قصة حدود 1923

الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.. أخطاء تاريخية وحروب و«جغرافيات» متداخلة

الحدود اللبنانية - السورية - الاسرائيلية.. واقع معقد («الشرق الأوسط»)
TT

من المعروف ان التخطيط لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين يعود، بشكل موثق، الى العام 1840. وبعد مؤتمر بال (بازل) للحركة الصهيونية عام 1897 تركز العمل على توضيح الجغرافيا الطبيعية لفلسطين والتي ستقوم عليها الدولة العبرية. وحتى قبل هذا التاريخ، اي في العام 1873، اوفدت الجمعية العلمية البريطانية بعثة من الخبراء والمهندسين الى فلسطين، برئاسة الجنرال تشارلز وارن، لتقصي ما فيها من موارد طبيعية، ومنها المياه. وحصل ذلك بالتنسيق مع الدوائر اليهودية الفاعلة. وقد ركز تقرير اللجنة على اهمية مياه شمال فلسطين في ري مناطقها الجنوبية. وركز هرتزل، في مذكراته، على جنوب لبنان وجبل الشيخ او (جبل حرمون) نظراً لأهميتهما الاقتصادية والعسكرية ولاحتوائهما على مصادر المياه الضرورية لتطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين.

مع اتفاقات سايكس ـ بيكو (مايو/ ايار 1916) تحققت جملة اهداف من ابرزها:

1 ـ توضيح مناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا في المشرق العربي.

2 ـ وضع الأسس المستقبلية لتشكيل الدول التي ستقوم على أنقاض الدولة العثمانية.

لكن هذه الاتفاقات أدت الى قيام تباين بين واضعيها من جهة، وبين المؤرخين الذين درسوها من جهة اخرى. وحسبنا الاشارة الى ان هذه الاتفاقات اعطت فلسطين وضعاً جغرافياً محدداً ومدولاً. فمنطقة النفوذ الفرنسية المباشرة (المنطقة الزرقاء) تبدأ من نقطة قريبة من جنوب صور الى بحيرة طبريا. وقد عارضت الحركة الصهيونية الحدود الشمالية لفلسطين كما رسمتها هذه الاتفاقات. ومن ابرز المآخذ ان خط الحدود هذا قسّم المستوطنات اليهودية آنذاك، مما جعلها تخضع لسلطتين. وشكك المهندس الزراعي سولومون كابلانسكي في صحة المصادر الجغرافية التي حددت فلسطين في نطاق مساحة لا تزيد عن 27 الف كلم مربع. وفي اعتقاده ان مساحة فلسطين تشمل «الرقعة التي يحدها شمالاً القسم المتجه غرباً من نهر الليطاني، حيث يصب في البحر فوق مدينة صور»... ثم يؤكد كابلانسكي الحاق الشريط الساحلي من نهر الليطاني حتى صيدا بفلسطين.

وفي 2 نوفمبر 1917 اصدرت الحكومة البريطانية وعداً للحركة الصهيونية تؤكد فيه عطفها على «انشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين». وقد اعتبر رئيس الوزراء البريطاني انذاك لويد جورج ان هذا الوعد «احدث تغييراً في خريطة العالم». وقبيل فترة صدوره، نشر ديفيد بن غوريون وبن زفي كتابهما «ارض اسرائيل» اعتبرا فيه ان متصرفية جبل لبنان هي الحدود الشمالية للدولة اليهودية. كذلك طرحت عدة اجنحة في الحركة الصهيونية، وابان هذه المرحلة، مسألة توسيع حدود فلسطين نحو وادي البقاع شمالاً، كما وضعت الخطط التي تؤمن حدوداً تشمل منابع نهر الاردن، ونهر الليطاني، وثلوج حرمون، واليرموك، وروافده والجبوك. وكان هناك تفكير في توليد الطاقة الكهربائية – المائية عن طريق اقامة مساقط وشلالات لمياه الليطاني واليرموك. بعد انسحاب العثمانيين من المنطقة امسك الجنرال الفرنسي اللنبي السلطة الفعلية العليا في ما سمي مناطق العدو المحتلة. وفي هذا الوقت حصل تعديل في الحدود الشمالية لفلسطين، حيث نقلت نقطة الحدود الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا الى بحيرة الحولة. وقد صرح قائد القوات الانكليزية في فلسطين (ارشيبالد ميراي): «بلا ادنى شك، سنعمل لفلسطين اليهودية وسنسمح للاسرائيليين بتحقيق حلم الصهيونية. ورغم موافقة رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو (ديسمبر 1918) على وضع فلسطين تحت وصاية بريطانية، فقد وجد لويد جورج نفسه مشدوداً بين تصلب الحركة الصهيونية التي تسعى لتوسيع الحدود الشمالية (لاعتبارات امنية ومائية)، وبين تصلب الموقف الفرنسي الذي يسعى لتطبيق الاتفاقات المعقودة. وللخروج من هذا الوضع، اعتمد رئيس الوزراء البريطاني قولاً توراتياً يوضح حدود فلسطين: «من دان الى بئر السبع From Dan To Beer Sheba».

