أولمرت.. الانقلاب على الذات

شخصيته تأثرت بشارون وزوجته وأبو مازن.. وحبه للترف والفنادق الفخمة وجمع الأقلام الثمينة.. نقاط ضعفه

TT

ورثة إيهود أولمرت في الحكم في اسرائيل مشغولون في عملية بناء مضنية لمجدهم. فمثلما رفعته الصدف الى رئاسة الحكومة، رفعتهم. ولكن أولمرت يغادر كرسيه في رئاسة الحكومة الاسرائيلية بقناعات أخرى. فهو يقول بوضوح ان «الكلمة الأخيرة» في قضيته لم تقل بعد. وان معركته السياسية لم تنته بعد. وانه سيعود الى القيادة الاسرائيلية، مثله في ذلك كمثل سابقيه اسحق رابين وبنيامين نتنياهو. فهو واثق من انه سيثبت براءته من الشبهات والاتهامات بالفساد. وانه سيستطيع تحقيق المهمة التي تبدو اليوم مستحيلة، ويسترد ثقة الجمهور به. بل انه يقول صراحة ان الذين فرحوا بالخلاص منه سيندمون. فمن أين هذه الثقة؟ وهل هي واقعية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة كثيرة ومتناقضة. بيد ان احتمالات عودته ليست مستحيلة. ومسيرته السياسية في اسرائيل تزيد من احتمالات العودة، حيث ان المراقبين يقولون عنه انه داهية سياسية حقيقية. وإن وقع اليوم فريسة لخصومه، فإنه قادر على النهوض من جديد والاندفاع بقوة أكبر الى الأمام. هذه الصفات ليست بعيدة عن ماضيه. فقد ولد أولمرت في بيت مسيس، فوالده كان من النشطاء الحزبيين في الجناح اليميني من الحركة الصهيونية، وهو ورث عنه هذا الانتماء. ولد مردخاي أولمرت في روسيا، لكنه نما وترعرع في الصين، لأن والده (جد إيهود أولمرت) انتقل اليها في اطار عمله. وفقط عندما بلغ والده الحادية والعشرين، هاجر الى فلسطين ضمن نشاط الحركة الصهيونية الاستيطانية.

وفي سنة 1945 ولد ايهود في بلدة بنيامينا في فلسطين، ليكون أخا رابعا لثلاثة أشقاء ذكور: يوسي، وهو مستشرق يحمل الدكتوراه، أشغل عدة مناصب في الدوائر الحكومية لكنه تورط ماليا فهجر اسرائيل، ويرمي وهو عميد في جيش الاحتياط ورئيس بلدية سابق ويدير حاليا الاتحاد الإسرائيلي لكرة السلة، وعمرام، وهو رجل أعمال. بدأت العائلة طريقها في العمل الزراعي ضمن تعاونية أسستها حركة اليمين المتطرف الصهيوني «بيتار» في الحقول المجاورة لبلدة بنيامينا شمال شرق حيفا. لكن الوالد بدا نشيطا حزبيا واعدا، وما فتئ أن طلبه مناحم بيغن (زعيم حزب حيروت آنذاك، الذي يعرف اليوم بالليكود)، ليتفرغ للعمل الحزبي. ثم انتخب عضوا في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) لدورتين. من هنا فإن ايهود أولمرت يعتبر من «الأمراء»، وهو اللقب الذي يطلقونه في اسرائيل على أبناء الزعماء السياسيين الذين يكملون طريق آبائهم. بدأ ايهود أولمرت طريقه وشهرته بالتمرد على القيادة. فعندما كان في الحادية والعشرين من العمر، صعد الى منصة مؤتمر حزب «غاحل» (أصبح الليكود)، وألقى خطابا أحدث الزلزال. فقد طلب من قائد الحزب، مناحم بيغن، أن يستقيل من منصبه كزعيم للحزب لأنه خلال ست معارك انتخابية متواصلة، فشل في تحقيق الانتصار على حزب العمل الحاكم. «القائد الفاشل يجب أن يستريح ويفتح الطريق لغيره»، قال يومها. مثل هذه المواقف لم تكن مقبولة في ديمقراطية ذلك الوقت، لذلك هب مندوبو المؤتمر ضده يطالبونه بالاعتذار والنزول عن المنصة، لكنه أصر على أن يكمل خطابه، فصعد بعض «القبضايات» منهم الى المنصة لكي ينزلوه بالقوة. وقد تصدى لهم بيغن نفسه قائلا ان الشاب أولمرت يعبر عن رأي شرعي وإن الديمقراطية تحتم عليهم سماعه حتى النهاية. وقد رد أولمرت بالمثل، فشكر بيغن على موقفه المسؤول وواصل كلامه. وتحول في ذلك اليوم الى نجم اعلامي، غطى على كل أبحاث المؤتمر. فأجروا معه المقابلات الصحافية وأشاروا اليه بالبنان.

