سورية.. الاستثمار لفك العزلة

مهندس التحول الاقتصادي في سورية يروي لـ «الشرق الأوسط» قصة الاستثمارات من السعودية لتركيا ومن قطر للبنان.. ومن العراق لإيران

سورية تفك العزلة اقتصاديا (أ.ب)
TT

في أوج اشتداد الضغوط الدولية والأميركية على سورية عام 2005 على خلفية نتائج تحقيق اللجنة الدولية في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري، وما رافقها من حملات وضعت سورية في عين العاصفة، أطلق الرئيس السوري جملته شهيرة هي «سورية الله حاميها». فالضغوط على سورية كان من شأنها ان تشدد العزلة عليها، العزلة السياسية والاقتصادية ايضا، إلا ان هذا لم يحدث. والمثال الأبرز على هذا هو حجم الاستثمارات في سورية، الذي يتنوع بين استثمارات قطرية ولبنانية وعراقية وسعودية وتركية وإيرانية، ودولية ايضا، من المانيا وايطاليا، في كل المجالات، وعلى رأسها الاستثمار العقاري والسياحي. إلا ان زيادة الاستثمارات في سورية لا تعني بالضرورة انها تساعد على تحسين وضع المواطن العادي، فهناك خبراء اقتصاديون سوريون يقولون ان البلاد شهدت «فورة عقارية غير مسبوقة»، لكن مع نقص في الإنتاج الزراعي المحلي، وقد أثر ذلك في زيادة الضغوطات التضخمية، ما اضطر الحكومة لاتخاذ قرار رفع الدعم عن المحروقات الذي زاد كلفة المعيشة للمواطن، ويرى الخبراء أنه سيزيد من كلف الإنتاج الصناعي والزراعي والنقل والموصلات ما يقلل من ربحية الإنتاج بل من القدرة التنافسية. وفيما تعد الاستثمارات القطرية والإيرانية والتركية على الوجه او السطح، إلا ان تقرير الاستثمار السنوي الثاني في سورية لعام 2007 الصادر عن هيئة الاستثمار أظهر ان أكبر المستثمرين في سورية هما العراق ولبنان. هي نتيجة مخالفة ربما لما يسود من اعتقاد ان حصة قطر من الاستثمارات العربية في سورية هي الاولي، متقدمة على حصة المملكة العربية السعودية، كانعكاس للوضع السياسي، وبما يؤكد تحسن العلاقات الثنائية السورية ـ القطرية، مقابل توتر العلاقات السورية ـ السعودية. لكن البعض يرد أن حجم الاستثمارات القطرية، وغالبيتها العظمى في الاستثمار العقاري والسياحي، لا يتم إدراجها في تقرير الاستثمار السنوي، وبالتالي لا يعكس التقرير، الذي يركز على الاستثمار الزراعي والصناعي والبنكي، بدقة وضعية أكبر المستثمرين الاجانب في السوق السوري. ويشير تقرير هيئة الاستثمار حول المشاريع الاستثمارية المشملة بين عامي 1991 و 2007، إلى أن قطر تحتل المرتبة الحادية عشرة مع البحرين والمغرب وليبيا، فيما يحتل المرتبة الأولى في الاستثمار داخل سورية: العراق بـ 28 مشروعاً، 14 منها في قطاع الزراعة و12 في الصناعة و2 في مجال النقل، وهناك 13 مشروعاً تم تشميلها في العام 2007. فيما يحتل لبنان المرتبة الثانية من حيث عدد الاستثمارات، فهناك 26 مشروعاً لبنانياً 18 منها صناعي و3 في مجال النقل و5 في الزراعة. وبحسب مصادر مطلعة تحدثت لـ«الشرق الأوسط» فإن أغلب المشاريع اللبنانية بدأت بالتدفق خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. ظاهرياً تبدو هذه المؤشرات غير مفهومة، إذ تأتي على الضد من التطورات الكثيرة التي طرأت على علاقة البلدين سورية ولبنان بعد الانسحاب السوري وتوتر العلاقات جراء اغتيال رفيق الحريري. وهناك من يقول إن تلك المشاريع هي أموال سورية كانت تشغل في لبنان وتمت إعادتها إلى سورية. وكذلك تفسر الأرقام المرتفعة لتدفق الأموال في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد فرض العقوبات الأميركية التي حدت من حركة الأموال السورية المقدرة بعشرات المليارات في الخارج واضطرت للعودة إلى البلاد. ويقول نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري لـ«الشرق الأوسط» إن «معظم الاستثمارات اللبنانية في سورية تركزت على قطاعي التأمين والمصارف، وسبب تدفقها خلال السنوات الثلاث الأخيرة هو الإجراءات التي اتخذت في سورية من جانب تحرير القطاع المصرفي، أما ما يخص المستثمرين العراقيين الذين احتلوا المرتبة الأولى، فهم من العراقيين الذين اضطرتهم الأوضاع الأمنية السيئة في العراق للاتجاه نحو سورية والتأسيس لمشاريع عمل فيها». أما قطر فإن أغلب مشاريعها في سورية تتمحور حول الاستثمار العقاري والسياحي، ولان المشاريع السياحية والعقارية تابعة لوزارتي السياحة والإسكان السوريتين، وبالتالي لا تظهر في تقارير هيئة الاستثمار، لذلك لا يمكن الاعتماد على تقرير هيئة الاستثمار السورية لعام 2007، الذي يقول انه يوجد مشروع قطري واحد مشمل (اي تم الاتفاق عليه وقيد التنفيذ). وفي قطاع الاستثمار العقاري يعد المشروع القطري الأبرز والذي وضع قيد التنفيذ العام الماضي حسب ما أفاد به محمد سيف الدين المدير العام المكلف لهيئة الاستثمار وهو «إنشاء شركة قابضة باسم الشركة السورية ـ القطرية للاستثمار برأسمال مصرح به يبلغ 5 مليارات دولار أميركي وبرأسمال مدفوع قيمته 500 مليون دولار». ومن المرتقب أن تباشر الشركة أعمالها قريباً، وستتركز على «المجال السياحي والبنية التحتية والمصارف والعقارات بالإضافة إلى القطاعين الزراعي والثروة الحيوانية. وقد أقيم مصرف إسلامي وسيتم إنشاء بنك آخر تجاري، بالإضافة إلى مشاريع سياحية كبيرة».

هذا المشروع الذي لاقى تسهيلات خاصة من قبل الحكومة السورية، خلَّف انطباعاً بأن الأولوية في الاستثمار للقطريين، وقد سجلت الاستثمارات القطرية في قطاع السياحة تدفقا لافتاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حيث شكل المؤتمر الأول للتعاون الاستثماري السوري ـ القطري الذي عقد في دمشق عام 2005 نقطة انطلاق العلاقات الاستثمارية بين البلدين. وكان لشركة «الديار» القطرية الحكومية نصيب الأسد فيها حيث أعلنت عن عدد من المشاريع بملايين الدولارات وأغلبها تتركز في قطاع السياحة باستثمارات تتجاوز 224 مليون دولار. الدردري، وهو مهندس التحول الاقتصادي السوري، لا ينفي حصول المستثمرين القطريين على تسهيلات خاصة، حيث تم استصدار قانون خاص لإنشاء الشركة الاستثمارية المشتركة القابضة قطرية ـ سورية، ويقول إن «سورية فتحت الأبواب أمام الجميع، الأخوة القطريون بادروا ونحن رحبنا بهم، وهو أول استثمار حكومي خارجي». ونفى الدردري ما يقال عن تراجع في الاستثمارات السعودية وقال إن «سورية لم تتخذ أي إجراء يمس أي جنسية عربية أو أجنبية من المستثمرين، وما يهمنا هو فتح الباب أمام الجميع». منوهاً إلى أن المشاريع السعودية في سورية مستمرة. وبحسب تقرير هيئة الاستثمار فهناك 22 مشروعاً سعودياً مشملاً في مختلف القطاعات، 15 صناعة، و5 زراعة، واحد نقل، وواحد آخر بمجال آخر، كما أن هناك مشروعاً جرى تشميله العام الماضي. تلت المملكة السعودية دولة الكويت بـ 21 مشروعاً، بعدها مصر والإمارات كل منهما بـ 6 مشاريع. وقال المدير العام المكلف في هيئة الاستثمار السوري محمد سيف الدين إن «الاستثمارات اللبنانية تركزت بالإضافة إلى المصارف والتأمين على الزراعة، وذلك بسبب الوضع الأمني القلق في لبنان». إلا أن السؤال الأهم برأي عبد الله الدردري مهندس التحول الاقتصادي السوري هو «ماذا جرى في 2005، وكيف استطاعت سورية جذب الاستثمارات الخارجية؟» بالرغم من الضغوط السياسية. وهذا ما يوضحه بالقول إنه «الفترة بين 2000 ـ 2005 كانت مرحلة تحضير للانفتاح والإصلاح الاقتصادي، حيث تم اتخاذ إجراءات كثيرة، إلا أنها لم تكن تشكل برنامجا متكاملاً للإصلاح، ولم تظهر تلك الجهود بوضوح على الأرض إلا بعد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي عام 2005، حيث تم إعلان اعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي، وتم توجيه الحكومة لوضع الخطة الخمسية العاشرة بكل مكوناتها الإصلاحية، ما أعطى إشارات ايجابية للمستثمرين، وطمأنهم إلى أن سورية حسمت أمرها ودخلت في مرحلة اقتصادية جديدة تتيح المجال للاستثمار». لا يبدو هذا التفسير كافياً لفهم الأسباب الحقيقية لتدفق الاستثمارات وبالأخص من تركيا التي تحتل المرتبة الأولى في الاستثمار الخارجي في سورية بـ أكثر من 30 مشروعاً تم تشميلها بين 1991 ـ 2007، منها 16 مشروعا في الصناعة و11 في النقل و3 في الزراعة، كما تم تشميل مشروعين عام 2007 في الصناعة. فكيف تمت زيادة الاستثمارات رغم العقوبات والضغوط الإقليمية والدولية الممارسة على سورية خلال الفترة الماضية؟ يقول الدردري «أولاً، العقوبات ليست عقوبات أمم متحدة، وإنما هي عقوبات أميركية، وعلاقة سورية الاقتصادية معها بالأساس محدودة جداً، وبالتالي لم تترك العقوبات أثراً كبيراً. ثانياً، استطاع رجال الأعمال السوريون والحكومة السورية خلق القدرة على المناورة لتأمين ما تحتاجه سورية من التكنولوجيا وجذب الاستثمار. ثالثاً، سورية أقرب منفذ بحري للعراق، وكنقطة عبور بري وحيد بين أوروبا والخليج. هذا الموقع الجغرافي جعل من الطبيعي أن يتوجه أهل المنطقة للاستثمار فيها». وبالرغم من الوضع الأمني في العراق ولبنان وفلسطين وتعثر عملية السلام والتوتر بين إيران والعالم بسبب برنامجها النووي، وهو ما يشكل بيئة نابذة للاستثمار خاصة أنه كما يقال إن رأس المال جبان، الا ان هذه المقولة لم ترق للدردري، الذي يقول «رأس المال ذكي ويجب أن ننظر للأمور من زاوية أخرى، هناك فوائض نفطية عالية جدا في الخليج، وبالمقابل هناك إحجام نسبي عن الاستثمار في الأسواق المالية الأوروبية والأميركية، بعد أحداث 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب العالمي ومن ثم الحرب على أفغانستان والعراق، ما دفع المستثمرين العرب للتفكير بمناطق آمنة ومريحة لهم على الصعيد الشخصي، إذ أن نظرة الغرب وأميركا للعرب تغيرت كثيراً، وسورية ضمن هذه المعطيات مكان ملائم، وحسب التقارير الدولية الأولى في العالم من حيث الأمن والأمان.. ناهيك من ذلك، من يأتي للاستثمار في سورية يخطط لمرحلة ما بعد استقرار العراق، فهي نقطة انطلاق أساسية لإعادة إعمار العراق، وهذا مهم للأوروبيين أكثر من الخليج، من هنا نقول إن رأس المال ذكي، والدول الغربية الآن تبحث جدياً عن نقطة انطلاق لمرحلة إعادة إعمار العراق والتي قد تحتاج إلى عشرين سنة». ويرى الدردري أن العلاقة الخاصة بين سورية والعراق كدول عربية من حيث «سهولة العبور، واستمرار العلاقات رغم الظروف السياسية المتوترة» تجعل الكفة تميل نحو سورية، بالإضافة إلى «العامل الأهم، وهو وجود مرفأ طرطوس كأقرب منفذ بحري للعراق، فالمسافة بين بغداد وطرطوس لا تتجاوز 12 ساعة، وقد تم اعتماد منفذ طرطوس في سياسة النقل البحري ـ البري الأوروبية كنقطة عبور رئيسية بين أوروبا والعراق وإيران». ضمن هذا السياق يلاحظ الإقبال على مشاريع مصانع الاسمنت، ومن اللافت أيضاً التفاوت الكبير بين المشاريع التركية والإيرانية، مع أن إيران تعتبر حليفاً استراتيجياً لسورية، حيث لم يتجاوز عدد المشاريع الإيرانية المشملة 8 مشاريع. وهذا ما بررته مصادر اقتصادية بأن معظم الاستثمارات الإيرانية تتم بالتعاون مع القطاع الحكومي، ومعمل الاسمنت الذي تقوم إيران بإنشائه استهلك وقتاً طويلاً، في حين أن الأتراك يقومون بإنشاء معمل للاسمنت بالتعاون مع القطاع الخاص ويتم إنجاز خطواته بسرعة أكبر، ويعود ذلك إلى طبيعة الاستثمار. وعلى النقيض من تدفق الاستثمارات العربية