ماذا سيحل بـ«الشراكة»؟

علاقات «الناتو» وروسيا بين توسع الحلف ونهوض موسكو

TT

ترددت تساؤلات عدة حول مستقبل حلف شمال الاطلسي «الناتو» اثناء قمته الاخيرة في العاصمة الرومانية بوخارست، كان ابرزها «هل ما زال الغرب بحاجة الى الناتو»؟ فالحلف الذي نشأ في أوج الحرب الباردة في وجه الاتحاد السوفياتي السابق وحلف وارسو وجد نفسه في ابريل (نيسان) الماضي من دون خصم محدد، بل اصبح الخصم القديم «شريكاً» من خلال المجلس المشترك بين «الناتو» وخليفة الاتحاد السوفياتي روسيا. وبحضور الرئيس الروسي آنذاك، رئيس الوزراء الآن، فلاديمير بوتين القمة، اكد مسؤولون من «الناتو» وموسكو ان الطرفين وصلا الى انطلاقة تاريخية للعلاقات بينهما تكثف التعاون بينهما لإرساء الاستقرار. وخرج «مجلس الناتو ـ روسيا» ببيان صحافي في 4 ابريل الماضي بعد اجتماع قادة الحلف ببوتين، مؤكدين فيه ضرورة تعاون المجلس كـ«عنصر استراتيجي في دعم الامن الاوروبي ـ الاطلسي، بناءً على المبدأ بأن امن كل الدول في المجموعة الاوروبية ـ الاطلسية واحد لا يمكن تقسيمه». وذكر عدد من مسؤولي «الناتو» حينها لـ«الشرق الاوسط» ان الحلف كان بحاجة الى وقت من التفكير بمستقبله وسبب وجوده بعد التقارب الوثيق مع روسيا منذ انشاء المجلس عام 2002 وعقد قمتين لقادته.

إلا ان الصورة باتت مختلفة بعد اربعة اشهر من تلك القمة، فيوم 21 اغسطس (اب) الماضي اعلن «الناتو» تعليق العمل بالمجلس المشترك للطرفين لاجل غير مسمى. وتوترت العلاقات بين الطرفين اثر مهاجمة روسيا جورجيا في 9 اغسطس (اب) الماضي عقب هجوم الجيش الجورجي على عاصمة اوسيتيا الجنوبية الانفصالية من اجل اعادة السيطرة عليها. وبعد اعلان روسيا اعترافها باستقلال الاقليمين الجورجيين الانفصاليين، اوسيتيا الجنوبية وابخازيا، تصاعدت الخلافات بين الطرفين وتبادل اعضاء «الناتو» وروسيا تصريحات واتهامات اشبه بالقرن الماضي الذي هيمنت عليه الحرب الباردة من القرن الحالي الذي كان يفترض انه كسر الستار الحديدي بين غرب اوروبا وشرقها الى الأبد. روسيا التي استعادت عافيتها بعد سنوات من الاضطرابات الداخلية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تريد تأكيد قدرتها على بسط سيطرتها في مناطق نفوذها التقليدية، في وقت اعلن «الناتو» عن رغبته في قبول كل من يريد الانضمام اليه في اوروبا. قرر قادة الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي يوم الاثنين الماضي في بروكسل خلال قمة لقادة اوروبا، تعليق مفاوضات بشأن شراكة استراتيجية مع روسيا طالما لم تعد القوات الروسية المنتشرة في جورجيا الى مواقعها السابقة لاندلاع النزاع. ويعتبر التحرك في منظمتي الاتحاد الاوروبي و«الناتو» ضد التوغل الروسي في جورجيا اساسياً في صد طموحات روسيا في اوروبا. وتؤكد مصادر دبلوماسية اوروبية بان الاحداث الاخيرة في جورجيا ليست بمعزل عن الصراع الاوسع بين روسيا والحلف. ولكن اكدت المصادر التي طلبت من «الشرق الاوسط» عدم ذكر اسمها، بسبب حساسية العلاقات مع روسيا الآن، ان لروسيا و«الناتو» مصالح مشتركة، لن تنتهي ولكن هذه فترة لتحديد العلاقات بين الطرفين ومعرفة من الاقوى في منطقة القوقاز التي تعتبرها روسيا مكان نفوذها. وكان مصير جورجيا، ومعها جارتها اوكرانيا، موضع خلاف بين «الناتو» وروسيا منذ فترة وخاصة في قمة بوخارست ربيع هذا العام. فبينما كان المسؤولون في تبليسي وكييف يطالبون بانضمام بلديهما الى «الناتو»، شددت روسيا من معارضتها وضغطت خاصة على المانيا لرفض هذا المقترح. وبما ان جميع قرارات «الناتو» تتخذ بالاجماع، كان رفض عدد من الدول فكرة انضمام الدولتين الى «الناتو» كافياً لارجاء هذه الخطوة. واوضح مصدر مسؤول في «الناتو» لـ«الشرق الاوسط» ان ما حدث في جورجيا كان «خير دليل» على عدم استقرار القوقاز واهمية التريث في تقديم «خطة العمل للعضوية» لجورجيا واوكرانيا في ابريل (نيسان) الماضي. الا انه اضاف ان «وعد جورجيا واوكرانيا بالانضمام الى الناتو ما زال قائماً وسيتحقق اجلاً ام عاجلاً».