قادة ذلك الحزب عملوا ما يلزم، يومها، لكي يفهم أولمرت الشاب بأن عليه أن يجد مهنة أخرى سوى السياسة. فإذا تعامل معه بيغن بتسامح، فإن أعضاء الحزب وقادته الآخرين لن يسامحوه. لذلك اتخذ مساره في الجيش. فدخل دورة ضباط. ثم عمل صحافيا للشؤون العسكرية في مجلة الجيش «بمَحانيه». وتوجه بعد ذلك الى الحياة المدنية، فدرس علم النفس والعلوم السياسية ثم القانون وأصبح محاميا وفتح مكتبا ناجحا جدا، والنجاح زاد من حبه للشهرة والقيادة. وظلت السياسة هاجسه الأساس. وانتهز أول فرصة له في مطلع السبعينات، حيث ترك الحزب مجموعة من القادة برئاسة المحامي يوسف تمير. فانضم اليه في تأسيس حزب يميني ليبرالي جديد يدعى «المركز الحر». ثم انضم للعمل محاميا في مكتب تمير نفسه. وأصبح أقرب المقربين منه.

وانتبه تمير لنباهة أولمرت وقدرته على ادارة المعارك الانتخابية وتجنيد المؤيدين واطلاق الحملات الاعلامية، فوضعه في المكان الثاني في لائحته الانتخابية. وفي انتخابات العام 1973، حصل الحزب على عضوين ودخل أولمرت الى الكنيست.

في الكنيست برز أولمرت كأصغر النواب سنا (28 عاما)، وبالمعركة التي فرضها وسجلت باسمه وباسم نائب شاب آخر من اليسار، هو يوسي سريد. وهي المعركة ضد الفساد وضد الإجرام المنظم. ففي حينه سادت جرائم المافيا وبدا انها تتغلغل في صفوف العديد من مؤسسات الحكم ومختلف جوانب الحياة، وانتشرت الرشاوى واستبد الفساد بعدد من الزعماء. واستغل أولمرت حصانته البرلمانية ليحارب الظاهرة، ووقفت الى جانبه الصحافة الاسرائيلية وجعلت منه نجمها الأول. وحولته الى زعيم حقيقي. فاستمد منها الشجاعة، ولم يخف حتى عندما هددوه بالقتل. وراحت الصحافة تشترك معه في كشف الفساد. وفي مرحلة لاحقة كان أولمرت ينشر أسماء زعماء يمارسون الفساد، حسب وجهة نظره، ويتحداهم بأن يحاكموه على ما يقول. وكان بين من ألصق بهم تهمة الفساد وزير الاسكان، أبراهام عوفر. وقد انتحر الوزير باطلاق الرصاص على رأسه بعد أسبوع من قيام أولمرت بكشف اسمه. وحتى اليوم ما زالت عائلة الوزير عوفر تتهم أولمرت بالتسبب بقتل رب الأسرة. بعد هذه المرحلة بدأت الصحافة تكتشف أن أولمرت ليس ذلك القائد الطاهر، وأن ذلك الرجل الذي عرفوه فقط من خلال محاربته للفساد، هو نفسه من المشبوهين بمارسة الفساد. وحسب الكاتب الصحافي أوري بلاي، فإن أولمرت «هو أكثر رئيس حكومة في اسرائيل جرى التحقيق معه لشبهات الفساد». ويضيف بلاي ان أولمرت لم يخف علاقاته بالعالم السفلي وانه حتى اليوم يحافظ على علاقات مشبوهة مع الكثير من رجال الأعمال الذين يساعدهم على فتح الأبواب المغلقة بسبب البيروقراطية، مقابل قيامهم بدعمه المتواصل ماديا ومعنويا وبشكل متواصل.

