الزواج.. من قرصان بحري

ازداد نفوذ القراصنة اجتماعيا واقتصاديا في بعض مناطق الصومال.. فأن تكون قرصانا يعني أن تكون صاحب ثروة وسطوة

سفينة على وشك الغرق في بحر عدن بعد أن هاجمها القراصنة («الشرق الأوسط»)
TT

يمتلك الصومال أطول ساحل في أفريقيا، حيث يبلغ طوله 3300 كم، يبدأ قبالة باب المندب عند مدخل البحر الأحمر مرورا بخليج عدن ويمتد جنوبا حتي الحدود الكينية، في منطقة تعتبر ممرا حيويا للملاحة الدولية. بعد انهيار الحكم المركزي في الصومال عام 1991، أصبحت السواحل الصومالية بدون مراقبة فعلية، وساحة لنشاط متعدد الوجوه تقوم به أطراف محلية وأجنبية، فشركات الصيد الأجنبية استباحتها مقابل دفع علاوات رشاوى لأمراء الحرب، كما أن الشركات الصناعية الأجنبية قامت بطمر المخلفات والنفايات الصناعية فيها بعد عقد صفقات بهذا الشأن مع أمراء الحرب أيضا.

وفي هذا الجو ظهر القراصنة الصوماليون بدورهم مستفيدين من خلو السواحل الصومالية من المراقبة المحلية والخارجية. وتعود قصة القرصنة في المياه الصومالية الي نهاية التسعينيات، وبدأت بشكل بدائي كما يرويها الصيادون المحليون في المياه الصومالية، إذ أدى توافد سفن الصيد الأجنبية في السواحل الصومالية إلى حرمان الصيادين المحليين من مصدر رزقهم، حيث تقوم بجرف شباكهم وأخذ كل ما فيها ومطاردة قواربهم الصغيرة ورشها بالمياه عندما تقترب من المناطق التي تتواجد فيها سفن الصيد الأجنبية.

وبعد تكرار هذه الحوادث في أكثر من منطقة صومالية قامت مجموعات من الصيادين الصوماليين بإنشاء تشكيلات من المليشيات المسلحة تقوم بمهاجمة سفن الصيد التي كان بعضها مسلحا أيضا ويستأجر مسلحين محليين للرد علي هجمات الصيادين الذين استولوا على عدد من السفن. وكانت هذه الحوادث تنتهي بتسويات عادية يتم بعدها إطلاق سراح السفن الأجنبية، مقابل دفع تعويضات للصيادين. وبمرور الوقت تحول الصيادون والميليشيات القبلية في المناطق الساحلية في الصومال إلى قراصنة لا يسعون إلى الانتقام من سفن الصيد الأجنبية فقط، وإنما يبحثون عن المال، وتحقق لهم ما أرادوا، حيث الممر المائي المحاذي للسواحل الصومالية يعج بالسفن العابرة. وبسبب عدم وجود سلطة مركزية اختطف القراصنة الصوماليون عشرات السفن خلال السنوات الماضية حيث تزايد نشاطهم بعد أن حصلوا على مبالغ مالية ضخمة.

ودخل العنصر التقني في نشاط القراصنة الصوماليين حيث يملكون القوارب السريعة المجهزة بأحدث التقنيات الملاحية وأجهزة الرصد وهواتف الساتلايت إضافة إلى أجهزة تحديد المواقع الـ«جي بي اس»، وأسلحة متنوعة من البنادق الآلية، إلى الصواريخ التي تطلق من الكتف. وهم يرتدون البزات العسكرية، ويستخدمون الانترنت الفضائي للتواصل مع ملاك السفن التي يتم اختطافها، حيث تجري المفاوضات عبر الماسنجر وباللغات الحية، فالقرصنة أصبحت عملا معقدا يشارك فيه مسلحون قبليون وخبراء أمنيون ومترجمون محترفون وسماسرة وكل واحد منهم يحصل على نصيبه من الفدية.