وكانت قمة بوخارست قد قررت ان ترجئ القرار حول علاقة جورجيا وروسيا الى ديسمبر (كانون الاول) المقبل، حين يجتمع وزراء خارجية الدول الـ 26 الأعضاء في «الناتو» لدراسة امكانية منح «خطة العمل للعضوية» لجورجيا واوكرانيا اللتين لديهما حكومتان مواليتان للغرب. واكد مصدر دبلوماسي اوروبي لـ«الشرق الاوسط» ان هذه النقطة ستكون محور نقاش في اجتماع ديسمبر ولكن «قد تؤثر الاحداث الاخيرة على أي قرار لضمهما في الوقت الحالي». وهناك اسباب عدة تدفع الى التريث في منح العضوية لدولة جديدة، على رأسها ان جميع الدول في الحلف تتمتع بحق النقض «الفيتو» ويمكنها وقف قرار للحلف، فوزن لوكسمبورغ والولايات المتحدة واحد بحسب قوانين الحلف. وبالاضافة الى ذلك، هناك البند الخامس ذو الاهمية الكبيرة في «معاهدة شمال الاطلسي» الذي اقر في ابريل 1949 والذي ينص على «ان هجوما مسلحا على واحد أو اكثر من (اعضاء الحلف) في اوروبا أو اميركا الشمالية سيعتبر هجوماً عليهم كلهم، وبالتالي يتفقون انه في حال وقوع مثل هذا الهجوم المسلح فإن كل واحد منهم سيساعد الطرف او الاطراف التي تتعرض لهجوم». وقد تم اللجوء الى البند الخامس عندما هوجمت الولايات المتحدة في 1 سبتمبر (ايلول) 2001 ودخلت قوات «الناتو» الى افغانستان. ويخشى المسؤولون في «الناتو» من أي تحرك في المنطقة قد يؤدي الى اللجوء الى البند الخامس مجدداً.

وكانت العمليات في افغانستان، التي تعتبر الاكبر التي تشارك فيها قوات «الناتو» المعروفة بـ«ايساف»، هي الاولى لقوات «الناتو» خارج اراضي الدول الأعضاء والمنطقة المعنية بها «الناتو» في اوروبا والمحيط الاطلسي. وفي دليل اخر على تعاون روسيا و«الناتو» سمحت روسيا لقوات «ايساف» باستخدام اجوائها لنقل المعدات لافغانستان. كما وقعت موسكو اتفاقاً مع واشنطن لتزويد القوات الافغانية بالأسلحة لمحاربة التمرد منذ يونيو الماضي. ورغم الازمة الجورجية، اكدت روسيا انها لن تعرقل العمليات في افغانستان والتعاون فيها. ولفتت مصادر في مقر «الناتو» في بروكسل الى ان «مناطق التعاون الحقيقي ستستمر، اذا لم تصل الازمة الى مفترق طرق». ولكن التطورات وتبادل الاتهامات صعدت من التوتر بينهما، ما يجعل الاشهر المقبلة في غاية الحساسية وقد تؤدي الى تصعيد في وقت غير متوقع. وقد شهدت الفترة الاخيرة أكبر حشد للسفن الحربية منذ حرب الخليج وفي منطقة البحر الاسود. وأصر حلف شمال الاطلسي اول من امس على ان انتشار اربع من سفنه الحربية في البحر الاسود يندرج في اطار تدريب مؤقت مقرر منذ زمن بعد الانتقادات الشديدة في هذا الخصوص التي وجهها رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين. وانتقد بوتين تعزيز وجود الحلف الاطلسي في البحر الاسود متسائلا عن اهدافه على خلفية التوتر بين الاطلسي وروسيا حول جورجيا، ومعلنا بان موسكو ستتخذ اجراءات مضادة. ورغم اصرار «الناتو» على ان هذه الحشود الحربية لا علاقة لها بالتطورات في جورجيا، إلا ان موسكو تقرأ الاشارات على انها تهديد، أو تحد على الاقل. ومن بين تبعات التطورات في جورجيا كان اعلان «الناتو» تعليق التعاون مع روسيا على عمليات مشتركة في البحر المتوسط بدأت منذ عام 2004 لمكافحة التهريب في البحر ومراقبة السفن. ولفت مصدر في مقر «الناتو» الى ان هذه الخطوة كانت اساسية لاظهار ابعاد تحرك موسكو في القوقاز، موضحاً: «انها خطوة ذات دلائل على امكانية تراجع ما انجز في السنوات الماضية اذا لم نكن حذرين». وتراقب روسيا عن قرب زيارة مسؤولين من «الناتو» برئاسة امينه العام ياب هوب دي شيفر الى جورجيا في 15 و16 سبتمبر (ايلول) الجاري لدرس التعاون مع هذا البلد، وامكانية منحه حق وضع «الشراكة من اجل العضوية» الذي سيمهد الطريق لتلبيسي للانضمام اليها رسمياً. ولكن مصادر في «الناتو» استبعدت اعلان أي قرار بهذا الشأن قبل اجتماع وزراء خارجية «الناتو» في ديسمبر.

وقد صرح الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي والرئيس الاوكراني فيكتور يوشنينكو تكراراً بأن الانضمام الى «الناتو» هو الضمان لهما من التدخل الروسي، وهو ما اغضب موسكو. وقال الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في لقاء مع قناة «راي» الايطالية اول من امس: «ألفت انتباه شركائنا الى حقيقة انه ليس نحن الذين نوسع وجودنا العسكري في اوروبا، بل الناتو، ولم تتخذ روسيا في السنوات الماضية خطوات للرد على هذه التطورات»، ولكنه لم يستبعد الرد عليها في المستقبل.

وأكدت الدكتورة ليلا شفتسوفا، الاستاذة في «معهد موسكو الوطني للعلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية الروسية: «بالطبع التطورات خلال الاسابيع الماضية ستؤثر على العلاقات البعيدة الامد بين الناتو وروسيا، وعلى الرغم ان كليهما لا يريدان خسارة ما انجز من تعاون بينهما، إلا ان تقليص اجندة التعاون في الوقت الراهن بات امرا واقعا». وأضافت: «هناك ترقب شديد في موسكو للعلاقات خلال الفترة المقبلة». ويذكر ان هناك مصالح مشتركة بين البلدين، سياسية واقتصادية. فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة والدول الاوروبية بحاجة الى تعاون موسكو في مجلس الامن للحد من البرنامج النووي الايراني، بينما 40 في المائة من امدادات الغاز الى اوروبا تأتي من روسيا. كما ان هناك نقاط خلاف, مثل خطة الولايات المتحدة لنشر أجزاء من نظام الدفاع الصاروخي الاميركي على الاراضي البولندية. ويزور وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بولندا هذا الاسبوع لاجراء محادثات بشأن الخطة التي تعارضها موسكو والتي قال مدفيديف سابقاً انها قد تدفع روسيا الى «التحرك» لمنعها.

ويعتبر البند الخامس مقدساً في عمل الحلف، ولذا انضمام أي من جورجيا أو اوكرانيا اليه سيعني حمايتهما من اية هجمات عسكرية من قبل اقوى الجيوش في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ومثلما ان هناك مخاوف من مهاجمة روسيا لدولة من دول «الناتو»، هناك مخاوف روسية ايضاً من التوسع الاطلسي. وشرحت شفتسوفا ان «المجتمع الروسي يعتبر الناتو تهديداً حتى الآن». واضافت: «اظهرت استطلاعات رأي في التسعينيات من القرن الماضي ان 20 في المائة من الروس يريدون الانضمام الى الناتو، بينما 50 الى 60 في المائة اليوم ينظرون إليه كتهديد». وهذه الرؤية لا تقتصر على الشعب فقط. وتؤكد شفتسوفا ان «النخبة الحاكمة تنظر الى الناتو كتهديد استراتيجي لمناطق مهمة لروسيا ولا تريد أن تشعر بأنها محاصرة من قبل الناتو من جهة، والصين من جهة». ويذكر ان عامل صعود الصين لا يشغل روسيا فقط، بل دول «الناتو» التي تراقب الموقف عن كثب. وبينما هناك شبه تعاون بين الطرفين في اطارات مثل «مجلس الناتو ـ روسيا» و«مجلس الشراكة» بين روسيا واوروبا، لا توجد اطارات مماثلة مع الصين. وقالت شفتسوفا: «العلاقات مع الصين ضرورية لروسيا والناتو ولكن حتى الآن من غير الواضح كيف ستتطور في الفترة المقبلة». إلا ان تركيز موسكو وبروكسل في الوقت الراهن هو على القوقاز من اجل تفادي مواجهة ممكنة. وقال ناطق باسم وزارة الخارجية البريطانية لـ«الشرق الاوسط»: «نعلم اننا نريد علاقات ايجابية مع روسيا، ولكن في الوقت نفسه نعلم بأننا بحاجة لان يتصرفوا بطريقة مسؤولة». ومن جهته، قال الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في لقائه مع قناة «راي»: «العلاقات بين روسيا والناتو لا تمر باسهل فترة في الوقت الراهن ولكن لا اريد تصعيد الموقف، اعتقد ان المطالبة بالحد من علاقات التعاون بين روسيا والناتو تؤثر على الطرفين، وستكون ضربة اقوى للناتو». وبغض النظر عمن سيخسر اكثر من الآخر،فإن سبل التعاون في المجلس الاطلسي الروسي المشترك علقت فعلياً في الوقت الراهن والى أجل غير مسمى. وبينما يحتفل «الناتو» بعامه الستين العام المقبل، هناك تساؤلات حول مستقبل علاقاته بالخصم والشريك في آن واحد. والطرفان يعترفان باهمية علاقتهما، ولكن من غير الواضح ماذا إذا كان هذا الاعتراف كافياً لمنع نشوب حرب باردة جديدة في القرن الحادي والعشرين.