وفي 3 فبراير 1919 قدمت الحركة الصهيونية مذكرة الى المجلس الاعلى لمؤتمر الصلح، عنوانها «تصريح المنظمة الصهيونية بصدد فلسطين». وفيها ان حدود فلسطين الشمالية تبدأ عند نقطة على البحر بجوار مدينة صيدا وتتجه نحو القرعون ثم تضم حرمون. وتضيف المذكرة: «ان جبل الشيخ (حرمون) هو اب المياه الحقيقي لفلسطين، ولا يمكن فصله عنها دون توجيه ضربة قاصمة الى جذور حياتها الاقتصادية بالذات... كما يجب التوصل الى اتفاق دولي تحمي بموجبه حقوق المياه للشعب القاطن جنوب نهر الليطاني (اي اليهود في فلسطين الكبرى) حماية تامة. اذ ان منابع المياه هذه اذا حظيت بالعناية اللازمة، تستطيع ان تخدم تنمية لبنان مثلما تخدم تنمية فلسطين». وبعد رفض الفرنسيين لمطالب الحركة الصهيونية استمر الخلاف قائماً بين الموقفين الانكليزي والفرنسي حول مسألة الحدود الشمالية لفلسطين: فرنسا كانت تضغط لتوسيع حدود لبنان نحو الجنوب، وبريطانيا كانت تدعم اطماع الحركة الصهيونية لتوسيع فلسطين نحو الشمال.

في 13 سبتمبر تقدمت انجلترا بتسوية عرفت باقتراح دوفيل (Deauville Proposal) الذي اوصل الحدود الشمالية لفلسطين الى الليطاني. وقد رفضت فرنسا بشكل صارم اقتراح دوفيل واقترح برتيلو في فبراير 1920 تصور فرنسا للحدود حيث ابقي الليطاني في لبنان. ورغم ضغوط الزعيم الاسرائيلي وايزمن على مؤتمر سان ريمو لتعديل الحدود الشمالية لفلسطين، ورغم الحملة الواسعة التي قامت بها وسائل الاعلام الصهيونية وبخاصة نشرة Palestine، لضم الليطاني وحرمون الى فلسطين، فقد استمر الموقف الفرنسي في رفضه، وكذلك لويد جورج تمسك بشعار (من دان الى بئر السبع). وفي 23 ديسمبر 1920 تم التوقيع بين فرنسا وانجلترا على اتفاق تخطيط الحدود بين مناطق النفوذ الفرنسية والانجليز، وقد شكل بالفعل انتصاراً لوجهة النظر الفرنسية بالنسبة الى مسألة الحدود.

