زيمبابوي.. الفرصة الأخيرة

موغابي تخلى عن قبضته الحديدية.. لكن المخاوف تبقى.. هل ستضمد الجراح أم تفتح جراحات جديدة

لاجئون من زيمبابوي، في إحدى الكنائس بجوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.. فروا من بلادهم بسبب العنف والضائقة الاقتصادية (أ.ب)
TT

قد يكون اتفاق تقاسم السلطة في زيمبابوي، الذي وقع الاثنين الماضي في هراري بين الرئيس روبرت موغابي وزعيمي المعارضة مورجان تسفانجيراي، وارثر موتامبارا، الفرصة الاخيرة لهذا البلد لتحقيق الاستقرار والخروج من نفق التدهور الاقتصادي، الذي لازمه لعقود، وصلت بسببه نسب التضخم الى درجات مريعة تبلغ 11 مليون في المائة. فالاتفاق التأريخي الذي تخلى بموجبه الرئيس موغابي عن بعض صلاحياته الزعامية للمرة الاولى منذ نحو ثلاثة عقود من حكمه البلاد بقبضة حديدية.. أعطى متنفسا لجماعات المعارضة عموما، وزعيم الحركة من أجل التغيير الديمقراطي، مورجان تسفانجيراي، على وجه الخصوص، الذي أصبح أول رئيس حكومة من حزب معارض، يتولى هذا المنصب منذ نحو 24 عاما، هي سنوات حكم موغابي. ويجيء المخاض بعد معارك انتخابية وسياسية قادها تسفانجيراي، وأكملها انصاره بمعارك في الشوارع، تركت منذ مارس (آذار) الماضي، نحو 125 قتيلا وفقد نحو 5 الاف شخص، وشرد نحو 200 الف.. وفر الملايين الى دول الجنوب الأفريقي المجاور. الى حد ان البعض كان يعتقد أن التوصل إلى اتفاق بين الجانبين في مثل هذه الظروف مسألة بعيدة المنال.

وينظر محللون غربيون إلى تخلي موغابي عن بعض سلطاته الرئيسية لتسفانجيراي على أنه تراجع غير مسبوق من جانبه، وهو الذي كان قد سبق واستخف بزعيم الحركة من أجل التغيير الديمقراطي، واصفا إياه بأنه دمية الغرب.

ويكاد يجمع كثيرون على ان هذا الاتفاق، الذي شهده فندق فخم بالعاصمة هراري، وسط زخم أفريقي يتقدمهم رؤساء 10 دول، بينهم ثابو مبيكي رئيس جنوب افريقيا، الذي قاد الوساطة بين الجانبين، يعتبر خطوة ايجابية ومهمة الى الامام.. تفتح الأمل لدى مواطني زيمبابوي في المساعدة على انقاذ تلك الدولة، التي كانت مزدهرة في الماضي، من الانهيار الاقتصادي. الا ان البعض وبينهم مراقبون وسياسيون وخبراء.. انتقدوا وتحفظوا، وتشككوا، في صمود هذا الاتفاق، وأولهم بعض أعضاء حركة التغيير أنفسهم، الذين يرونه بمثابة إنجاز ثانوي لحزبهم، على اعتبار أن تسفانجيراي، الذي حصل على معظم الاصوات في الانتخابات الرئاسية الماضية، ترك لموغابي السلطات المهمة، بما في ذلك السيطرة على الجيش.

كما ان الخلافات العميقة والمتجذرة بين الجانبين.. تجعل امكانية نسيان برك الدماء التي تفجرت، بين يوم وليلة، ضربا من الخيال، كما يقر الفرقاء أنفسهم. ويرى محللون غربيون وافارقة ان الاتفاق الذي وضع نهاية لحقبة سوداء في تاريخ زيمبابوي، سيتطلب ان ينحي الاعداء السابقون خلافاتهم ويعملوا عن كثب للتغلب على الشكوك، ولاسيما من جانب القوى الغربية التي سيكون دعمها المالي مهما للانتعاش.

