البقاع... خاصرة سورية الرخوة

منطقة استراتيجية تشكل «خزانا» لرجال حزب الله و«عين إسرائيل» على دمشق.. ومستثمرون شيعة يعززون أنشطتهم فيها

البقاع مصدر قوة وضعف لسورية ولبنان («الشرق الأوسط»)
TT

شكلت منطقة البقاع اللبنانية، في الآونة الأخيرة، أحد أبرز النقاط الساخنة على الساحة اللبنانية، وربما أشدها سخونة، بالنظر الى الفسيفساء السياسية والطائفية والمذهبية التي تطبع هذه المنطقة، وأهميتها الاستراتيجية، سواء بالنسبة الى المجموعات الطائفية، أو المناطق، او بالنسبة الى سورية، او بالنسبة الى اسرائيل. وبرزت اهمية المنطقة الاستراتيجية بالنسبة الى المجموعات الطائفية اللبنانية والمناطق، عندما اندلعت الاشتباكات في الاسابيع القليلة الماضية، وعلى عدة مراحل، وتكررت منذ أيام بحدة اقل في بلدات سعدنايل وتعلبايا وجوارهما بين انصار «تيار المستقبل» وأنصار حزب الله وحركة أمل، وقد استخدمت في هذه الاشتباكات، للمرة الاولى، مدافع الهاون، والقذائف الصاروخية من التلال المطلة على هذه البقعة الوسط بين البقاع الشمالي والبقاع الغربي، والوسط بين منطقة جبل لبنان والحدود اللبنانية السورية، وقد بلغت الاشتباكات الاحياء والزواريب داخل البلدتين وبين الاخوة الاصهار والاقارب، باعتبار ان نسبة كبيرة من الزيجات المختلطة (سنية ـ شيعية) قائمة في هاتين البلدتين، وغيرهما من بلدات المنطقة وقراها. وينظر أنصار «المستقبل» الى هذه البقعة البقاعية على أنها بمثابة «المخنق» لحزب الله وحركة امل، وشريان التواصل بين الضاحية الجنوبية لبيروت (الكتلة الشيعية الكبرى) والبقاع الشمالي (الخزان الشيعي)، والساحة التي يمكن ان يردوا بها على اي عمليات لحزب الله وحركة أمل في بيروت، او على طريق مطار رفيق الحريري الدولي. وينظر حزب الله وامل الى هذه البقعة على انها بمثابة «الشريان الابهر» الذي يضخ الرجال الى الضاحية الجنوبية.. وحتى السلاح، ولذلك فهما مستعدان للاستماتة في ابقاء هذه المنطقة آمنة وسالكة على الخطين، ومن هنا كان تدخلهما، في الاشتباكات الاخيرة، بالمدفعية والاسلحة الصاروخية. وكان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط اكثر من ادرك خطورة العنف في هذه البقعة، «حيث كادت الفتنة تقع بين اهل الصف الوطني والقومي الواحد، الذين سطروا في الماضي بطولات مشتركة مع الحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة الاحتلال»، ولذلك كان من اشد المتحمسين لـ«المصالحة المهمة»، التي حصلت في البقاع اخيراً برعاية الجيش اللبناني، «من اجل بقاء طرق الامداد مفتوحة وعدم اقفالها تحت اي ظرف من الظروف».

ويؤكد المراقبون أنه لو استمرت الاشتباكات في تلك البقعة، أو لو تجددت بالمستوى نفسه فانها ستكون عود الثقاب الذي يمكن ان يشعل البقاع بأكمله، بين شمال تطغى فيه الكتلة الشيعية، ويتمثل بـ10 نواب، منهم 6 شيعة، و2 سنة، وواحد ماروني، وآخر كاثوليكي. وكان مسيحيو «14 آذار» قد طالبوا في الدوحة بفصل بعلبك عن الهرمل في هذه المنطقة ليتسنى للصوت المسيحي والسني أن يأخذ دوره في تقرير مصير انتخابات المنطقة، وبين غرب تطغى عليه الكتلة السنية، التي تشكل نصف عدد السكان، والنصف الثاني يتوزع بين الشيعة والمسيحيين والدروز وترتبط هذه الكتلة السنية بالجزء السني من البقاع الاوسط (سعدنايل، تعلبايا، بر الياس، عنجر) وغيرها من البلدات التي يتحكم قاطنوها في طريق بيروت ـ الشام، اي طريق المصنع.

