جنوبستان.. وفقرستان

الخلافات على نفط العراق تضع جميع الأطياف السياسية العراقية أمام «اختبار ثقة»

النفط العراقي اختبار للتعايش بين العراقيين («الشرق الأوسط»)
TT

هناك نكتة يرويها العراقيون وهي أن العراق قد يجري تقسيمه الى إقليمين آخرين، عدا اقليم كردستان، الاول «جنوبستان»، ويضم المحافظات الجنوبية التي تقطنها الاغلبية الشيعية وتتمتع هذه الاقاليم بثروة نفطية كبيرة، فيما يضم الثاني مناطق وسط العراق حيث تعيش أغلبية سنية، وسيطلق عليه اسم «فقرستان» وذلك لخلوه من آبار النفط.

ومنذ سقوط النظام العراقي السابق في مارس (آذار) 2003، شهدت استراتيجية الصراع على النفط بعدا آخر. ففي العقود الماضية شهد العراق ثلاث حروب طاحنة كان النفط أحد اسبابها الرئيسية. ففي الحرب العراقية الايرانية شهدت الحدود بين البلدين معارك طاحنة على اراض من المعروف انها زاخرة بآبار النفط، وكان النفط أيضا سببا رئيسيا لحرب الخليج الثانية عندما غزا العراق الكويت بتهمة سرقة النفط من آبار حدودية مشتركة بين البلدين، فيما الحديث مستمر عن «طمع» أميركي بنفط العراق وانه أحد اسباب الاطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. إذ يقول الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي آلان غرينسبان في مذكراته التي نشرت مطلع هذا العام «يحزنني انه من غير اللائق سياسيا الإقرار بما يعرفه الجميع، وهو أن النفط من الأسباب الأساسية للحرب في العراق»، غير انه اضاف بان «الأحزاب السياسية والتيارات المحلية أكثر عطشا له». ففي المرة الاولى من تاريخ الصراع على النفط العراقي، يتصارع ابناء وادي الرافدين هذه المرة فيما بينهم على الذهب الاسود.

فليس خافيا على أحد أن صراعات الكتل السياسية العراقية، التي هي في الغالب تمثل طوائف وقوميات عراقية متعددة، هي السبب في تأخير تمرير قانون النفط والغاز الذي من المفترض ان يدير الثروة النفطية في البلاد. فكل كتلة سياسية، سواء الائتلاف العراقي الموحد التي تتألف من نخبة من الاحزاب الشيعية، أو التحالف الكردستاني الذي يمثل إقليم كردستان العراق، وجبهة التوافق العراقية التي تمثل السنة، تريد ان تضمن لمن تمثلهم في البرلمان حقهم في الثروة التي يعيش العراق عليها وتمثل المورد الاول من دخله القومي.

وتأتي أهمية النفط العراقي من ان احتياطيه يبلغ حوالي 112 مليار برميل، ما يجعله ثاني أكبر مخزون نفطي معروف في العالم، فيما يبلغ معدل انتاج العراق من النفط نحو مليون ونصف المليون برميل في اليوم الواحد. وتقول مصادر ان الاحتياطيات الثابتة والمحتملة للنفط العراقي تقدر بحوالي 150 مليار دولار، ويجعل تحسن نسب استخراج النفط في المكامن المكتشفة حاليا مع التقدم التكنولوجي كميات النفط التي يمكن استخراجها في المستقبل تقدر بأكثر من 360 مليار برميل، وهذا يكفي للاستمرار بمعدل الإنتاج بالطاقة المتاحة حاليا لمدة ثلاثة قرون ونصف القرن.

ويدل الصراع بين تلك الاطراف على عدم ثقة جهة بأخرى وخشيتها من ان يحصل طرف على عوائد أكثر من غيره. والقانون ما زال معطلا بسبب خلافات بين الحكومة المركزية ببغداد، وحكومة اقليم كردستان، إثر إبرام الثانية عقودا نفطية مع شركات اجنبية لاستثمار النفط في الاقليم، وتم ابرام العقود بمعزل عن حكومة بغداد.

ويقول المتحدث باسم جبهة التوافق العراقية، سليم عبد الله، ان واحدا من اسباب رفض كتلته للتصويت على القانون اعتراضها على صلاحيات المجلس الاتحادي النفطي الذي من المفترض ان يكون مسؤولا عن ادارة النفط بالبلاد. وبحسب عبد الله فان من ضمن صلاحيات المجلس، حسب مسودة القانون، انه «يجعل العقد الذي يبرم بين (اقليم أو محافظة) والشركات النفطية، صحيحا ما لم يعترض عليه المجلس».

ويضيف عبد الله ان كتلته ترغب في ان ينص القانون على ان «لا يكون العقد المبرم صحيحا ما لم يقره المجلس الاتحادي النفطي». وبرز الصراع جليا عندما كان الحديث حاميا حول تشكيل الاقاليم في العراق في الفترة التي اعقبت مارس (آذار) 2003، وبدا انذاك كل من الاكراد والشيعة الطرفين الاكثر تحمسا لتشكيلها، فيما رفضت الاطراف السنية الفكرة وبشدة.