وبالأخص العراق ولبنان في السنوات الأخيرة، يلاحظ أن الاستثمارات الأجنبية التي تسجل حوالي 88 مشروعا، شهدت جموداً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ولم يسجل عام 2007 سوى مشروعين أحدهما لألمانيا وآخر لإيطاليا، في حين أن هناك عشرة مشاريع منها تسعة في قطاع الصناعة تم تسجيلها لألمانيا بين العامين 1991 و2007 ، بعدها تأتي روسيا بستة مشاريع، ومن ثم سويسرا بأربعة، ومن ثم فرنسا والصين وقبرص وبريطانيا كوريا كل منها بثلاثة مشاريع، تليها إيطاليا والسويد وأميركا كل منها بمشروعين. ويعتبر محمد سيف الدين، المدير العام المكلف لهيئة الاستثمار، أن «العلاقات بين سورية وفرنسا من الطبيعي أن تكون جيدة، والدور الفرنسي أساسي لدى الاتحاد الأوروبي ويعول عليه للتوصل إلى اتفاقية الشراكة مع أوروبا. وخلال زيارة الرئيس ساركوزي، تم توقيع عدد من الاتفاقيات التي ستزيد من حرارة العلاقات بين البلدين، كما يتم التحضير لعقد ملتقى أرباب الأعمال الفرنسيين مع نظرائهم السوريين، للبحث في فرص الاستثمار وطرح هذه الفرص أمام المستثمرين الفرنسيين». لكن السؤال المطروح هو: كيف يتم الحديث عن تدفق الاستثمارات ومعظمها، بحسب تقرير هيئة الاستثمار، مشاريع مشملة أي أنها ما زالت حبرا على ورق، لأن التشميل يعني منح الموافقة على المشروع وفق قانون الاستثمار السوري، وأي مشروع يحتاج وسطياً من ثلاث إلى خمس سنوات لبدء الإنتاج، هذا إذا لم يلغ تشميله، أي أن تلك المعطيات في معظمها مجرد أحلام ووعود، ما عدا المشاريع العقارية والسياحية سواء التي نرى منجزاتها على الأرض، أو في تأثيرها على سوق العقارات، التي شهدت ارتفاعات حادة خلال السنوات الأخيرة، وبشكل أرهق المواطن السوري إن لم نقل قذفه الى خارج هذه السوق؟ يقدم الدردري بعض الأرقام الأخرى للمشاريع المنفذة غير المنشورة، موضحاً معنى التشميل من وجهة النظر الاقتصادية بالقول إن «المشاريع المشملة لا يظهر تأثيرها على النمو الاقتصادي الآن، بل بعد أن تدخل حيز الإنتاج، وهذا يحتاج إلى خمس سنوات وسطياً، الأرقام تشير إلى أن قيمة المشاريع المشملة هي (ألف مليار ليرة سورية) وحسب الخطة الخمسية العاشرة نحتاج إلى (800 مليار ليرة من القطاع الخاص) كي نحقق أهداف الخطة، والتحدي الكبير هو في تحويل الرقم المشمل إلى رقم فعلي، ما يحتاج إلى مزيد من التسهيلات والمزيد من تخفيف الإجراءات البيروقراطية من خلال تشريعات ونظام مصرفي شفاف. من جانب آخر وعندما ننظر للأرقام بشكل نسبي نرى أن المشاريع المشملة في عام 2007، بقيمة 401 مليار ليرة، وبالمقابل قيمة المشاريع الاستثمارية في القطاعين الخاص والعام المنفذة على الأرض بلغت 450 مليار ليرة سورية، علما أن ما نفذ ممكن أنه كان مشملاً في سنوات سابقة، منها حوالي 150 مليار ليرة استثمار حكومي و 300 مليار ليرة أي (ستة مليارات دولار) استثمار خاص منها (2 مليار) استثمار خارجي (عربي وأجنبي) و(4 مليارات دولار) استثمار خاص سوري». لكن هل وضعت الخطة الخمسية في اعتبارها توجيه الاستثمارات وفق ما يخدم عملية التنمية، خاصة أن المواطن السوري يلاحظ أن الاستثمارات العربية الضخمة تتركز على المجالين العقاري والسياحي، في بلد معروف أن اقتصاده زراعي، وتشير التقارير الرسمية إلى أن تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية المنفذة في قطاع السياحة زاد في الآونة الأخيرة ليبلغ حجم الاستثمارات المرخصة العربية والأجنبية لعام 2006 حوالي (69737) مليون ليرة سورية تعود لمستثمرين من الكويت والإمارات وقطر والسعودية والأردن وروسيا وبريطانيا وتركيا، ومن المتوقع تنفيذها عام 2010 بتدفق استثماري سنوي يبلغ (19266) مليون ليرة سورية حتى نهاية تنفيذ هذه المشاريع.

