تحالف الملالي والعسكر

الجماعة الإسلامية في باكستان ولدت على أفكار المودودي وبنت علاقات مع الجيش.. ثم تدهورت شعبيتها وسط الطبقة الوسطى

جنود باكستانيون عند الحدود مع أفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

في الأول من مارس (آذار) 2003، قام أكثر من 20 فردًا من المخابرات الباكستانية بالقبض على خالد شيخ محمد الذي يعتبر العقل المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، حيث أدار العملية من منزل خاص في مدينة روالبندي المحصنة. وفي ذات الليلة قامت المخابرات الباكستانية بدعوة مجموعة مختارة من الصحافيين والمراسلين الباكستانيين والأجانب إلى مقر جهاز المخابرات لإطلاعهم على تفاصيل عملية القبض على خالد شيخ محمد. وعلم معظم الصحافيين أن المنزل الذي كان يقطن به خالد شيخ محمد ساعة إلقاء القبض عليه ملك لأحد أبرز العائلات الدينية في مدينة روالبندي، والتي ترتبط بصلات وثيقة بالجماعة الإسلامية الباكستانية، فصاحب المنزل هو أحمد عبد القدوس الذي تعد والدته إحدى ناشطات الجماعة الإسلامية. وخلال المؤتمر، بدأ الصحافيون في سؤال نائب المدير العام للاستخبارات الباكستانية، الذي كان يطلعهم على تفاصيل العملية وعن العلاقات المحتملة بين الجماعة الإسلامية والقاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى فقال: «الجماعة الإسلامية كحزب ليس له صلات بالقاعدة أو أي جماعات إرهابية أخرى». ولكن يبدو أن العلاقات بين القاعدة والجماعة الإسلامية كان يشوبها الكثير من النزاع، إذ أن الجماعة تعتبر أكثر الأحزاب الآيديولوجية الإسلامية الباكستانية قربًا من الجيش والاستخبارات، حيث قامت الجماعة بتفريخ العديد من الجماعات الجهادية التي خرجت للقتال في كشمير نيابة عن الاستخبارات الباكستانية، كما ساعدت الجيش مرتين في تقويض حكومة بي نظير بوتو عام 1990. وزعم السياسيون المعارضون للجماعة الإسلامية أن الجماعة تحمي مقاتلي القاعدة، إذ أن العديد من مقاتلي الجماعة تم القبض عليهم في منازل تابعة لأعضاء الجماعة في كراتشي، لكن زعيم الجماعة قاضي حسين أحمد نفى أن يكون للقاعدة أي وجود. وكانت الجماعة الإسلامية قد طورت علاقاتها مع الجيش والاستخبارات الباكستانية إبان الحرب الأفغانية ضد السوفيات في الفترة ما بين الثمانينات والتسعينات عندما كانت الأحزاب الأفغانية تحارب الاحتلال الروسي لأفغانستان حيث أمدتهم الجماعة بالمساعدات المالية والعسكرية القادمة من الولايات المتحدة وباكستان وعدد من الدول الأخرى ذات الصلة. وحافظت الجماعة الإسلامية على مكانة الصدارة في الجهاد الأفغاني حيث كانت لها صلات وثيقة بالأحزاب الإسلامية الأفغانية مثل حزب إسلامي الذي يتزعمه قلب الدين حكمتيار والجماعة الإسلامية التي يترأسها برهان الدين رباني. وتورطت الجماعة الإسلامية في الحرب الأفغانية إلى درجة أن الأحزاب العلمانية في إسلام أباد اعتادت على اتهامها بالقيام بالمهمة الأميركية بدلا منها وتتلقى التمويلات من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وظلت تلك العلاقات التي تشكلت بين الجماعة والجيش الباكستاني والاستخبارات حاسمة في تحديد موقف الجماعة بالنسبة للموقف السياسي الداخلي الباكستاني، وفي الوقت الذي ظلت فيه على أطراف الساحة الانتخابية، إذ لم تفز بقدر كبير من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سعت الجماعة جاهدة إلى تحسين وضعها السياسي عبر التبني لعدد من القضايا مثل تحرير كشمير من الاحتلال الهندي وكذلك عبر الدخول في تحالفات مع القوى السياسية المؤيدة للجيش.