ويعيد بلاي هذا الفساد لدى أولمرت الى نمو عادات في شخصيته يظهر فيها نقاط ضعف عديدة مثل حبه للمطاعم والفنادق الفخمة وهواية جمع أقلام الحبر، حيث يحتفظ بحوالي ألف قلم ثمين، ومظاهر البذخ والترف على اختلافها. قضايا الفساد التي جرى التحقيق فيها مع أولمرت تتعلق بتجنيد أموال بطرق غير شرعية وغير قانونية لحزب الليكود وتلقي الرشوة أو ما يشبه الرشوة (بينها التدخل لاستصدار بطاقة هوية اسرائيلية لمواطن فلسطيني) ثم القضايا الجديدة التي ظهرت في السنتين الأخيرتين حول تمويل معاركه الانتخابية الشخصية بطرق غير قانونية والسفر على حساب مؤسسات وغيرها.

عاد أولمرت الى حزب الليكود في فترة شامير، حيث أدار له حملته الانتخابية. وقد كافأه هذا بتعيينه وزيرا في حكومتيه الأولى (حيث تولى حقيبة الشؤون العربية، أي قضايا فلسطينيي 48) والثانية (وزير الصحة). لكنه بعد خسارة شامير الحكم سنة 1992 ترك أولمرت السياسة العليا وخاض الانتخابات لرئاسة بلدية القدس وفاز مرتين. وكان دوره المميز في البلدية بمشاريع الاستيطان لضمان تهويد المدينة ومنع اعادة تقسيمها، فأقام حي «هار حوماه» على جبل أبو غنيم الفلسطيني، وشق النفق الكبير تحت اسوار القدس، والذي يهدد الأسوار والمسجد الأقصى المبارك (بسبب هذا النفق انفجرت الصدامات الدامية بين جنود الجيش الاسرائيلي وبين رجال الشرطة الفلسطينيين سنة 1997، في أول صدام عسكري بين الطرفين منذ اتفاقات أوسلو، التي كان أولمرت من أشد معارضيها).

في فترة المفاوضات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، ايهود باراك، والرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، بدأ لدى أولمرت أول انعطاف سياسي. ففي المعركة الانتخابية الحامية الوطيس سنة 2001، أدار الليكود حملة قتل لشخصية باراك في مركزه الاتهام بأنه تنازل عن القدس وأعاد تقسيمها من جديد. فاعترض أولمرت على هذه الحملة وقال ان باراك بالغ في تنازلاته للفلسطينيين ولكنه لم يتنازل عن القدس وان هذه الحملة ظالمة. وقد اعتبر هذا الموقف مبدئيا شريفا بالنسبة لبعض القوى، فيما اعتبره البعض الآخر موقفا انتهازيا. وبسببه تعرض أولمرت لهجوم داخل حزبه. وعندما رشح نفسه لرئاسة حزب الليكود لم يحصل إلا على 7% من الأصوات.