وتأتي الكويت في مقدمة الدول العربية والأجنبية بالنسبة للاستثمار في سورية خلال العامين الماضيين من حيث عدد المشاريع وتكلفتها الاستثمارية، فمثلاً وقعت مجموعة الخرافي عقداً لتنفيذ مشروع (كيوان) أكبر مشروع سياحي في دمشق بكلفة تقدر بحوالي 217 مليون دولار أميركي. وكانت مجموعة «الخرافي» قد قامت بتنفيذ مشروع فندق شيراتون حلب وفندق بلودان الكبير في منتجع بلودان الصيفي القريب من دمشق، تليها مجموعة «الفطيم» الإماراتية، ومن ثم «الديار» القطرية التي تعاقدت على تنفيذ مشروع سياحي في رأس بني هاني على الساحل السوري. عموماً شهد الاستثمار في الأنشطة السياحية تنامياً كبيراً خلال العامين الماضيين سواء في المنشآت الموضوعة في الخدمة أو المشاريع قيد الإنشاء.

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سكر أن البلاد شهدت «فورة عقارية غير مسبوقة مع نقص في الإنتاج الزراعي المحلي، وقد أثر ذلك في زيادة الضغوطات التضخمية، ما اضطر الحكومة لاتخاذ قرار رفع الدعم عن المحروقات الذي تأخر كثيرا (اتخذ القرار في مايو 2008) وأن سورية تدفع الآن ثمن التأخير بالانتقال إلى اقتصاد السوق وعدم الانتقال إليه خلال الحقبة النفطية في التسعينيات». وفي هذا الإطار يسجل الدكتور سكر عدة ملاحظات: «أولا إن رفع أسعار المشتقات النفطية سيزيد من كلفة المعيشة للمواطن وسيزيد من كلف الإنتاج الصناعي والزراعي والنقل والموصلات إلخ، ما يقلل من ربحية الإنتاج بل من القدرة التنافسية، ولكن تزايد عجز الموازنة إلى مستويات عالية سيؤدي إلى المزيد من التضخم ما سيكون له أثر سلبي أكبر وعلى الفقراء بشكل خاص». وذكر نبيل سكر أن قرار البدء برفع الدعم هو جزء من برنامج إصلاحي يتضمن قرارات مؤلمة على المدى القصير وبعضها محفز مثل قرارات تخفيض القيود على نشاط القطاع الخاص وإصلاح التعليم وتوسيع نشاط التدريب والتأهيل وإعادة هيكلية القطاعات الإنتاجية وغيرها التي تأخذ وقتا ليظهر أثرها على المدى المتوسط والبعيد. ولم ينف الدردري احتلال السياحة جزءاً أساسياً في الاستثمار إلى جانب الصناعة، لكن فيما يخص الاستثمار العقاري فلا يرى أنه ينال الحيز الأكبر، علماً أن «سورية بحاجة إلى حوالي 500 ألف وحدة سكنية، وبالتالي إلى استثمار في هذا القطاع»، مرجعاً أسباب الظن أن الاستثمار العقاري يستأثر بالجزء الأكبر من الاستثمار إلى أنه «ظاهر للعيان كونه يعتمد على الدعاية والإعلام للترويج وجذب مشترين. ففي مدينة طرطوس الساحلية فقط هناك تراخيص بناء بـ 30 مليار ليرة سورية وهي بحاجة للدعاية، كما أن تأثير الاستثمار العقاري يظهر فوراً على ارتفاع أسعار العقارات في حين أن الاستثمار الصناعي تظهر نتائجه في توفر البضائع وفي قائمة الصادرات. وحسب الأرقام خلال الفترة بين عامي 2000 و2007 كانت الصادرات عام 2001 بقيمة 243 مليار ليرة، في حين أنها وصلت إلى 580 مليار ليرة عام 2007، بمعدل نمو 13.4%، معظمها من الإنتاج الصناعي والزراعي، ومع أن الاستثمار العقاري محرك مهم