وبما أن جل أعمال القرصنة تحدث في أعالي البحار في معظم الأحيان فإن القراصنة يملكون سفنا كبيرة يشتبه في أنها بمثابة «قواعد انطلاق» للقراصنة إلى المياه لخطف السفن العابرة في المياه الدولية للمياه الصومالية، حيث تنطلق القوارب السريعة التي تقل المسلحين من هذه السفن «الأم» بعد تحديد الهدف بواسطة أجهزة الرصد والمراقبة المركبة في السفن. ونشر مكتب الملاحة الدولي ومقره لندن صورة إحدى السفن الثلاث المشتبه بكونها قاعدة انطلاق القراصنة في موقعها على الانترنت واسمها «بروم أوشيان» وينصح المكتب (آي بي ام) السفن العابرة باتخاذ الحيطة من مسار هذه السفن «الأم» التي يشتبه في أنها تخدم القراصنة في إيصالهم الى أعالي البحار. ظاهرة القرصنة لم تؤثر فقط على سلامة حركة الملاحة الدولية على السواحل الصومالية، بل ان لها تأثيرات اجتماعية واقتصادية داخل الصومال، فقد ازداد نفوذ القراصنة اجتماعيا واقتصاديا في بعض المناطق، فأن تكون قرصانا يعني ان تكون ثريا وصاحب نفوذ كبير، وكذلك حلم الفتيات الباحثات عن زوج ميسور الحال. ففي برنامج إذاعي بثته إذاعة صوت أميركا (القسم الصومالي) سئلت فتاة صومالية عن الزوج الذي تحلم به فردت "أن يكون قرصانا" وعندما طلب منها شرح ذلك قالت "لأنه شجاع ولأن القرصان رجل ثري وميسور ويقدر أن يفي باحتياجات الأسرة". وبغض النظر عن جدية هذه الفتاة الا أن القراصنة يشكلون الأثرياء الجدد في الصومال، فهم الذين يقدورن علي شراء العقارات والسيارات الفارهة، وهم الذين يقدرون ايضا علي الدفاع عن القبيلة في حالة نشوب حرب قبلية لأن بإمكانهم شراء السلاح والإنفاق علي المليشيات المحاربة.

ومع أن القراصنة ينشطون في أنحاء المياه الصومالية الا أن سواحل ولاية "بونت" المحاذية لخليج عدن تعتبر أهم معاقل القراصنة بشمال شرق البلاد، وتوجد في هذه الولاية خلجان ضحلة وضيقة يقتاد القراصنة السفن المختطفة اليها، حيث يصعب الوصول اليهم برا لأنها منطقة جبلية، كما يصعب الوصول اليها بحرا لأنها خلجان ضيقة وضحلة تصعب حركة السفن فيها. وكان حاكم ولاية «بونت» شمال شرقي الصومال الجنرال عدي موسى صريحا عندما أعلن «أن سلطاته غير قادرة على مكافحة القراصنة، الذين ضاعفوا من هجماتهم ضد السفن العابرة للمياه الصومالية». وأوضح الجنرال موسى أنهم «أصبحوا أقوياء جدا بعد حصولهم على مبالغ مالية كبيرة من أصحاب البواخر المختطفة مقابل إطلاق سراحها؛ مما ساعدهم على توسيع أنشطتهم ضد السفن العابرة للمياه الصومالية ولخليج عدن». وأضاف أنه «في كل مرة يتلقى القراصنة أموالا يشترون السلاح والقوارب السريعة المزودة بأحدث أجهزة الملاحة البحرية.. لا قدرة لنا على ملاحقتهم.. إنهم أقوى من سلطاتنا».

وجاءت تصريحات حاكم ولاية بونت في وقت وصلت عمليات القرصنة في الأقاليم الشمالية الشرقية من البلاد إلى ذروتها وسجلت رقما هو الأعلى من نوعه منذ اندلاع أعمال القراصنة في المياه الصومالية قبل سنوات، وذلك بعدما اختطف القراصنة خلال أسبوع واحد 7 سفن أجنبية كانت تعبر المياه قبالة السواحل الصومالية، فيما يصل عدد أفراد طواقم السفن المختطفة إلى 130 معظمهم من ماليزيا وتايلاند واليابان وألمانيا ونيجيريا وإيران.