هذا الاتفاق شكل الاساس لكل الاتفاقات اللاحقة لترسيم الحدود بين: لبنان وسورية من جهة، ودولة فلسطين من جهة اخرى. وقد جعل من مستعمرة «متولا» او (المطلة)، التي أنشأها المتمول اليهودي روتشيلد عام 1896، نقطة شمالية لانطلاق خط الحدود جنوباً مع وادي الاردن حتى وادي فارة ووادي كركرة، على ان يبقيا في المنطقة البريطانية، ثم وادي البلاونة ووادي العيون ووادي الزرقاء التي تبقى في المنطقة الفرنسية، ويصل الخط الحدودي الى شاطئ البحر المتوسط غرباً عند ميناء رأس الناقورة الذي يظل في المنطقة الفرنسية. وتطبيقاً لما ورد في المادة الثانية من اتفاق 23 يناير عام 1920 بدأت لجنة ترسيم الحدود بين لبنان وسورية من جهة، وفلسطين من جهة اخرى اعمالها منذ اوائل يونيو 1921. وكان يرأس الجانب الانجليزي الكولونيل نيو كومب Newcomb والجانب الفرنسي الكولونيل بوله Paulet. مهمة اللجنة كانت تقضي بان ترسم على الارض الخط الحدودي المذكور في المادة الاولى من اتفاق 23 ديسمبر بين البحر المتوسط ونهر دجلة. ولم يكن من صلاحياتها ادخال اي تعديل على هذا الخط.

في 3 فبراير 1922 وقع الكولونيل نيوكومب والكولونيل بوله الوثيقة التي حملت عنوان: «التقرير الختامي لتثبيت الحدود بين لبنان الكبير وسورية من جهة وفلسطين من جهة اخرى، ومن البحر المتوسط حتى الحمة (وادي اليرموك السفلي) تطبيقاً لتوصيات البندين الاول والثاني من اتفاق باريس الموقع في 23 ديسمبر1920. وفي 7 مارس 1923، وبعد تبادل المذكرات بين سفارة بريطانيا العظمى في باريس ووزارة الخارجية الفرنسية، ابرم اتفاق بوله – نيوكومب، واصبح الترسيم معمولاً به ابتداء من 10 مارس 1923. وفي فبراير 1924 تم تكريس هذه الحدود في محضر أقرته عصبة الامم. وهذا الترسيم بقي الاساس للاتفاقات اللاحقة (اتفاق حسن الجوار 1926، اتفاق 1936، و1937، واتفاق 1949 بين لبنان واسرائيل).

يجدر بنا ان نسجل جملة ملاحظات:

أ – ان العلامات الحدودية الواردة في اتفاق بوله – نيوكومب كما تظهرها الخريطة المرفقة، تخالف على الارض التحديدات المنصوص عليها في اتفاق 23 ديسمبر 1920، في بعض النقاط (خط الحدود ابتعد شمالاً 2 – 3 كلم عن وادي كركرة بدل ان يكون بمحاذاتها).

ب – رغم ان العلامة الاولى لخط الحدود «موجودة على مسافة خمسين متراً شمال مركز البوليس الفلسطيني في رأس الناقورة، وتتبع خط القمم...»، وقد تم تأكيد ترسيم الحدود في 15 ديسمبر 1949، يظهر الواقع الحقيقي ان اسرائيل كانت قد سيطرت منذ 11 يونيو 1948 على هضبة رأس الناقورة ولم تنسحب منها لاحقاً بعد توقيع اتفاق الهدنة. ثم أقامت عليها بعد مستعمرة كفار روش هنكرا.

ج – بالنسبة الى القرى السبع (طيربيخا، صلحة، المالكية، قدس، النبي هوشع، هونين، ابل القمح) فان اتفاق ترسيم الحدود 1923، وقبله اتفاق 1920، وضعها في الجانب الفلسطيني من الحدود والدليل على ذلك:

- يذكر الاتفاق ان العلامة 10 تقع بين وادي طربيخا في الجنوب ومنخفض رامية في الشمال. والعلامة 25 تقع 600 متر شمال غربي قرية المالكية، والعلامة 27 تقع على مسافة 700 متر غرب شمالي قرية قدس. وتقع العلامة 34 على مسافة كيلومتر واحد في الشمال والشمال الغربي من قرية هونين. والعلامة 38 موجودة شمال وشمال شرق قرية ابل (القمح).

