عندما تعطس أميركا

العالم يواجه واحدة من أكبر الأزمات المالية خلال القرن.. والكل يتساءل كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟

متعاملان في بورصة فرانكفورت الالمانية يوم 15 سبتمبر الجاري عندما انخفضت البورصة 4,6% («الشرق الأوسط»)
TT

قبل عامٍ لم يكن العالم قد سمع بتعبير «أزمة الائتمان» credit crunch، أما اليوم فقد دخل هذا التعبير القواميس الاقتصادية. وهو يعني باختصار: شحاً كبيراً في السيولة لدى البنوك. ورغم أن الاقتصاديين اختاروا تاريخاً محدداً لبداية الأزمة وهو 9 أغسطس (آب) 2007، عندما أعلن بنك «بي إن بي بريبا» الفرنسي زيادة ضخمة في سعر الفائدة على القروض التي يمنحها) فإن بداية الأزمة كانت في الولايات المتحدة قبل فترة طويلة من هذا التاريخ. وكما يقول الاقتصاديون دائماً «عندما تعطس الولايات المتحدة، يُصاب بقية العالم بالرشح». فخلال العامين بين 2004 و2006، رفعت الولايات المتحدة سعر فائدتها الأساسي مرة تلو الأخرى ليصل من 1% إلى 5.35%. وكانت نتيجة ذلك أن فشل عددٌ كبير من الأميركيين في سداد الاقساط الشهرية على قروضهم التي اشتروا بها منازلهم. ومع فشلهم في السداد لاحت بداية أزمة السيولة لدى البنوك، خصوصاً تلك التي كانت تمنح قروضاً بمئات الآلاف بكل سهولة دون التدقيق في قدرة العملاء على سداد هذه الديون. وفي أغلب الأحيان تفرض البنوك أسعاراً مرتفعة للفائدة على هذه القروض، علماً منها بأن أصحابها لا يستطيعون الحصول على قروض بالطريقة العادية وبأسعار فائدة عادية. بالطبع فقط اضطرت البنوك إلى تحمل خسائر هذه الديون التي تُعرف باسم «الديون المعدومة» أو «الديون الهالكة». كما أن القروض التي تُمنح بسهولة دون التدقيق في القدرة المالية للعميل نمت وانتشرت بسرعة في الأسواق الغربية بحيث أصبحت تُعرف باسم خاص بها sub-prime وتخصصت فيها بعض البنوك. وربما ما دفع المصارف إلى تسهيل منح القروض هو المنافسة فيما بينها على «خطف الزبائن من السوق» قبل أن يذهبوا إلى بنك آخر. فكل بنك كان يسعى إلى الحصول على عددٍ أكبر من العملاء، ومن ثم حصة أكبر في السوق. ومع بداية عام 2007 وصل حجم «القروض الخطرة» إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، الأمر الذي دفع بعض الخبراء الماليين إلى التحذير من خطورة سياسة الاقراض المتساهلة، وإمكانية تأثيرها على استقرار النظام المالي بشكل عام. وهذا ما حدث بالفعل في ربيع ذلك العام. لكن قبل ان يصل العالم للأزمة المالية الحادة التي يواجهها اليوم، حدثت الكثير من الأحداث والتطورات منذ 2007 أوصلتنا للوضع الذي نحن فيه اليوم. وأهمها: > أبريل (نيسان) 2007 أعلنت مؤسسة «نيو سنتشري فايننشيال» الأميركية التي تتخصص في القروض المتساهلة، إفلاسها. وكان هذا أول مؤشر للعالم بأن سوق القروض المتساهلة sub-prime بالفعل يعاني من أزمة خطيرة.

> يوليو (تموز) 2007 أبلغ البنك الاستثماري الكبير «بير ستيرنز» عملاءه بأنهم قد لا يستعيدون الأموال التي استثمروها معه في صندوقين استثماريين، وذلك بعد أن فشل البنك في اقناع البنوك الأخرى في مساعدته للخروج من أزمة السيولة التي بدأ يعاني منها. وعقب إعلان البنك مباشرة، أعلن رئيس مجلس إدارة البنك المركزي الأميركي، بن بيرنانك، أن حجم الخسائر في الولايات المتحدة من القروض المعدومة قد يصل إلى 100 مليار دولار.

