الا ان الموالين لاسرائيل في العالم يحتجون فور استخدام اي من المشاهير للكوفية الفلسطينية. وكان جدل كبير قد اثير، بسبب اعلان ظهرت فيه المذيعة التلفزيونية الاميركية ريتشيل راي وهي ترتدي كوفية تشبه الكوفية الفلسطينية في اعلان لشركة «دنكن دونت»، وانتقد الكاتب ميشيل مالكين الاميركي اليميني الاعلان واتهمه بانه يروج لـ«موضة الجهاد» و«موضة الكراهية» عند تجاهله «الرمزية العنيفة للمعاني المعادية لاسرائيل». وقالت السقا، «لذلك نحول الكوفية الى سلعة، انها تخيفهم». واضافت «اشك في ان احدا يرتديها من دون ان يعرف الى ماذا ترمز». ويرفض الفلسطينيون اعتبار الكوفية رمزا للعنف. وقال اياد الحروب وهو مسرحي فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «الكوفية رمز لفلسطين والختيار (ابو عمار) وليس للارهاب». وتوجه السقا مجموعة من الفلسطينيات لاعطاء الكوفية اشكالا اخرى. وحين زارتها «الشرق الاوسط» في معرضها الكبير في بيت لحم، كانت تخطط لتطريز الكوفية على قمصان. وقالت انها ساهمت بشكل كبير في تحويل الكوفية الى سلعة، واعطائها اشكال اخرى. وعرضت السقا اثوابا واطارات براويز ومفارش وصواني ولفحات وقمصان، مطرزة بألوان وخطوط الكوفية البيضاء والسوداء. لكن الهدف حسب السقا لم يكن ابدا تجاريا، وتدافع السقا عن تسويق الكوفية بقولها انها تريد للرمز الفلسطيني ان يستخدم في كل شيء ممكن في الحياة اليومية، وهي تطوره مع الحفاظ على اصالته. واضافت بحماس كبير «سأصنع علما كبيرا واضمنه الحطة وسأطالب السلطة باضافة الحطة الى العلم، انها رمز رموزنا». وتجد السقا نفسها في حرب مستمرة مع الاسرائيليين الذين حاولوا سرقة الكوفية. وتلتقط السقا صورا لكوفيات ملونة بالوان مختلفة، بينها الصفراء، تقول انها تباع في اسرائيل بالالاف ويرتديها الاسرائيليون كموضة. وقالت «أنظر الحرب على رموزنا، هذا مقصود، بدهم يخربوها».

وتحمل السقا بشكل كبير على بعض التجار الفلسطينيين الذي يستوردون كوفيات بالوان مختلفة، بينها الصفراء والحمراء ليبيعوها في اسرائيل. وقالت انهم يساهمون في تخريب تراثنا. واستغربت السقا من السلطة الفلسطينية ووزارة السياحة بالسماح لهؤلاء التجار باستيراد كوفيات ملونة وبيعها للاسرائيليين. وقال تاجر كبير لـ«الشرق الاوسط»، فضل عدم الكشف عن هويته، «أنا أبيع 10 الاف حطة ملونة للاسرائيليين مقابل الف حطة فلسطينية». وأضاف «أنا أريد الربح اولا واخيرا والسلطة لا تمنع هذه التجارة اذا ارادوا فليمنعوها».

ولا يشكل الطلب المتزايد على الكوفيات الملونة حربا على الكوفية الفلسطينية فحسب، ولكن بالنسبة لياسر الحرباوي، الذي يملك مصنعا لانتاج الكوفيات في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية منذ عام 1975 فان منافسة الشركات الصينية، التي اصبحت تسيطر على السوق المحلية، اثر بشكل كبير على مصدر رزقه. وقال الحرباوي لـ«الشرق الاوسط»، قبل ان يبدأ الاستيراد من الصين كان لدينا 15 آلة، وكنا نعمل حوالي 20 ساعة في اليوم. اما الان فليس لدينا سوى أربع آلات ولا نعمل سوى 6 ساعات او حتى اقل.

ولا يستطيع الحرباوي منافسة «الهجمة» الصينية، وقال جودة الحرباوي ابن ياسر: «بدون تدخل الحكومة ورفع الجمارك على المنتج الصيني سنضطر للاغلاق»، موضحا ان مصنعهم يعمل الان بطاقة انتاج 15% فقط. ويستغرب الحرباوي الاقبال على المنتج الصيني الذي يرى انه يشوه التراث الفلسطيني. وقال «الحطة تراث وليست موضه للسياح».

وخلال العامين الماضيين، واجهت السقا «حربا» اخرى، كانت تهدف لسرقة تراث الفلسطينيين. وقالت انها استطاعت شطب اسم اسرائيل من على ثوب «الملك» الفلسطيني من بيت لحم، بعدما كان منسوبا للاسرائيليين في الموسوعة العالمية. الا ان السقا التي نجحت في الحفاظ على التراث الفلسطيني وحصلت على جوائز عديدة، ترى ان الكوفية الفلسطينية تواجه خطرا حقيقيا وتشويها كبيرا بتغيير ألوانها حتى الى «الازرق الاسرائيلي». وكان المصمّمان الإسرائيليان جابي بن حاييم، وموكي هرئيل، قد صنعا مؤخرا كوفية بألوان علم إسرائيل، ونجمة داوود، وقالت صحف اسرائيلية ان المصممين قاما بتقليد كوفية ياسر عرفات وغيرا لونها للأزرق والأبيض. ونشرت بعض الصور لفتاة إسرائيلية بالكوفية التي تغيرت للون الأزرق وصممت تطريزاتها على شكل نجمة داوود.

ونقل عن مصمما الكوفية الزرقاء، قولهما انذاك، إن هذا التصميم يدخل في إطار الاندماج الإسرائيلي في حيّز الشرق الأوسط. وبحسبهما فان «الكوفية الإسرائيلية الجديدة تحافظ على مميزات أصلية، لكنها تحوي مميزات إسرائيلية ويهودية، فعند الخطوط الزرقاء على أطراف الكوفية ثمة ذكر للعلم الإسرائيلي، ونجمة داوود».

وقال كناعنه، إن الإسرائيليين سعوا منذ تأسيس كيانهم إلى سرقة رموز الشعب الفلسطيني ومكوّنات هويته، من لباس ومأكولات شعبية وأغان تراثية، وذلك في محاولة لإيهام العالم بأن لإسرائيل جذوراً في المنطقة، ولتعويض الهوية المشوّهة والضبابية التي يعانيها القادمون الجدد إلى المدن المحتلة عام 1948.

ويباهي الفلسطينيون في ارتداء الكوفية، ويعلقونها كثيرا على اكتافهم وفي سياراتهم ومنازلهم والى جانب صور ضحاياهم. وحتى الفتيات يتباهين بارتداء الكوفية. وبعضهن عاد اخيرا لارتدائها مع الثوب الفلسطيني في الاعراس، ربما كرمز وطني وتراثي.. وربما تماشيا مع الموضة.