والخريطة المرفقة باتفاق 1920 والخريطة المرفقة باتفاق 1923 وضعتا هذه القرى في الجانب الفلسطيني في خط الحدود.

- قرى مديريات راشيا وتبنين وعلما الشعب ومرجعيون وحاصبيا التي تم ايراد اسمائها في القرار 3066 (9 ابريل 1925) لم يؤت على ذكرها في الجانب اللبناني.

د – لقد منعت سلطات الانتداب الفرنسي بيع الاراضي الى الحركة الصهيونية في المناطق القريبة من الحدود اللبنانية – الفلسطينية.

هـ - خلال مرحلة الثلاثينات، ثم خلال مرحلة الاربعينات استمر اهتمام الحركة الصهيونية بمياه جنوب لبنان، من امتياز شركة روتنبرغ عام 1929، ودراسة الجامعة الاميركية عام 1936، ودراسة ايونيدس (1939) ولودرميلك (1944) وألفرد نقاش (1943) وهيز (1948) وغيرهم.

في 23 مارس من عام 1949 تم توقيع محضر اتفاق الهدنة بين لبنان واسرائيل. وقد حرص المفاوض اللبناني على ان يتضمن الاتفاق مادة صريحة لا لبس فيها تدل على الاعتراف بان خط الهدنة يتطابق مع خط بوله – نيوكومب. فقد جاء في المادة الخامسة: أ – يجب ان يتبع خط الهدنة الدائمة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين...». وتطبيقاً لروحية هذا النص قامت لجنة الهدنة اللبنانية – الاسرائيلية، وباشراف مراقبي الامم المتحدة، بمسح جديد للحدود المشتركة وثبتت من جديد النقاط الحدودية بين لبنان واسرائيل بالتساوي.

والعمل سيتم على اساس الخريطة 30.000/1 Palestine والخريطة 50.000/1 Levant . واعمال اعادة احياء نقاط الترسيم التي كانت موضوعة سابقاً تبدا انطلاقاً من الشرق، ويجب ان تتم بسرية، واستمرت الاجتماعات بين اللبنانيين والاسرائيليين، في اطار الهدنة، حتى 28 مارس 1967. وقد تقرر عقد اجتماع للتوقيع النهائي، بين الوفدين اللبناني والاسرائيلي باشراف المراقبين الدوليين، على 8 خرائط تتعلق بالنقاط على خط الحدود بين لبنان واسرائيل. لكن تأزم الوضع واندلاع حرب 1967 اجلا هذا الامر الى مرحلة ما بعد 1967. وعلقت اسرائيل العمل بلجنة الهدنة واحتلت جنوب لبنان عام 1978. وبتاريخ 19 مارس من العام نفسه صدر القرار 425 الذي دعا الى «الاحترام الصارم لوحدة اراضي لبنان ولسيادته ولاستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دوليا». وفي تقرير الامين العام، الذي اقره مجلس الامن في القرار 426، دعوة لكي تتثبت القوات الدولية «من انسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية حتى الحدود الدولية». بعد ذلك صدر اكثر من 12 قرار عن مجلس الامن تؤكد احترام سيادة لبنان ضمن حدوده المعترف بها دوليا. وعندما شارك لبنان في مؤتمر مدريد كان موقفه الثابت رفض التفاوض على مبدأ تنفيذ القرار 425، وانما ما يمكن التفاوض عليه هو آلية تنفيذ القرار والمدة لتنفيذه على قاعدة جدول محدد، وان لبنان غير معني بمبدأ «الارض مقابل السلام» كما هو مطروح تطبيقاً للقرارين 242 و338. وكان من الواضح ان الكثير من اوراق العمل الاميركية والاسرائيلية خلال المفاوضات التي جرت بين اسرائيل وسورية برعاية اميركية تعاملت مع لبنان كسلعة للمسامة وليس كدولة مستقلة تتمتع بسيادتها وسبق ان شاركت في وضع ميثاق كل من جامعة الدول العربية والامم المتحدة.

* أستاذ تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها وتاريخ العرب الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية