فلسطين .. تحرير الهواء

قطاع الاتصالات الفلسطينية.. صراع مكتوم بين فتح وحماس على الشركات والضرائب.. و40% من الفلسطينيين يستخدمون هواتف إسرائيلية

تنافس بين فتح وحماس وإسرائيل على قطاع الاتصالات الفلسطيني («الشرق الأوسط»)
TT

لا يحتاج اي فلسطيني اليوم اكثر من 50 دولارا للحصول على خط هاتف ارضي خلال يومين فقط. هذا تطور كبير، فقد كان الفلسطينيون، يضطرون قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، للانتظار 15 عاما كي ترد الادارة المدنية التابعة للاحتلال الاسرائيلي على طلب الحصول على خط هاتف. بل كان الفلسطينيون ينظرون بعين الريبة والشك لكل من توافق اسرائيل على منحه هاتفا. وفي مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين مثلا، كان يعيش في الثمانينيات الاف اللاجئين، ويتذكر اهالي المخيم ان 3 منهم فقط كان لديهم خط تلفون وقال مواطنون لـ«الشرق الاوسط»: «كان الـ3 مخاتير». (اي على علاقة وطيدة بالاحتلال الاسرائيلي). اما اليوم فان الكثير من المنازل تستطيع الحصول على خطين واكثر. وبسبب لهفة الفلسطينيين، لاقتناء هواتف، أرضية، وخلوية، أصبحت مجموعة، «بال تل» التي انطلقت في عام 1997، بعد قرار السلطة الفلسطينية بخصخصة قطاع الاتصالات، اكبر مجموعة اقتصادية في الاراضي الفلسطينية، وتقدرارباحها كل عام بملايين الدولارات. وتضم «بال تل»، التي تعمل في الضفة الغربية وقطاع غزة، 5 شركات، هي الاتصالات الفلسطينية، (الهاتف الارضي الثابت). وجوال، (الهاتف الخلوي). وحضارة (متخصصة في الانترنت والشبكات) وبال ميديا (مركز اعلامي للدعاية والاعلان) وحلول (تقدم حلول في برامج الحاسوب). ظلت علاقة «بال تل» بالسلطة الفلسطينية، علاقة وطيدة، وكانت تربط منيب المصري، وهو شقيق صبيح المصري رئيس مجلس ادارة الشركة، علاقة صداقة بالرئيس الراحل ياسر عرفات. واستطاعت «بال تل» احتكار السوق الفلسطيني في مجال الاتصالات حتى قبل شهور، بل ذهبت لوقف عمل جميع الشركات التي كانت تزود الفلسطينيين بخدمة الانترنت، «adsl»، مباشرة، واصبحت هي المزود الرئيسي للخدمة. وشغلت هذه الشركات كوسيط.

الا ان «بال تل» تواجه اليوم، مشغلا جديدا للخطوط الخلوية، وهى شركة سعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس لتسهيل عملها في الاراضي الفلسطينية. وبذلك يكون الاحتكار الذي حصلت عليه «بال تل» عمليا قد انتهى. وقد أعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطيني كمال حسونة الشهر الماضي، أن الوزارة وقعت مع نظيرتها الإسرائيلية اتفاقية منح الترددات اللازمة لشركة «موبايل الوطنية»، المشغل الثاني للهواتف النقالة في الأراضي  الفلسطينية.  وكان ممثل اللجنة الرباعية توني بلير اعلن خلال مؤتمر الاستثمار الذي عقد ببيت لحم في مايو (أيار) الماضي أن الحكومة الإسرائيلية أبلغته  موافقتها على منح «الوطنية» ما مجموعه 4.8 ميجاهيرتز في المرحلة الأولى على أن يعاد النظر في حجم هذه الترددات بعد ستة أشهر.  فيما أعطت اسرائيل الموافقة على منح «الوطنية» الترددات اللازمة لاكثر من عامين. واثير جدل كبير حول انطلاقة «الوطنية»، وتدخل الرئيس الفلسطيني مباشرة لدى الاسرائيليين لاعطاء التراخيص والترددات اللازمة لانطلاق الشركة الجديدة.