للصناعة، لكن يجب أن لا يكون الأساسي، لأن الأهم هو الصناعة والزراعة والسياحة والبنية التحتية والخدمات والمصارف، وهذا ما يتم العمل لتحقيقه». هالة خضر، 50 عاما، وهي مدرسة وأم لأربعة شبان، تعيش في ريف حمص، عبرت عن تلك المخاوف بأن أبناءها الأربعة رفضوا دراسة اختصاص علمي يفيدهم في إدارة المشروع الزراعي الذي أنشأه والدهم وعاشوا منه، بحجة أن المستقبل ليس للزراعة، واثنان منهما توجها للدراسة الفندقية وآخر لإدارة أعمال، بينما يهتم طفلها الصغير بعلوم الكومبيوتر. وتتابع هالة رغم القلق على مستقبل المشروع الزراعي الصغير الذي نعيشه منه، ربما كان الأولاد على حق، فهي تبدو بلا أفق، وتحقيق أرباح منها صعب جداً بعد ارتفاع سعر المازوت، ربما صار من الأفضل العمل في أي مجال آخر أفضل من الزراعة.

لكن هل يعني ذلك أن سورية تتجه نحو التحول إلى بلد خدمي؟ الدردري ينفي ذلك، فثمة صعوبة كبيرة في تحول سورية إلى اقتصاد الخدمات، موضحاً أن «ما يجري الآن هو فورة لتعويض النقص الحاصل في الصناعة والسياحة وليس تراجعا للزراعة، خاصة أن سورية بلد حُرم طويلاً من خدمات المصارف والتأمين والمنشآت السياحية، الآن معدلات النمو مرتفعة في هذه القطاعات، لكن الزراعة لم تتراجع فهي تشكل أكثر من 23% من الناتج المحلي الإجمالي، وتعد هذه النسبة من أعلى المعدلات في العالم». لكن تنويع أشكال الاستثمار ليس بالشيء السهل، فرئيس مجلس إدارة إحدى كبريات الجامعات الخاصة في سورية والتي افتتحت بعد السماح بالاستثمار في قطاع التعليم، شكا من البيروقراطية المعقدة وتدخل وزارة التعليم العالي في كل شاردة وواردة في عملهم، وقال لا يجب معاملة التعليم الخاص معاملة الاستثمار، وإنما معاملة مشاريع التنمية البشرية، فالضرائب المفروضة عليه باهظة. هذا الطرح رد عليه الدردري بأنه «يعكس وجهات نظر لا يمكنه الخوض فيها، فقد تم وضع سياسة استثمارية تتيح للقطاع الخاص الاستثمار في مجال التعليم والصحة، ونجح ذلك، وهناك 20 جامعة خاصة في سورية، 8 قائمة و12 مرخصة، وست جامعات حكومية، أي 26 جامعة سورية، وهذا بحد ذاته نجاح، أما تفاصيل هذا النجاح، كالمعاناة من البيروقراطية أو الشكوى من ارتفاع الضرائب وشكوى المواطنين من ارتفاع الرسوم، فعبارة عن تفاصيل تحتاج إلى معالجة». غير أن المواطنين لم يشعروا بأن تحسن المناخ الاستثماري وتدفق الأموال إلى سورية انعكسا على مستوى معيشتهم، مع أن الأجور ارتفعت في السنوات الأخيرة، إلا أن الأسعار بالمقابل ارتفعت وامتصت تلك الزيادة، وقلت القدرة الشرائية. لكن الدردري يوضح ان الحكومة قالت للمواطنين ان عليهم ان ينتظروا سنوات صعبة قبل قطف الثمار، موضحا: «بالنسبة للمواطن، نحن لم نخدعه، قلنا إنها ستكون سنوات صعبة، فالتحول من نظام اقتصادي موجه إلى نظام مفتوح تترتب عليه تكاليف باهظة، وهناك دول شهدت انهيارات اقتصادية واجتماعية، في حين أن هذا لم يحدث في سورية، ومع ذلك نقول لدينا عشرون سنة قادمة من العمل الشاق، لكن الأصعب فيها يتم تجاوزه».