وقد قرر أولمرت في هذه المرحلة اعتزال السياسة. وباع بيته في القدس بثلاثة ملايين دولار لكي يستثمر ثمنه في الاقتصاد وينتقل الى عالم رجال الأعمال. لكن أرييل شارون، خصمه الفائز في رئاسة الليكود، حافظ على الاتصال به وقربه منه خلال السنتين من عمر هذه الحكومة، وعشية الانتخابات التالية (2003) دعاه الى الانضمام اليه وقيادة حملته الانتخابية. ووعده بتعيينه قائما بأعمال رئيس الحكومة ووزيرا للمالية في حالة فوزه في الانتخابات. وحسب وزير الهجرة والاستيعاب، زئيف بويم، وأحد أقرب المقربين من أولمرت، فإن هذا التقارب المفاجيء نجم عن سلسلة لقاءات بين الرجلين دلت على انهما توصلا الى قناعات جديدة في السياسة تبعدهما عن طروحات حزب الليكود، بدءا بفشل سياسة أرض اسرائيل الكاملة والاستيطان اليهودي في قلب الأراضي الفلسطينية وانتهاء بضرورة انهاء الاحتلال للشعب الفلسطيني. ويعزو بعض المقربين من أولمرت هذا التغيير في مواقف أولمرت، ليس فقط لتأثير شارون، بل بالأساس بتأثير من زوجته عليزا، وهي أديبة وفنانة معروفة، ومن أولاده وهم جميعا في اليسار. أحدهم، شاؤول، يعتبر من اليسار الراديكالي الذي يحارب الخدمة في الجيش الإسرائيلي وينشط في حركة «يوجد حد» التي تحرض الجنود على ألا يخدموا في المناطق الفلسطينية المحتلة لكي لا يشاركوا في ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، والثانية، ميخال، وهي أيضا تعمل في الأدب وتنشط في حركة سلام نسائية. ولديه ابن ثالث هاجر الى فرنسا بعد أن رفض القيام بالخدمة الالزامية في الجيش. لقد تحمس أولمرت للعودة الى السياسة بعد إغراءات شارون، ولكن هذه العودة ترافقت بالانعطاف السياسي. فأصبح الشريك الأساس والمدافع الأول والصدامي عن أفكار وخطط شارون، بعد فوزه في الحكم. وأعد معه «خطة الفصل» (الانسحاب من قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية بشكل أحادي الجانب وازالة جميع مستعمرات غزة وأربع مستعمرات في الضفة). وكان الهدف من هذه الخطة أولا كسب الرأي العام العالمي الذي بدأ يطالب اسرائيل باطلاق المسيرة السياسية، وفي حينه ظهرت أيضا «وثيقة جنيف» (اتفاقية سلام إسرائيلي ـ فلسطيني توصل اليها قادة اليسار الإسرائيلي مع ممثلي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات). ولكي يثبت ان اسرائيل معنية بالسلام ومستعدة لدفع ثمن السلام، كسر طابو الاستيطان اليهودي ووضع سابقة أخرى للسلام بالانسحاب من جميع أراضي قطاع غزة.

وكما توقع شارون وأولمرت، فقد التف العالم حول حكومتهما بمجرد مشاهدة الجيش الإسرائيلي يجلي المستوطنين اليهود بالقوة والجرافات تهدم بعض المباني الاحتلالية في المستوطنات، وامتدحوا خطة الفصل كثيرا، رغم انها لم تضع حدا للصراع وبنيت على تجاهل القيادة الفلسطينية تماما.

كان أولمرت سعيدا بالارتقاء الى المنصب الرفيع كرجل ثان في الحكومة. لكنه لم يتوقع أن يصبح رئيس حكومة بهذه السهولة. فهو يعرف وضعه في الليكود جيدا. في الانتخابات الداخلية لليكود 2003، وعلى الرغم من منصبه الكبير في الحكومة، احتل المرتبة 38 في لائحة الحزب الانتخابية ودخل الكنيست بالقوة. والمفروض ان أمامه 37 مرشحا أقوى منه. لكن هذا الوضع لم يؤثر على مكانته لدى شارون فمنحه المنصب الرفيع كما وعد. وراح يعتمد عليه اعتمادا أساسيا في الحكم. ومع تطبيق خطة الفصل، بدأ يفكر معه في الخطوات القادمة، وفي مقدمتها اخلاء النقاط الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية. وعندما أقيم معسكر يميني متطرف ضدهما في الليكود، تصدى أولمرت قبل شارون لهذا المعسكر ثم اقنع شارون بالانسحاب من الليكود وتشكيل حزب جديد مع شيمعون بيريس، الذي كانت المعارضة الداخلية له قد أسقطته عن رئاسة حزب العمل.