وقالت وسائل اعلام اسرائيلية أن عباس تدخل لدى رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت شخصيا بسبب ان احد أبنائه يملك اسهما في هذه الشركة وهو ما نفاه لاحقا طارق محمود عباس. قبل ان يقيم دعوى ضد التلفزيون الاسرائيلي. وتخطط «الوطنية» لانطلاقتها العام القادم، وبدأت الشركة الفلسطينية، وشركاؤها، صندوق الاستثمار الفلسطيني، والوطنية الدولية للاتصالات، والتي تعود ملكية 51% من أسهمها للشركة القطرية للاتصالات «كيوتل»، تخطط للبدء في توقيع اتفاقيات مع عدد من الشركات المتخصصة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات للشروع في أعمال بناء الشبكة. وقبل ايام وقعت الوطنية فعلا، أول اتفاقية مع شركة «اريكسون»، وذلك لتزويد الشركة بالمعدات الأساسية اللازمة لأغراض بناء الشبكة والتي تشتمل على محطات وأبراج التغطية الى جانب ادارة الشبكة وخدماتها. وقالت «الوطنية» انه سيتم طرح 30% من أسهمها للاكتتاب العام، قبل الانطلاقة التجارية للشركة. حيث يملك صندوق الاستثمار الفلسطيني 43% من أسهم الشركة، بينما تملك الوطنية الدولية للاتصالات 57% من هذه الأسهم.

وقال وزير الاقتصاد والاتصالات كمال حسونة لـ«الشرق الاوسط»: «خلال شهرين ستعمل الوطنية وسنحرص على انجاحها». ويباهي حسونه بأن حكومته حررت قطاع الاتصالات الفلسطيني وانتزعت الموافقة الاسرائيلية على منح شركة جديدة في الاراضي الفلسطينية التراخيص والترددات اللازمة.

وقال «لقد حرر الرئيس ابو مازن الهواء في فلسطين، وبقيت الارض». ويرى حسونه أن الحكومة الفلسطينية فتحت السوق وانهت الاحتكار. وقال «كان السوق محصورا قبل ان تاتي الحكومة الحالية، بجوال والاتصالات، والان اعدنا تأهيل 14 شركة ورخصنا 20 (شركة انترنت)، وأصبح السوق مفتوحا». وأضاف «انخفضت اسعار المكالمات وتحديدا الدولية».

وكان الرئيس الفلسطيني تحدث عن اهمية «تحرير قطاع الاتصالات الفلسطينية» وطالب بالإسراع في تأسيس الهيئة الفلسطينية لتنظيم هذا القطاع حسب الشروط والمعايير الدولية، مشددا على أهمية تمتع الهيئة باستقلالية إدارية وفنية ومالية تتيح لها العمل بشفافية مطلقة بعيداً عن أية تأثيرات داخلية أو خارجية. ومؤكداً على أهمية مراجعة هذه الهيئة لأوضاع الشركات القائمة بما فيها شركات الاتصالات والإنترنت ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني ضمن معايير مهنية واضحة وعادلة تضمن حقوق السلطة الوطنية وحقوق المساهمين جميعاً وحقوق المواطن الفلسطيني.

وقال حسونه «حضرنا مشروع قانون للهيئة الفلسطينية، ومن ثم سيعرض على لجنة قانونية ومن ثم على الحكومة ومن ثم على الرئيس ليصدره في قانون». وبحسب حسونه فان هذه الهيئة ستدير قطاع الاتصالات، وسيبقى للوزارة، ادارة القضايا السياسية والاستراتيجية والتخطيط. ويبدو أن السلطة استجابت لطلبات من دول عربية واوروبية لتشكيل هذه الهيئة. وقال حسونة «كل العالم هيك» وتابع «العالم يطالبنا بهذا».

الا ان التحرير الذي تتحدث عنه السلطة، يراه كامل الحسيني نائب الرئيس التنفيذي في مجموعة «بال تل».. «منقوصا وغير محمي». وقال الحسيني لـ«الشرق الاوسط»: «السوق الفلسطيني كان دائما غير محمي وفيه نوع من المنافسة الاسرائيلية غير القانونية». ولهذا السبب يستغرب الحسيني ان يقال بان شركة جوال الخلوية كانت تحتكر السوق، مؤكدا «لم يكن ولا في يوم هناك احتكار او انفرادية. وحتى السطة لم تحم الرخصة او الامتياز التي حصلت الاتصالات عليه وبقي هناك منافسة اسرائيلية، دون أن تستطيع السلطة أن تجاريه أو تحارب ذلك لا عبر القانون ولا عبر السياسة».

ويستخدم حوالي 40% من الفلسطينيين الهواتف الاسرائيلية، حسب وزارة الاتصالات. وقال حسونة «هذه مخاسر ضريبية كبيرة». وقدرت الاتصالات الفلسطينية خسائرها جراء استخدام الفلسطينيين للهواتف الاسرائيلية بحوالي نصف مليار شيكل اسرائيلي في العام، وقال الحسيني، «الدخل المفقود حوالي 500 مليون شيكل في السنة» أي ما يعادل 142 مليون دولار.