وكانت السفينة الماليزية «بونجا ميلاتي 5» التي تحمل 30 ألف طن من البتروكيماويات إلى سنغافورة قادمة من السعودية آخر سفينة تختطفها مليشيات القراصنة الصوماليين حيث وقعت في قبضتهم يوم الجمعة الماضي، وكان على متن الناقلة الماليزية 36 ماليزيا وخمسة فلبينيين. ويجعل ذلك عدد حوادث القرصنة في المياه الصومالية 30 حادثاً على الأقل منذ بداية العام الحالي.

ومع أن مجلس الأمن الدولي أصدر قرارا بالإجماع في 2 يونيو (حزيران) الماضي بالسماح للدول التي لها وجود عسكري في مياه المنطقة بالدخول إلى المياه الصومالية الإقليمية لمنع نشاط القراصنة، إلا أن أي دولة لم تقم بمحاربة القراصنة بشكل مباشر، وأصبح منظر السفن الحربية على مرأى ومسمع من السفن المختطفة منظرا معتادا في السواحل الصومالية. وكانت البحرية الفرنسية قد قامت بمهاجمة القراصنة في 11 أبريل (نيسان) الماضي بسواحل ولاية بونت بشمال شرقي الصومال، لتخليص اليخت الفرنسي (بونانت) من قبضة القراصنة في سواحل ولاية بونت. وتمكن الجنود الفرنسيون من تحرير السفينة وأفراد طاقمها البالغ عددهم 30 فرنسيا. وقد اعتقلت البحرية الفرنسية في هذه العملية 6 من مليشيات القراصنة يحاكمون حاليا في فرنسا. لكن كل هذه التطورات لم تغير من الواقع الصومالي شيئا حيث تضاعف نشاط القراصنة في الشهور التي أعقبت قرار مجلس الأمن. وتري الحكومة المحلية في ولاية بونت بأن دفع الفدية للقراصنة من قبل مالكي السفن المختطفة هو تشجيع غير مباشر يعطيهم الجرأة في الاستمرار في عمليات الخطف، وتري الحكومة بدلا من ذلك أن يتم دعم السلطات المحلية لتكافح بنفسها القراصنة.

وإلي جانب تهديد القراصنة لحركة سفن الشحن وناقلات النفط فإن قطاعا آخر مهما تأثر في عمليات القرصنة المتكررة في الصومال، حيث تتعرض السفن المستأجرة لبرنامج الغذاء العالمي للتهديد من قبل القراصنة مما أدي إلى تأخر وصول المواد الغذائية العاجلة إلى مئات الآلاف من المتضررين في الصومال حيث يواجه نحو 3 ملايين صومالي نقصا حادا في المواد الغذائية. وتقوم دول غربية لها تواجد عسكري بحري في المياه الصومالية في إطار مكافحة الإرهاب بمرافقة سفن برنامج الغذاء العالمي إلى ميناء العاصمة لتوفير الحماية لها.

ويوجد في قبضة القراصنة حتي هذا الوقت 7 سفن مختطفة خلال أقل من شهر من بينها ناقلتان ماليزيتان حيث يطلبون فدية قدرها 8.2 ملايين دولار لتحرير هاتين الناقلتين وناقلة أخرى تديرها شركة يابانية كانوا قد اختطفوها في خليج عدن. ويريد القراصنة 4.7 مليون دولار لتحرير السفينة «بونجا ميلاتي 5» وشقيقتها «بونجا ميلاتي دوا» وكلاهما مملوك لشركة النقل البحري الماليزية الوطنية. كما يطالب القراصنة أيضا بمبلغ 3.5 مليون دولار لتحرير السفينة إم.في ستيلا ماريس اليابانية. يضاف إلى ذلك نحو 130 أجنبيا هم طواقم هذه السفن من جنسيات مختلفة.

وتجري حاليا مساومات بين القراصنة وبين مالكي هذه السفن عبر سماسرة لإطلاق سراحها وطواقمها، ويزداد جشع القراصنة الذين يستغلون ضعف موقف الأطراف الأجنبية التي تحرص على سلامة عمالها ومواطنيها مما يعني مزيدا من الأموال تدفع للقراصنة ومزيدا من القوة يكتسبها القراصنة ليصبحوا الحكام الفعليين للسواحل الصومالية الطويلة.