وفي حديثه بعد توقيع الاتفاق، اطلق موغابي أول رصاصة في اتجاه الخصم.. محذرا الحكومة الجديدة من أنها لن تبقى في السلطة، اذا لم تحافظ على سيادة زيمبابوي، في اشارة الى اتهامه القديم المتجدد بان رئيس حزب الحركة من أجل التغيير الديمقراطي يرهن بلاده للغرب. ورد تسفانجيراي برصاصة اخرى في اتجاه الخصم قائلا، ان الاتفاق «لا يعني نسيان العقود الماضية التي كابدناها في المشقة والكفاح» داعيا إلى الاقرار العلني بالاخطاء الماضية، حتى يتسنى إطلاق عملية تضميد جراح الامة. وقال تسفانجيراي في معرض شرحه لاتخاذه قرارا بالتوقيع على الاتفاق: «العالم يعج بأمثلة عديدة على الاشخاص الذين تحركهم أخطاء الماضي بدلا من السعي إلى نيل أمجاد المستقبل».

وطرح سياسيون أفارقة أسئلة عديدة، بينهم رئيس الاتحاد الافريقي نفسه، جاكاوا كيكويتي (رئيس تنزانيا) بتساؤله: «هل سيصمد الاتفاق أم لا؟.. قبل ان يصف الاتفاق بانه «بداية فجر جديد. ويوم جديد لمجموعة التنمية في افريقيا الجنوبية (قائدة الوساطة)، لعموم القارة وللعالم اجمع».

ويعتقد خالد عبده دهب، مسؤول الاعلام في البرلمان الافريقي، الذي يتخذ من جنوب افريقيا، مقراً له، والذي راقب انتخابات زيمبابوي التي جرت في يونيو (حزيران) الماضي، ان الاتفاق أصبح أمرا حتميا بالنسبة للطرفين.. وبات الحل الوحيد أمامهما لاخراج البلاد من دوامة العنف والازمة الاقتصادية الخانقة، بعد ان فشلا في فرض ايديولوجيتيهما الخاصة. ويقول دهب لـ«الشرق الاوسط» في اتصال هاتفي من جوهانسبرغ، ان تشكيل حكومة وحدة وطنية يعد فرصة اخيرة لوقف التدهور المريع، ويمكن ان تقود الخطوة الى انتخابات حرة نزيهة ترضي الطرفين لاحقا، اذا تعاون الرجلان وتناسيا الخلافات، وتوقفت التدخلات الخارجية، خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين يتهمهما دهب بانهما خلقتا مناخاً من الاستقطاب والعداء الحاد في الوسط السياسي في زيمبابوي، بانحيازهما الصريح الى جانب المعارضة.

لكن دهب يشكك في إمكانية صمود الاتفاق في ظل الاستقطابات الخارجية، والتنافس الحاد داخليا، خاصة بعد ان انقسمت أجهزة الأمن والجيش بين الطرفين. فمسؤولية الجيش، باتت في يد موغابي، فيما بقيت القوى الامنية والشرطة بيد تسفانجيراي. وتخوف من ان يؤدي هذا الانشطار الى تجدد العنف، وأن يدخل الجانبان في صراع مفتوح، خاصة ان قادة الجيش كانوا قد اعلنوا منذ بدء الانتخابات انهم لن يقدموا التحية العسكرية الا الى موغابي، وليس من يأتي بعده. ويقول المسؤول الافريقي، «هنا تكمن المخاوف».

وعلى عكس دهب بدا الخبير الاعلامي والمحلل السياسي المتخصص في الشؤون الافريقية الدكتور ابراهيم دقش متفائلا بالاتفاق بين موغابي وتسفانجيراي، وقال لـ«الشرق الاوسط»، ان «الاتفاق جاء في توقيت بدا فيه ان كلا الطرفين يحتاج الى أية ورقة داخلية او خارجية يستند اليها الى حين». واضاف «كلاهما استنفد كل خياراته.. موغابي بلغ درجاته القصوى في اقصاء الاخرين.. وفي التلاعب بالاوراق الخارجية.. وتسفانجيراي، رغم انه حصل على الاغلبية في البرلمان الا ان قدرته على تحريك الشارع بنفس وتيرته الاولى قلت، بسبب بطش ميليشيات واجهزة موغابي». ويربط دقش، الذي تقلد مناصب قيادية رفيعة في الاتحاد الافريقي، وكان سفيرا للسودان في عدد من البلدان الافريقية، بين اتفاق زيمبابوي والسيناريو المشابه الذي حدث في كينيا بين الرئيس مواي كيباكي ومعارضه، وايلي اودنغا. وقال ان صمود واستمرار اتفاق كينيا، جاء بعد حالة يأس في ان يسجل اي طرف انتصارا حاسما على الاخر، وبعد ان اقتنعا بان البديل هو تجدد اعمال العنف الدامية. واشار الى ان النموذج الكيني هو الذي يجب ان يحتذى في زيمبابوي.