> أغسطس (آب) 2007 منع البنك الفرنسي الشهير «بي إن بي بيريبا» مستثمريه من سحب أموالهم من 3 صناديق استثمارية بسبب «التبخر الكامل للسيولة» البالغة نحو 2.3 مليار يورو. واعتبرت الأسواق المالية حول العالم هذا الإجراء أقوى دليلٍ على وجود أزمة شُح السيولة وانتشارها خارج حدود الولايات المتحدة. وكرد فعلٍ سريع، قرر البنك المركزي الأوروبي ضخ 95 مليار يورو (نحو 136 مليار دولار) في محاولة لتوفير السيولة للنظام المصرفي. ثم ضخ 108.7 مليار يورو إضافية خلال الأيام القليلة التي تلت. وبعد أسبوع خفض «مجلس الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) سعر الفائدة على قروضه للبنوك بمقدار نصف نقطة مئوية. كما حذر لأول مرة من أن أزمة الائتمان قد تعيق النمو الاقتصادي العالمي. وقبل نهاية الشهر بيومين، واجه بنك «ساتشزين لاندزبنك» الألماني الانهيار، لكن بنكاً آخر أكبر حجماً، وهو بنك «بادن فيرتنبيرغ»، اشترى البنك المنهار. > سبتمبر (أيلول) 2007 أعلنت مؤسسة «إي كاي بي» الألمانية للتمويل أنها خسرت مليار دولار من استثماراتها المرتبطة بالسوق الأميركي. كما بلغ سعر الفائدة بين البنوك أعلى مستوى له (6.79%) منذ عام 1998 بسبب خوف البنوك من إقراض بعضها بعضا لعدم معرفتها بوضع السيولة في البنك المستدين أو لعدم توفر السيولة لدى البنك المدين نفسه. وفي الشهر ذاته، أعلن بنك «نورذر روك» العقاري البريطاني إفلاسه، مما اضطر الحكومة البريطانية لضخ 10 مليارات جنيه إسترليني (نحو 20 مليار دولار) لضمان إعادة مدخرات العملاء في البنك وضمان استقرار النظام المصرفي. وفي هذه الأثناء، خفضت الولايات المتحدة سعر الفائدة بنصف نقطة مئوية للمرة الثانية خلال أسابيع بسيطة. > أكتوبر (تشرين الأول) 2007 مدير أحد أكبر البنوك الاستثمارية الأميركية «ميريل لينش» يستقيل بعد خسارة قدرها 4 مليارات دولار من الديون الهالكة. وبعد أيام يستقيل أيضاً مدير مجموعة «سيتي كورب» العملاقة بعد إعلان البنك عن خسائر قدرها 5 مليارات دولار. وفي الأشهر الستة التالية بلغت خسارة البنك 40 مليار دولار. وفي سويسرا أيضاً خسر بنك «يو بي إس» 3.4 مليار دولار. وبعد فترة قصيرة أعلن بنك «ميريل لينش» عن خسارة إضافية بلغت 7.9 مليار دولار. > ديسمبر (كانون الأول) 2007 خفض بنك إنجلترا المركزي سعر الفائدة على القروض للمرة الأولى منذ عام 2005. وفي الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش أن الدولة ستساعد أكثر من مليون شخص يعانون من صعوبات في سداد أقساطهم الشهرية على قروض منازلهم. ولأول مرة في التاريخ تقوم 5 بنوك مركزية في العالم بتنسيق جهودها لضخ مليارات الدولارات في المصارف التجارية للتخفيف من حدة أزمة السيولة. وكان أكبر هذه المبالغ ما أعلنه البنك الأوروبي المركزي في 17 من ذلك الشهر، إذ دفع 500 مليار دولار كقروض للبنوك لمساعدتها على تخطي أزمة السيولة.

> العام الجديد ـ 2008 بحلول مطلع العام الجديد، أصبحت أزمة القروض (أو الائتمان) واقعاً ملموساً في حياة الناس العاديين، لأن الكثيرين منهم شهدوا أقساطهم الشهرية لسداد قروض منازلهم ترتفع كثيراً بعد أن رفعت غالبية المصارف أسعار فوائدها لتصبح أعلى كثيراً من سعر الفائدة الأساسي الذي يحدده البنك المركزي. وهذا في حد ذاته أمرٌ غير مألوف، لأن أسعار فوائد البنوك التجارية عادة تبقى قريبة جداً من سعر الفائدة المركزي. لذا، فكلما خفضت البنوك المركزية أسعار فوائدها لم يؤثر ذلك على أسعار الفوائد التي فرضتها المصارف على عملائها. وكانت المصارف تسلك هذا المسلك بدافع الخوف من فقدان السيولة أن مواجهة الإفلاس في أسوأ الحالات. وفي هذه الأثناء، كشف المزيد والمزيد من المصارف عن خسائر بالمليارات أو مئات الملايين بسبب الديون الهالكة. وفي 21 يناير (كانون الثاني)، شهدت أسواق الأسهم الدولية أكبر انخفاضٍ لها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وفي اليوم التالي، خفض البنك المركزي الأميركي سعر الفائدة مرة أخرى ليصل إلى 3.5%، لكن دون جدوى.