ونفذت هذه الخطوة بشكل درامي زعزع الخارطة السياسية في اسرائيل برمتها. وزاد من الالتفاف الدولي حول اسرائيل تحت قيادتهما. وأشارت استطلاعات الرأي في حينه الى ان الحزب الجديد (كديما) سيفوز بـ 44 مقعدا (من مجموع 120 مقعدا في الكنيست). وهنا جاءت ضربة الحظ، الصدفة التي جعلت أولمرت يصبح رئيسا للحكومة. فقد مرض شارون بشكل مفاجئ في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2005، وبعد أيام أصيب بشلل دماغي 4 يناير (كانون الثاني) 2006، فأصبح رئيس الحكومة الفعلي. ثم جرى تبكير موعد الانتخابات وفاز برئاسة الحكومة عن حق وجدارة. صحيح ان أولمرت لم يحقق مكسبا بمقدار المكسب الذي كان سيحققه شارون (حصل أولمرت على 29 مقعدا)، إلا أنه حطم الليكود (من 40 الى 12 مقعدا) وأحزاب اليمين عموما. وأقام حكومة ليبرالية، كان المفروض أن تكون حكومة السلام، وفقا لبرنامج أولمرت السياسي. فقد وعد أولمرت برسم حدود اسرائيل الدائمة واقامة السلام خلال دورته. ولكي يثبت جديته في هذا اتفق مع زعيم حزب العمل في حينه، عمير بيرتس، على تضمين الخطوط العريضة للحكومة الجديدة بندا ينص على تخفيض ميزانية الجيش بنسبة الربع بمقدار 1.2 مليار دولار. لقد دخل أولمرت، منذ بداية عمله كرئيس حكومة، الى عدة امتحانات صعبة لم يتصورها. فقد بدأ ذلك بقرار «حماس» خوض الانتخابات التشريعية الفلسطينية. ثم بفوز «حماس» وفيما بعد تشكيلها الحكومة. ثم جاءت العملية العسكرية الفلسطينية بخطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط الى قطاع غزة، وتبعتها عملية مشابهة لخطف الجنديين الإسرائيليين الآخرين الى لبنان.

ازاء كل هذه الأحداث، والضغوط التي رافقتها من اليمين واليمين المتطرف في اسرائيل وقادة الجيش الذين أرادوا حربا لكي يبرروا وقف خطة أولمرت لتخفيض الميزانية العسكرية، وقع أولمرت في كمين السياسة الإسرائيلية التقليدية فأعلن الحرب على لبنان وألحقها بعمليات حربية مكثفة على قطاع غزة، وفشل في تحقيق أهدافه في الحربين ووضع نفسه في مساءلات لجان التحقيق. لقد نجح أولمرت في الصمود أمام الانتقادات لإخفاقاته في الحرب، ولكن خصومه السياسيين من جهة وخصومه العسكريين من جهة ثانية، نجحوا في تكريس الفكرة بأنه قائد مفسود. والصحيح ان هذا الفساد يعتبر في اسرائيل نهجا تقليديا لدى معظم السياسيين. وهو ورجاله مقتنعون بأن السبب الحقيقي للحرب ضده ليس الفساد، بل نهجه السياسي. وانه ينوي بجد، مثل رابين، ان يتوصل الى سلام شامل مع العرب. وقد حرص أولمرت خلال هذه الفترة على الاستمرار في المسيرة السياسية بكل قوة. ولكي يخفف من المعارضة لنهجه، تعهد بالاستقالة في حال انتخاب رئيس مكانه، وواصل استغلال ما تبقى له في الحكم، من أجل التوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين من جهة والتقدم في المفاوضات مع سورية، الجارية في اسطنبول بوساطة تركية من جهة ثانية، ويساعده الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، كثيرا في هذا. وفي حديث لنا مع أولمرت قال انه كان يعتقد بأن أبو مازن ضعيف وغير مناسب مثلما كان يقول عنه شارون، ولكنه عندما تعرف عليه غير رأيه فيه. وقال له في لقاء منفرد: «نحن كلينا مسؤولان عن شعبينا. فتعال نتحدث بصراحة وانفتاح، وبكل ثقة. تعال نتحدث بشكل غير ملزم كيف يرى كل واحد فينا المستقبل. فإذا توصلنا الى تصور مشترك نصنع السلام معا». وقد وافق أبو مازن، وبنيت بين الرجلين جسور الثقة وعندما اعترض رجال حزب «كديما» على عملية السلام رد أولمرت: «لقد اعتدنا على القول إننا لا نتقدم في السلام لأنه لا يوجد بين الفلسطينيين قائد يمكن أن يكون لنا شريكا وكان العالم يصدقنا. فهل يصدقنا أحد اليوم إذا قلنا ان أبو مازن غير مناسب كشريك للسلام». ومن جهته، صرح أبو مازن، بأنه التقى مع الكثير من الإسرائيليين ولكنه لم يتعرف الى من هو أصدق وأصرح من أولمرت. ويصر أولمرت اليوم على أن يتوصل الى أي اتفاق مع أبو مازن، حتى لا يغادر كرسي رئيس الحكومة وهو يحمل فقط ورقة عنوانها «لائحة اتهام»، بل بورقة عنوانها «اتفاق سلام».