ويمضي دقش قائلا ان «كيباكي في كينيا كان يواجه ضغوطا خارجية وتهديدات فوق الاحتمال، كما انه بدأ يفقد حلفاءه في الداخل، بعد ان طال العنف الذي مارسه، قبائل ينتمي اليها الكثيرون من انصاره من خارج قبيلته كوكيو. وفي المقابل فان اودنغا لم يجد دعما وحماسا دوليين كافيين، خاصة من القوى الخارجية الضالعة في الملف الكيني، ليكون بديلا لكيباكي. فضلا عن انه فقد هو الاخر عناصر قوته بسبب خروجه، المتواصل الى الشارع في الاشهر الاخيرة التي سبقت الاتفاق.

ويرى دقش ان من أوجه التشابه بين الاتفاقيتين، هو ان الاغلبية البرلمانية في كل من زيمبابوي وكينيا كانت للمعارضة، وهذا واقع يصعب تخطيه من قبل رئيسي البلدين، كما ان الوسيطين في الاتفاقيتين كانا جادين بصورة تؤكد انهما لن يسمحا بانهيار ما للاتفاقيتين. في حالة كينيا كان الوسيط، كوفي أنان (الامين العام السابق للامم المتحدة)، يعمل في أعوامه الاخيرة على ألا تكرر المذابح وحملات الابادة الجماعية التي شهدتها رواندا في عهده، في اي مكان اخر، خاصة ان الامم المتحدة كانت متهمة بقوة بانها لم تتدخل بصورة حاسمة لحماية سكان هذا البلد من المذابح. لذلك كان انجاز اتفاق كينيا بالنسبة له اشبه بالقضية الشخصية.

اما الوسطاء في اتفاق موغابي ـ تسفانجيراي وهم مجموعة SADC المكونة من 14 دولة في افريقيا الجنوبية برئاسة دولة جنوب افريقيا، فهم الاكثر تضررا من الصراع في زيمباوي. وقال دقش: «هذه الدول هي التي تستقبل اللاجئين بعشرات الالاف من زيمبابوي، وهي التي توفر بشكل او باخر الكثير من احتياجات البلاد الاساسية، وقد انعكس ذلك على اقتصادياتها المحلية وانشطتها الاجتماعية، لدرجة ان العملة في جنوب افريقيا تكاد تفقد ربع قيمتها بسبب افرازات الصراع في زيمبابوي، وعليه يرى ان الاتفاق بالنسبة لهذه المجموعة اشبه باتفاق المصلحة الخاصة لدولها، لن تفرط فيه ولن تسمح لاي من الطرفين التسبب في انهياره. ويؤكد دقش ان الاتفاق بهذه الظروف والتوقيت والملابسات سيستمر ويكتب له النجاح.

ويقول الخبير في الشأن الافريقي بمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية، عطية العيسوي ان «الحكومة التي سيتم تشكيلها في هراري ستكون أشبه بسفينة يقودها بحاران (موغابي وتسفانجيراي) فاذا اتفقا وتعاونا فستصل الى بر الامان.. اما اذا اختلفا وتفرقا، فان كل الاحتمالات ستظل مفتوحة». ويقول العيسوي، لـ«الشرق الاوسط»، من القاهرة، ان مساعدة الدول الغربية لها اهمية كبرى في تنفيذ الاتفاقية، واتفق مع سلفه خالد دهب من الخشية في احداث استقطاب من المجتمع الدولي، قد يؤدي الى انهيار الاتفاق. كما تخوف من دخول الطرفين في مناكفات سياسية، مما قد يؤدي الى شلل في البلاد. وضرب مثلاً بما يحدث في السودان بين المؤتمر الوطني بزعامة الرئيس عمر البشير والحركة الشعبية بزعامة نائبه الاول سلفا كير والدوامة السياسية التي تبدأ بخلاف وتنتهي بخلاف اخر.