وتأسست الجماعة الإسلامية كحزب سياسي عام 1941 إبان فترة الاحتلال البريطاني لما كان يعرف آنذاك بالهند المتحدة، وكتب مؤسس الجماعة مولانا أبو الأعلى المودودي بصورة موسعة في نواحي الإسلام السياسي والاقتصادي وقام بتوصيف الدولة الإسلامية والمجتمع في باكستان. ويقول سهيل ناصر أحد المعلقين السياسيين في باكستان إنه لم تكن الجماعة الإسلامية في يوم من الأيام حزبًا سياسيًا يحظى بشعبية في باكستان، والمرة الوحيدة التي سجلت الجماعة لنفسها دورًا بارزًا على الساحة السياسية الباكستانية كانت في انتخابات عام 2002 البرلمانية، حيث انضمت إلى ستة أحزاب دينية أخرى لتشكل تحالفا متحدا (مجلس الأمل) حيث نجحت في الحصول على 58 مقعدًا في البرلمان الوطني.

ويضيف ناصر: «ذلك النجاح الانتخابي للجماعة الإسلامية والأحزاب السياسية الأخرى، كان أمرًا متوقعًا وسهلاً لأن القادة الذين يحظون بشعبية كبيرة مثل بي نظير بوتو ونواز شريف لم يشاركا في الانتخابات حينها حيث كانا في المنفي الإجباري». وهناك آخرون ممن ذكروا أسبابًا واقعية لفوز الجماعة والأحزاب الدينية في انتخابات عام 2002 البرلمانية، فقال البعض إن الجيش والاستخبارات تلاعبا بنتائج الانتخابات لمنح الجماعة الإسلامية والأحزاب الدينية الأخرى 58 مقعدًا في البرلمان. وهو ما أتى في سياق العبارة الشهيرة «تحالف الملا العسكري» والتي صاغها كتاب سياسيون باكستانيون مشهورون، كما شهدت التطورات السياسية التي تلت ذلك على قرب الصلات بين الجيش والجماعة الإسلامية، فقد صوتت الجماعة والأحزاب الدينية الأخرى على 17 تعديلاً دستوريًا مما وفر الشرعية للانقلاب العسكري في 12 أكتوبر(تشرين الأول) 1999، الذي جاء بالجنرال برويز مشرف إلى السلطة.

وحاول قاضي حسين، أحمد زعماء الجماعة الإسلامية، تحويل الجماعة إلى حزب سياسي يحظى بالشعبية حيث قام بإبعاد الحزب عن أنشطة الجيش والاستخبارات. ومن ثم انقلبت الجماعة على مشرف وظلت في صدارة حركة الاحتجاج ضد الحكومة. وقدم قاضي حسين أحمد اعتذارًا للشعب الباكستاني على تقديم الدعم لنظام حكم مشرف والتي تمثل في التعديلات الدستورية التي أعطت الشرعية لرئاسته.

وعلى الرغم من الصلات الوثيقة بالجيش والتعامل مع برويز مشرف بمنحه الشرعية الدستورية التي كان يرغب بها فإن قيادة الجماعة الإسلامية تركت خيار الرجعة مفتوحا، ولم تغلق الباب في وجه المنفيين، السنوات الثماني الماضية، وذلك عبر الاحتفاظ بصلات سرية مع رئيس الوزراء السابق نواز شريف. ويقول خالد عظيم المعلق السياسي عبر القنوات الإخبارية الخاصة: «كانت الجماعة الإسلامية ونواز شريف على صلات وثيقة خلال العقد الماضي منذ 1988 عندما حاولا إقصاء بي نظير بوتو من منصب رئاسة الوزراء». وللجماعة الإسلامية حضورها القوي في الهند وبنغلاديش، والجزء الهندي من كشمير، وبعد تشكيل باكستان انقسمت الجماعة الإسلامية إلى جماعتين مع مؤسسها مولانا أبو الأعلى المودودي والقادة البارزين الآخرين الذين هاجروا إلى باكستان للانضمام للجماعة الإسلامية الباكستانية، غير أن الجماعة الإسلامية في الهند استمرت في ممارسة نشاطاتها تحت شعار «الجماعة الإسلامية الهندية»، وفي أعقاب انقسام باكستان عام 1971 إلى شطرين أسست الجماعة وحدة مستقلة في بنغلاديش، ويقول شهيد شمسي المتحدث باسم الجماعية الإسلامية الباكستانية «الآيديولوجية واحدة لكنها منظمات مستقلة».