ولا يبدي الحسيني قلقا من منافسة الشركة الوطنية الجديدة، وقال «جوال كانت تنافس اعتى 4 شركات في المنطقة، اورانج وموتورلا وسيلكوم وبلفون» (شركات هاتف اسرائيلية او عالمية تعمل في اسرائيل). وأضاف «واجهنا منافسة اسرائيلية، وواجهنا عرض عضلات. كان الاسرائيليون يتسغلون وجودهم في مناطق (سي) ويستغلون انهم ليسوا بحاجة لدفع الضرائب من اجل تخفيض سعر المكالمات وتقديم عروض افضل، وهذا وضعنا في سوق صعب».

وتسعى السطة بحسب وزير الاتصالات الى اجبار الوكلاء الفلسطينيين، الذي يتعاملون مع الشركات الاسرائيلية على دفع الضرائب، وقال سنعاملهم كأي شركة فلسطينية. لكن الحسيني لا يرى في ذلك «الحل الامثل». واردف «ان الحل الامثل هو في تأمين بيئة تشغيلية والبحث عن حلول اخرى». وفي الوقت الذي تعمل فيه الشركات الاسرائيلية بحرية داخل الاراضي الفلسطينية، يمنع على «جوال» العمل في الاراضي الاسرائيلية، ولا حتى في القدس الشرقية. وقال الحسيني «الرخصـة محددة فـي منـاطق أ و ب فقط (مناطق نفوذ السلطة امنيا واداريا) والباقي ممنوع». وأضاف «لا انصاف في العمل في السوق الفلسطيني». من جهته، اقر وزير الاتصالات الفلسطيني بالعقبات التي تضعها اسرائيل لإعاقة نمو قطاع الاتصالات. وقال «الى حد ما لا يسمحون بتركيب اجهزة ارسال». وكانت «جوال» قد عانت لفترة طويلة من سوء البث، بسبب احتجاز اسرائيل، لبعض ابراجها وعدم السماح بادخالها الى الاراضي الفلسطينية. وبرغم كل هذه المعوقات، تقول «جوال» انها تخطت حاجز المليون مشترك، وتفاخر بذلك. الا ان اخطر ما واجهه الفلسطينيون بسبب الهواتف النقالة وتحديدا الاسرائيلية، ليس الخسارات الاقتصادية فحسب، ولكن خسارات الارواح. ويقول مهندسون فلسطينيون لـ«الشرق الاوسط» ان هذه الهواتف شكلت افضل جاسوس للاسرائيليين. ومكنت الطائرات الاسرائيلية من اغتيال ابرز قيادات هذه الفصائل.

وليس ادل على ذلك من اغتيال يحيى عياش، مهندس عمليات حماس، عبر تفجير هاتف اسرائيلي محمول كان يستخدمه بعدما عجز الاسرائيليون عن اغتياله عدة مرات. ويعتبر الفلسطينيون «الهاتف الخليوي»، هو المتهم الأول في نجاح مخابرات الاحتلال في الوصول للشخص المراد تصفيته أو اعتقاله.

ويقول مهندسون فلسطينيون إن الجيش الاسرائيلي قادر على تحديد بصمة الصوت للشخص المستهدف إسرائيليا. ولا يخفي الفلسطينيون حتى اولئك الذين يتعرضون لمحاولات اغتيال بان الهاتف كان سببا في تعقبهم.

وكانت قوات الاحتلال قد فشلت في 10-6-2003 باغتيال د.عبد العزيز الرنتيسي، أحد ابرز قادة حماس الذي اصبح لاحقا مسؤول الحركة واغتيل، وقال الرنتيسي للصحافيين في أعقاب عملية الاغتيال الفاشلة بأن مخابرات الاحتلال حددت موقعه عقب إجرائه مكالمة هاتفية من جهاز محمول مع أحد قادة حماس.

وشيئا فشيئا اخذ الفلسطينيون المطاردون يغلقون هواتفهم الاسرائيلية ويستبدلونها بفلسطينية لكن سرعان ما اثيرت شكوك لدى الفلسطينيين بان اسرائيل قادرة ايضا على تعقب الجوال الفلسطيني. وقال احد المهندسين لـ«الشرق الاوسط»: «اسرائيل قادرة على تعقب الهواء وبالتالي التجسس على اي خط هاتف محمول». واضاف «بإمكان مخابرات الاحتلال أيضا تحديد مكان أي شخص عن طريق هاتفه الجوال، وما هو نوع الجهاز المستخدم، حتى إن كان مغلقا».