ويقول العيسوي، ان السيناريو المتوقع اذا انسحب زعيم المعارضة تسفانجيراي من الحكم، فإن البديل سيكون جاهزا وهو المنشق عنه وهو وارثر موتامبارا، المتوقع ان ينضم الى موغابي في أي وقت ليشكلا اغلبية في البرلمان. وقال خوف تسفانجيراي من تحالف مثل هذا هو الذي اجبره على التفاوض مع موغابي والتوصل الى هذا الاتفاق. ويقول الدكتور حسن مكي استاذ العلوم السياسية بجامعة افريقيا بالسودان، ان المعارضة كانت تعتقد بانها يمكن ان ترث السلطة من موغابي الذي شاخ، 84 عاما، فيما يشهد الاقتصاد تدهورا مريعا، ولكنها كانت تريد ان يأتي هذا التغيير باسلوب الخطوة ـ خطوة. وقال لـ«الشرق الاوسط» ان «المعارضة تعلم ان الولايات المتحدة وبريطانيا لن تقدما مساعدات لفك الضائقة الاقتصادية، الا بعد تطبيق سيادة حكم القانون والتحول الديمقراطي.. والغاء ثورة الاصلاح الزراعي التي اعلنها موغابي بطرد البيض من اراضيهم وتسليمها للافارقة. وقال ان تجاوز تلك الازمة الى جانب الموقف في الجيش يتطلب حلاً وسطاً باعادة اجزاء من تلك الاراضي الى اصحابها والوصول الى معادلة في التعامل مع الجيش.

وتواجه الحكومة الجديدة مهمة في غاية الصعوبة، وهي إعادة بناء الاقتصاد الذي تراجع بصورة كبيرة منذ إعلان برنامج إصلاح الاراضي في عام 2000، الذي أقصى المزارعين البيض. وتعهد الغرب بتقديم المعونات والاسهام في اخراج البلاد من وهدتها تلك. لكن الدول الغربية تقول انها تنتظر نتائج التنفيذ الفعلي للاتفاق. وأشار خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الاوروبي ومسؤولون اخرون في هذا الخصوص، الى ان الاوروبيين مستعدون لمساعدة البلد الافريقي في اعادة البناء اذا استعادت الحكومة الجديدة الديمقراطية وسيادة القانون. ويرى سمير جاديو من بنك الاستثمار رينيسانس كابيتال، ان «من السابق لاوانه التكهن بالخطوات السياسية الاولى للحكومة الجديدة، لكننا نعتقد ان التصدي للضغوط التضخمية من خلال خفض المعروض النقدي ينبغي ان يكون من بين الاولويات». ويعتمد نحو 4 ملايين شخص أي ثلث سكان زيمبابوي على المساعدات الغذائية في ظل هزالة مواسم الحصاد، وتفاقم الأزمة الاقتصادية بالبلد. كما أن نصف السكان تقريبا يشكون من سوء التغذية، علما بأن 80% من سكان البلد البالغ عددهم 12.3 مليون يعانون من البطالة، ويعتمد العديد منهم على المساعدات الغذائية. ويقول دومينيك ستروس مدير صندوق النقد الدولي، ان منظمته على استعداد للبدء بمحادثات فورية مع قادة هذ البلد، مشيرا الى ان «اتفاق تقاسم السلطة في زيمبابوي سيفتح الباب امام حكومة جديدة ستتمكن من بدء حلحلة الازمة الاقتصادية». واضاف «اننا على استعداد للبحث مع السلطات الجديدة في موضوع سياستها الرامية الى استقرار الاقتصاد وتحسين الوضع الاجتماعي وتقليص الفقر». ويقول تشارلز أباني المدير الاقليمي لأوكسفام في منطقة الجنوب الافريقي «ينبغي على المجتمع الدولي ألا يكتفي بتقديم المال لحل المشاكل الانية، ثم ينسحب معتبرا المهمة قد انجزت». وطالب القيادة الجديدة في هراري في المقابل بالعمل على كسب ثقة المواطنين وتقديم صيغة لخفض الاسعار وتخفيف حدة نقص الغذاء والوقود والعملة الاجنبية. ويبقى أخيرا ان البلاد مقبلة على تغيرات جوهرية، يمكن ان تقود الى فتح ابواب الامل المشروعة في الرخاء.. كما انها لا توصد الابواب الاخرى التي قد تأتي برياح لا تشتهيها سفن زيمبابوي.