> فبراير (شباط) 2008 خفض بنك إنجلترا المركزي سعر الفائدة إلى 5.25% بعد أن اتضح أن عدد المنازل التي استولت عليها البنوك بسبب فشل أصحابها في سداد الأقساط، بلغ 27100 منزل، وهو أعلى رقم منذ عام 1999. وفي الشهر ذاته اجتمع زعماء الدول الصناعية السبع الكبرى وأعلنوا أن أزمة الائتمان المصرفي حول العالم سببها أزمة القروض المعدومة في الولايات المتحدة، وأنها قد تكلف الأسواق المالية 400 مليار دولار.

> مارس (آذار) 2008 اضطرت الولايات المتحدة إلى توفير أكبر مساعدة للبنوك التجارية حتى الآن، إذ ضخت 200 مليار دولار كسيولة متاحة للبنوك لاقتراضها. كما اشترى بنك «جاي بي مورغان» الاستثماري العملاق بنك «بير ستيرنز» المتعثر بمبلغ 240 مليون دولار بعد أن كانت قيمته قبل عامٍ واحدٍ فقط تبلغ 18 مليار دولار، عندما كان خامس أكبر بنك في الولايات المتحدة.

> أبريل 2008 صندوق النقد الدولي يحذر من أن خسائر أزمة الائتمان حول العالم قد تصل إلى أكثر من تريليون دولار، كما أنها بدأت تتسرب إلى قطاعات اقتصادية أخرى. وفي بريطانيا، خفض البنك المركزي سعر الفائدة مرة أخرى بعد أن أعلن بنك «رويال بنك أوف سكوتلاند»، ثاني أكبر البنوك البريطانية، أنه يحتاج إلى 24 مليار دولار لسد فجوة في السيولة. أزمة النفط والغذاء > مايو (أيار) 2008 نسبة التضخم في بريطانيا تبلغ 3% بسبب ارتفاع أسعار الوقود والغذاء عالمياً، الإحصاءات تكشف أن 850 شركة أعلنت إفلاسها في الربع الأول من هذا العام، أي بارتفاع نسبته 54% عن الفترة نفسها من العام الماضي. وفي المقابل، ظلت أسعار العقارات تنخفض في غالبية الدول الغربية لتعمّق من أزمة السيولة لدى المصارف. > يونيو (حزيران) 2008 الولايات المتحدة تعتقل 406 أشخاص تتهمهم بالفساد في أسواق القروض والاحتيال في قروضٍ عقارية تبلغ قيمتها مليار دولار، وذلك بهدف تطمين الأسواق بالسيطرة على الأزمة. وفي بريطانيا، أعلن بنك باركليز عن طرح 1.6 مليار سهم جديد بغرض توفير 9 مليارات دولار. ودولة قطر تدفع نحو 3.2 مليار دولار لشراء حصة نسبتها 7.7% من أسهم البنك. > يوليو 2008 بنك «إنديماك» العقاري الأميركي يصبح ثاني بنك أميركي كبير ينهار بسبب تعمق أزمة الائتمان. لكن الإدارة الأميركية تدخلت في الشهر نفسه لإنقاذ أكبر مؤسستين للتمويل العقاري في الولايات المتحدة، وهما «فاني ماي» و«فريدي ماك» باعتبارهما يسيطران على عقارات يبلغ مجموعها 5 تريليونات دولار. فقد كان انهيارهما سيعني انهياراً كاملاً للنظام المصرفي الأميركي. > أغسطس 2008 تواصل ظهور نتائج سيئة لأداء البنوك حول العالم، فضلاً عن تواصل انخفاض مؤشرات أسواق الأسهم لمدة 7 أسابيع على التوالي. وتقريباً كل أسبوع يعلن بنك أو مؤسسة مالية عن خسائر كبيرة.

> سبتمبر 2008 بنك «ليمان بروذرز» الأميركي العملاق، الذي يبلغ عمره 150 عاماً يعلن إفلاسه. وفي نفس اليوم يعلن بنك «ميريل لينش» الذي لا يقل حجماً وأهمية أنه قبل عرضاً من «بنك أوف أميركا» لضمِّه. واعتبر هذان الإعلانان أسوأ أيام الأزمة حتى الآن، وسط تكهنات في الأسواق المالية حول ما اذا كانت الأزمة قد وصلت القاعَ أم أن هناك ما هو أسوأ آتٍ في الطريق.