وفيما يرتبط «اللسان الشيعي» القائم في البقاع الغربي بمنطقة الجنوب الشيعية، عبر ممرات مسيحية، يعمل المستثمرون الشيعة على تعزيز استثماراتهم فيها، على حد قول النائب وليد جنبلاط، يرتبط سنّة العرقوب (كانت تعرف سابقاً فتح لاند) بسنّة البقاع الغربي عبر ممرات درزية في حاصبيا وراشيا، ومن هنا يشعر الطرفان السني والشيعي بأن وجودهما في عمق البقاع الغربي في مأمن من اشتباكات محور سعدنايل، وتعلبايا، هذا اذا لم ينتقل فيروس العنف الى ذلك العمق، الذي يمكن ان تعمل اسرائيل على تأجيجه عبر دس عملائها في تلك المنطقة. وتكمن اهمية منطقة البقاع الاستراتيجية بالنسبة الى سورية في كونها دائماً «الخاصرة الرخوة»، التي يتسلل منها العدوان الاسرائيلي في كل مرة الى العمق السوري. وهو ما حصل خلال كل الحروب العربية - الاسرائيلية، ولاسيما حربي 1967 و1973 اللتين استخدمت اسرائيل خلالهما خطين اساسيين: التسلل عبر العرقوب في الجنوب اللبناني مروراً بالبقاع من جهة، وسلوك المسار البحري عبر البحر المتوسط من جهة اخرى. وما يفسر الاهمية الاستراتيجية للبقاع بالنسبة الى سورية ايضاً محاولتها ضم لبنان اليها، ابان اعلان الميثاق الوطني اللبناني عام 1943 (اعلان استقلال لبنان النهائي عن الحكم الفرنسي). وفيما لم تنجح في عملية الضم، استطاعت أن تفوز من السلطات اللبنانية بتعهد لا يسمح لاعداء سورية باستخدام اراضي لبنان «مقراً او ممراً». ولم تتوقف سورية عن فرض نوع من الوصاية على القرار اللبناني، كما حصل في اللقاء الشهير بين رئيس الجمهورية العربية المتحدة (التي ضمت مصر وسورية) جمال عبد الناصر والرئيس اللبناني فؤاد شهاب في اعقاب ثورة 1958، الذي افضى الى اتفاق نص على حرية لبنان الكاملة كدولة مستقلة في ما يتعلق بسياسته الداخلية. اما في ما يتعلق بسياسته الخارجية، فلا يجوز للسلطة اللبنانية اتخاذ قرار الا بعد التنسيق المسبق مع سلطات الجمهورية العربية المتحدة.

وعندما اندلعت حرب 1975 الاهلية في لبنان بادر السوريون، برضى اميركي، وغض طرف اسرائيلي، وطلب فئات لبنانية، الى ارسال قواتهم الى البقاع. ولا يزال اللبنانيون يذكرون تصريح وزير الخارجية السوري آنذاك عبد الحليم خدام، الذي قال فيه ان سورية على استعداد للدخول الى بيروت لمنع التقسيم، وما لبث الجيش السوري أن اندفع فعلياً من البقاع الى بيروت، مع ظهور ملامح الكيانات التقسيمية، ليخرج منها الى البقاع مجدداً تحت ضغط الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة اللبنانية في عام 1982. وخلال الحرب اللبنانية نشطت أعمال سرقة السيارات، ولا تزال ناشطة في بقعة معينة من البقاع، وثمة من يتهامس في شأن تواطؤ بعض العناصر «الرسمية» مع هذه العصابات التي تسرق السيارات من مناطق بيروت بصورة خاصة، ليلا ونهارا، وتتجه بها الى ما يعرف بـ«بقعة بريتال». وقد تطورت أعمال السرقة هذه في السنوات الاخيرة، بحيث يلجأ المتواطئون مع العصابات الى سرقة السيارات من اصحابها في رابعة النهار، ليتلقى صاحب السيارة في اليوم التالي اتصالا يعرض اعادة السيارة اليه لقاء مبلغ يختلف باختلاف اهمية السيارة، وغالبا ما يتم البازار مع فنجان قهوة. وظل البقاع اللبناني هاجساً سورياً عند وضع «اتفاق الطائف»، حيث اصرت سورية على ربط المرحلة الاخيرة من انسحاب جيشها من لبنان بالتموضع في البقاع، على ان يخضع الانسحاب من هذه المنطقة لاتفاق الحكومتين اللبنانية والسورية، كما نصت وثيقة الوفاق الوطني في اواخر الثمانينات.

أما الاهمية الاستراتيجية للبقاع اللبناني بالنسبة الى اسرائيل فتكمن في كونه «المعبر السهل» الى العمق السوري، والسهل الذي يسهل فيه تحديد الاهداف وضربها. كما حصل بالنسبة الى قواعد الصواريخ السورية في عام 1982، بعيداً عن «انظار» الرادارات السورية. ويمثل البقاع ايضاً «خزان الرجال» بالنسبة الى حزب الله الذي يهدد الحدود الاسرائيلية وحتى العمق الاسرائيلي، كما كانت تفعل المقاومة الفلسطينية في السبعينات، خلال تمركزها في منطقة العرقوب الملاصقة للحدود الاسرائيلية، التي تشكل سفح جبل الشيخ، فيما يشكل الجولان السوري السفح الآخر للجبل. انها المنطقة التي يمكن ان تشكل نقطة ضعف او قوة كل اطراف الصراع.