وحتى لو كان هذا الموقف مبنيا على رؤية المصلحة الذاتية بشكل أساسي، إلا ان أولمرت أرفقه في الأسبوع الأخير بتصريحات ذات مغزى عميق تدل على انقلاب في مفاهيمه السياسية الأصلية وصحوة ضميرية صريحة ونضوج فكري ملموس. ففي جلسة الحكومة يوم الأحد الماضي قال ان اسرائيل أخطأت طيلة 40 عاما في تعاملها مع الفلسطينيين ومع القضية الفلسطينية «انشغلنا في رؤية أنفسنا صادقين وحكماء. لقد رفضنا رؤية الواقع. رفضنا قراءة الخريطة التي تقول لنا بوضوح ان الزمن لا يعمل في صالحنا. كنا نرى اننا أصحاب حق، ولم نر المحيط الأكبر. وأنا شخصيا كنت من المخطئين. وعندما اقترح ايهود باراك (رئيس الحكومة الأسبق عن حزب العمل ووزير الدفاع اليوم) تقديم التنازلات للفلسطينيين في كامب ديفيد (سنة 2000)، قلت له شخصيا انه يبالغ في التنازلات. أنا أيضا كنت أعتقد بأن الأرض الواقعة ما بين البحر (الأبيض المتوسط) والنهر (نهر الأردن)، هي ملك لنا نحن اليهود وحدنا. كنا نحفر في الأرض ونجد الآثار اليهودية في باطنها في كل مكان ونعتقد بأننا أصحاب الحق التاريخي وحسب. ولكن في نهاية المطاف، وبعد الكثير من العناء والتردد، توصلت الى القناعة بأن علينا ان نتقاسم الأرض مع من فيها. لا نريد دولة واحدة للشعبين».

وفي اليوم التالي قال في اجتماع لجنة الخارجية والأمن البرلمانية: «أنا أقول لكم ان مصلحة اسرائيل الوطنية العليا تقتضي التوصل فورا وبلا أي تأخير الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين ومع سورية؟ ولن أخفي عليكم ولن أشوه أمامكم الحقيقة بأن السلام مع الفلسطينيين سيكون على أساس مبدأ واحد على واحد تقريبا، دونم مقابل دونم (ويقصد الانسحاب الكامل من الضفة الغربية باستثناء الكتل الاستيطانية، شرط أن يتم تعويض الفلسطينيين بدونم من الأرض مقابل كل دونم يتنازلون عنه لاسرائيل)، بشكل أو بآخر». وفي يوم الأربعاء قال في اجتماع شعبي ان اسرائيل انشغلت طيلة 40 سنة في رؤية ضيقة تجاه الفلسطينيين.

فمثل هذه التصريحات تدل على أن أولمرت أحدث انعطافا حادا في المفاهيم الاسرائيلية تجاه المحيط العربي، وحتى لو انها تقال في لحظات وداع، فإنها من دون شك ستتغلغل في نفوس الكثيرين وستصبح موضوع نقاش في المجتمع الاسرائيلي ولن تقتصر على أولمرت وحده.