ولوحظ أن المطاردين الفلسطييين اخذوا يغلقون الهواتف ومن ثم ينزعون البطارية الخاصة بالهاتف الخليوي، حتى تنقطع الكهرباء تماما عن الجهاز. وكانت الصحف الإسرائيلية قد كشفت عن جانب من قدرة اجهزة الامن الاسرائيلية في تعقب مطاردين عبر الهواتف الخليوية، الأمر الذي أغضب جهاز الأمن العام الإسرائيلي، ودفعه لمطالبة وزارة العدل الإسرائيلية بعدم نشر هذه المعلومات بحجة أنها تضر بجهوده في «مكافحة الإرهاب».

التجسس عبر الهواتف، اصبح مثارا للجدل، كذلك، بين حركتي فتح وحماس اذ تبادلت الحركتان الاتهامات، بشأن احداث عدة. وقالتا ان لديهما التسجيلات التي تثبت صحة ما تنسب كل حركة للاخرى. واتهمت فتح حماس بانها كانت تتنصت على مكالمات مسؤولين كبار في السلطة قبل ان تسيطر على قطاع غزة العام الماضي. وتولي حماس بدورها اهتماما كبيرا بقطاع الاتصالات. وكان الناطق العسكري باسم كتائب القسام ابو عبيدة قال لـ«الشرق الاوسط» ان حماس تطور من قدراتها في مجال الاتصالات. فيما قال ابو مجاهد الناطق باسم الوية الناصر لـ«الشرق الاوسط»: ان «المقاومة تدير معركة تكنولوجية مع الاحتلال الان».

الا أن علاقة حماس بشركة الاتصالات الفلسطينية في غزة قد شابها كثير من التوتر في الفترة الاخيرة. وبرغم ان الحسيني وصف العلاقة بالطيبة مع حماس قائلا «إن عملنا تشغيلي اكثر مما هو سياسي». إلا ان مصادر في الاتصالات الفلسطينية كشفت لـ«الشرق الاوسط» عن خلافات كبيرة كانت شابت العلاقة بسبب اصرار حماس على أن تدفع الاتصالات لحكومة غزة مجموع الضرائب التي تجنيها من مواطني القطاع، الا ان الاتصالات لم تلتزم بذلك. وقال المصدر «كنا ندفع لوزير مالية اسماعيل هنية في رام الله ونحن سنبقى ندفع الضرائب في رام الله».

ولم تتوقف المناكفات بين شركة الاتصالات وحماس، فقد أصدرت وزارة الاتصالات المقالة قرارا بتخفيض رسوم الاشتراك في غزة حوالي 3 دولارات في الشهر للفرد الواحد وهو ما اغضب ادارة شركة الاتصالات، لكنها اضطرت لقبول القرار. وقالت المصادر إنهم كانوا يريدون الحصول على مبلغ الـ 3 دولارات ونحن رفضنا ثم خصمنا ذلك بدون ان ندفع لحماس». وهو ما نفته حماس. وقال نقابي في الحركة يعمل في الاتصالات لـ«الشرق الاوسط»: «هذا غير صحيح ونحن تدخلنا لفض الخلافات بين الطرفين وحماس لم تطلب 3 دولارات عن كل مواطن». الا ان المصدر اقر بان خلافا كبيرا نشب بسبب جني الضرائب قبل ذلك.

وتعتبر شركة الاتصالات الفلسطينية، الاكبر في فلسطين، من حيث حجم التداول في سوق فلسطين، وتمثل 50% من قيمة السوق وهي تساهم في 12% من ناتج الدخل القومي. وعدد موظفيها حوالي 4000. وتدل التقارير المالية لشركة الاتصالات أن صافي ايراداتها في الربع الاول من العام الحالي، بلغت 64.4 مليون دينار اردني وذلك بمعدل نمو 29% مع ايرادات الربع الاول من العام المنصرم.

وتقول «بال تل» ان علاقتها بالسلطة الفلسطينة برغم التحفظات متقدمة وصريحة. بل تحرص بحسب الحسيني على دعم السلطة داخليا. وكانت مجموعة الاتصالات قدمت دعما كبيرا لمحتاجين او مشردين جراء الهجمات الاسرائيلية على احياء في غزة والضفة وبطلب شخصي من الرئيس الراحل ياسر عرفات. وقال الحسيني «لدينا مسؤولية نحو المجتمع».