ويتفق المحللون السياسيون على أن الجماعة الإسلامية هي الحزب الأكثر تنظيمًا في البلاد ولديها قاعدة قوية من الناشطين السياسيين المتخصصين في أساليب الإثارة السياسية. ويقول أمير رانا، الباحث الذي كتب بصورة موسعة عن الجماعة الإسلامية والحركات الدينية الأخرى: «يبلغ عدد أعضاء الجماعة الإسلامية 15824 منهم 1295 سيدة. وينتسب للجماعة 56455 ناشطا سياسيا من بينهم 9381 سيدة». وكان الناشطون السياسيون التابعون للجماعة الإسلامية في طليعة المتمردين والثائرين في العديد من الوقائع في التاريخ الباكستاني، ففي عام 1977 قاد ناشطو الجماعة عملية تهييج سياسي ضد رئيس الوزراء ذو الفقار على بوتو (والد بي نظير بوتو) ونتيجة لتلك العملية قام الجنرال ضياء الحق بفرض قانون الطوارئ في البلاد ثم في عام 1990 و1996 قاد ناشطو الجماعة أعمال تهييج سياسي ضد حكومات بي نظير بوتو. ومنذ الانتخابات البرلمانية في فبراير (شباط) 2008 تم تهميش الجماعة الإسلامية في السياسيات الباكستانية، فقد اختارت مقاطعة الانتخابات البرلمانية تحت ذريعة أن الانتخابات لن تكون عادلة تحت إشراف برويز مشرف. وموقف الجماعة تجاه مقاطعة الانتخابات أدى إلى انفصال اتحاد الأحزاب الستة «متحدة مجالس الأمل»، حيث فضلت الأحزاب الأخرى خوض غمار السباق الانتخابي كما حاولت الجماعة إقناع نواز شريف رئس الوزراء الأسبق بمقاطعة الانتخابات لكنهم فشلوا في ذلك. وتعد الآن الجماعة الإسلامية جزءًا من تحالف كل أحزاب الحركة الديمقراطية والتي تشكل الأحزاب الإقليمية غير البارزة على الساحة. وفي الآونة الأخيرة، توارت الجماعة عن الأنظار نتيجة للأعمال العدائية التي قامت بها بعض المجموعات المسلحة مثل جيش محمد وعسكر طيبة. ويقول سهيل نزار: «في وقت ما كانت الجماعة الإسلامية تتلقى الكثير من التمويلات من الشعب الباكستاني من أجل الجهاد في كشمير، لكن تلك التمويلات بدأت تذهب الآن إلى منظمات مثل عسكر طيبة وجيش محمد». ومعلوم أن للجماعة الإسلامية ذراعين مسلحين يحاربان القوات الهندية في الجزء الخاضع لها من كشمير. ولعل أكبر الجناحين العسكريين هو حزب المجاهدين الذي تشكل عام 1989 لشن عمليات جهادية ضد القوات الهندية في كشمير والجناح الثاني هو مجاهدو بدر والذي انبثق من حزب المجاهدين. وانفصل عن التنظيم الرئيسي بسبب الخلافات حول أمر السياسة العسكرية مع قيادته. والأمر المثير للدهشة عن كلا التنظيمين أنهما خلال حربهما ضد القوات الهندية في الجزء الخاضع للإدارة الهندية كانت كل قياداتهما موجودة في باكستان. وفي الأيام القليلة الماضية أسهم عاملان في انزواء تلك التنظيمات المنتسبة إلى الجماعة الإسلامية إلى الظل، فبعد تعرض الجماعة لضغوط من جانب الولايات المتحدة والجيش الباكستاني ووكالات الاستخبارات لم تعد تقدم لتلك التنظيمات المسلحة ذلك الدعم المادي أو العسكري. والجيش الباكستاني الآن لا يسمح للمقاتلين المنتمين إلى تلك التنظيمات بعبور خط الحدود إلى كشمير لشن هجمات ضد الجيش الهندي. الأمر الثاني: كما يشير أحد المحللين السياسيين، وجود تغير ملحوظ في سياسات الجماعة الإسلامية في خلال العامين الماضيين حيث تركز قيادة الجماعة الآن على الشؤون الداخلية. ولهذا السبب ترى الجماعة الإسلامية تقف في طليعة حركة المحامين من أجل إعادة القضاة. وعلى عكس السنوات السابقة (في الثمانينات والتسعينات) عندما كانت الجماعة منشغلة في تعبئة الرأي العام لشن الحرب ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان والقوات الهندية في كشمير، تراهم يتبنون قضايا داخلية مثل عودة القضاة إلى مناصبهم. ومؤسس الجماعة الإسلامية أبو الأعلى المودودي كان شخصية تحظى باحترام واسع لكنه كان عالمًا دينيًا مثيرًا للجدل في باكستان، وقد أثرت أفكاره في عدد كبير من مهني الطبقة الوسطى ذات التأثير على السلطات المدنية والعسكرية بالرغم من عدم انتمائها للجماعة الإسلامية بأعداد كبيرة. وبعد المودودي فشلت الجماعة في السير وفق المنهج العقلاني الذي وضعه، ولم تعد الآن سوى حزب سياسي تقليدي دون أي قاعدة فكرية، ونتيجة لذلك فقد بدأ تأثيرها على الطبقة المتوسطة في الانحدار بصورة كبيرة.