* من جوبيتير.. إلى الحشيشة

* تعتبر البقاع احدى المحافظات اللبنانية الخمس، وهي سهل واسع ينبسط بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، وصفه المؤرخون بأنه اهراءات روما ايام حكم الامبراطورية الرومانية، كما وصفوه بـ «خزان الشام» في ايام السلطنة العثمانية والمعبر المميز بين شمال سورية وشمال فلسطين وبين البحر المتوسط وبر الشام. اما اليوم، كما يقول المراقبون، فقد تحول الى اهراءات.. سلاح وعنف. وتضم المحافظة 235 مدينة وقرية، أهمها بعلبك التي كانت المحطة الرئيسية لعبور القوافل الآتية من تدمر وحمص باتجاه شمال فلسطين ومن الساحل اللبناني باتجاه دمشق. وقد اقام فيها الرومان قبل نحو ألفي سنة احد افخم معابد العالم الروماني المعروف بـ «معبد جوبيتير» حيث تُقدم «مهرجانات بعلبك» الفنية. وتأتي بعد بعلبك، مدينة زحلة التي تعتبر عاصمة البقاع واكثرها مقصداً للسياح بفنادقها ومطاعمها القائمة على ضفاف نهر البردوني والتي أتحفها شاعر العرب احمد شوقي بأجمل قصائده التي ينشدها مطرب العرب محمد عبد الوهاب، وهي: «يا جارة الوادي». وتعتبر مدينة شتورا اهم مدن البقاع التجارية لكونها النقطة الوسط بين مختلف مناطق البقاع ومدنه، والمحطة الرئيسية على طريق بيروت ـ دمشق، ومصيف الكثيرين من الرعايا العرب، ومنطلق الصيادين الى سهل البقاع. ولعبت مدينة «عنجر» دوراً مهماً على مر التاريخ، سواء على المستوى التجاري، او على المستوى العسكري حيث دارت معركة «مرج دابق» الشهيرة بين والي دمشق وأمير جبل لبنان، الامير فخر الدين المعني الكبير. وهناك الكثير من المدن والبلدات البقاعية المختلفة الاهمية، كبلدة «الفرزل» المسيحية، و«رياق» المختلطة، و«الهرمل» الشيعية، وبر الياس، و«قب الياس» و«جب جنين» السنية، وراشيا الدرزية التي تعتبر محطة مهمة في تاريخ السياسة اللبنانية والتي اعتقل فيها الفرنسيون الزعماء اللبنانيين عشية الاستقلال، و«القرعون» التي اقيم فيها اول سد للمياه في لبنان، و«عرسال» المشهورة بصخورها المعدة للبناء اللبناني التراثي، و«قصر نبا» المشهورة بزراعة الورد الجوري.

وسهل البقاع اكبر السهول اللبنانية واخصبها ويخترقه اكبر نهرين لبنانيين: الليطاني والعاصي، ولذلك نشطت فيه، على مر التاريخ، زراعة الحبوب والخضار والفواكه، وأبرزها زراعة القمح، ومن هنا اطلاق تسمية «اهراءات روما»، و«خزان الشام الغذائي» على سهل البقاع. ويقول رئيس نقابة المزارعين في البقاع ابراهيم ترشيشي لـ «الشرق الاوسط»: «لقد بلغ انتاج «السهل» من القمح العام الماضي 70 الف طن، انتجها 130 الف دونم، بتراجع 20 الف دونم عن العام الذي سبقه. ومعلوم ان انتاج القمح البقاعي تشتريه وزارة الاقتصاد لتوزعه على المطاحن، ويطالب المسؤولون عن هذا القطاع بزيادة الدعم وزيادة المساحات المعدة لزراعة القمح». ويضيف: «ينتج سهل البقاع كميات كبيرة ايضاً من البطاطا والشمندر السكري والبطيخ والملفوف والمشمش، والبندورة والبصل وغيرها». واشتهر بزراعة المخدرات، ولاسيما القنب الهندي الذي تستخرج منه «حشيشة الكيف». ولطالما أثرى البعض من هذه الزراعة بينما كانت في كثير من العهود موضع نزاع كان يتخذ احياناً طابعاً دموياً بين «القيمين» على تلك الزراعة ورجال الامن ويقول احد مزارعي المنطقة: «لقد كانت زراعة الحشيشة مصدر عيشنا الاساسي لسنوات طويلة بغض طرف من الدولة احياناً، واحياناً اخرى بالتواطؤ معها، الى ان منعت فجأة بقرار امني لبناني ـ سوري من دون تنفيذ مشاريع رديفة، وهذا ما جعل البعض يكسر الحظر ويعود الى زراعة الحشيشة مع علمه باحتمال تجريد حملات مفاجئة لاتلاف المواسم». ويعتبر مزارع آخر ان زراعة الحشيشة اسهل من الزراعات الاخرى، لاقتصار كلفتها على اليد العاملة والقليل من المياه، فيما تؤمن مردودا كبيرا بمعدل 80 مليون دولار سنويا بحسب تقارير الامم المتحدة. مع العلم ان العديد من المواسم الاخرى كان يلجأ اصحابها انفسهم الى اتلافها لارتفاع كلفتها وضعف مردودها كالبطاطا والبطيخ والمشمش وغيرها.