القادة السنة يؤكدون ان اسباب رفضهم للفدرالية تعود الى خشيتهم من تقسيم العراق، وبهذا الصدد يقول عبد الله لـ«الشرق الاوسط» ان وسط العراق غني بموارد اخرى مهمة «كالمياه التي من الممكن ان يتحكموا بها والغاز والفوسفات في محافظة الانبار».

لكن لو نظرنا الى خارطة توزيع النفط في العراق نجده متمركزا بشكل رئيسي في شمال العراق، وتحديد في مدينة كركوك، التي تضم حقل بابا كركر وهو واحد من اكبر حقول النفط في العالم، كما يتركز في مدينة البصرة جنوب العراق، فيما تتمتع مناطق وسط العراق بثروات متفرقة اخرى ليس منها النفط.

ومن جانبهم يأمل الاكراد في ضم مدينة كركوك التي يتنازع عليها العرب والتركمان ايضا، الى اقليم كردستان، ورغم اصرارهم على «حقهم التاريخي في المدينة باعتبارها جزءا من اقليم كردستان»، الا ان لا أحد ينكر ان ضمها للاقليم سيعني ضمانة حقيقة للاقليم بالاعتماد على موارده الخاصة بعيدا عن الحكومة الاتحادية. ويصف الباحث فاضل الربيعي، في المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية في عمان، مدينة كركوك بالنسبة للاكراد بانها «محطة وقود». ويوضح لـ«الشرق الاوسط» ان الصراع في كركوك «اتخذ خلال السنوات الخمس الماضية اشكالا متنوعة منها مذهبية وعرقية.. بيد ان هذا الصراع يتخذ اليوم طابعا خاصا يصبح فيه مصير المدينة مرتبطا بمصير النفط». واشار الباحث العراقي، المقيم في سورية، الى ان الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الاقليم مسعود بارزاني، «تصارعا في تسعينيات القرن الماضي على معبر إبراهيم الخليل (الحدودي مع تركيا في شمال العراق) وأدت الصدامات بينهما الى سقوط 10 آلاف مقاتل من البيشمركة، بينما كان هذا المعبر لا يقدم الا مبلغا زهيدا بالقياس الى ثروة نفط كركوك، فهو يقدم حوالي مليون دينار يوميا، فماذا لو أصبحت كركوك كردية؟».

أما الصراع في جنوب البلاد فيختلف، إذ ان معظم القوى الشيعية المتنفذة تسعى جاهدة لتشكيل إقليم الجنوب، وعزته الى ما اسمته بـ«تعويض سكان محافظات الجنوب عن سنوات القحط والمعاناة والفقر التي عاشوها في ظل النظام السابق».

غير أن الصورة ليست براقة كما تبدو، فمدينة البصرة التي يعول عليها الاقليم في الحصول على موارده تشهد صراعا بين الاحزاب الشيعية المتنفذة في المدينة والميليشيات على تهريب النفط والسيطرة على الموانئ في المدينة التي تعتبر المنفذ الرئيس لتصديره.

ويقول نائب رئيس مجلس محافظة البصرة نصيف العبادي لـ«الشرق الاوسط» ان عمليات تهريب النفط إلى الخارج مستمرة، وان قلَّت إلى حد كبير عن طريق البحر بعد إحكام السيطرة الامنية على الممرات الملاحية خلال عملية «صولة الفرسان» الامنية التي نفذتها الحكومة في مارس (آذار) الماضي، الا انه أشار الى ان عمليات التهريب نشطت عن طريق النقل بالصهاريج. وأضاف العبادي ان «تهريب النفط إما ان يكون على شكل منتجات نفطية يتم استلامها من مصفى البصرة على انها من حصص محطات تعبئة الوقود بأوراق مزورة أو نفط خام عن طريق إحداث ثقوب في أنابيب النفط الناقلة له».

وكشف عاصم جهاد، المتحدث باسم وزارة النفط العراقية، ان «أحد اكبر الأنابيب الناقلة للنفط في جنوب البلاد تعرض إلى أكثر من 52 عملية تخريبية ما أدى إلى توقف ضخ النفط الخام ومشتقاته بين محافظات الجنوب والوسط عدة مرات»، مضيفا ان «الهدف من هذه العمليات هو سرقة النفط».

ويصف باسم الحسني، النائب عن حزب الفضيلة في البرلمان، الجهات التي تقف وراء عمليات التهريب بانها «مجموعات متخصصة وأيضا عصابات مسلحة تعمل وفق أجندات إقليمية ودولية حيث تساعد تلك الدول هذه المجموعات، وهناك مجاميع مرتبطة ببعض التكتلات والأحزاب السياسية في الداخل وهذه أيضا تعمل وفق أجندة خاصة».

الى ذلك، اشارت تقارير دولية الى ان ثروة العراق النفطية تعاني من «الهدر»، فبالاضافة الى التهريب تضيع تلك الثروة ما بين الاستغلال «غير المشروع» للآبار الحدودية في الجنوب من قبل شركات دول مجاورة، في اشارة الى الكويت وايران، رغم نفي الدولتين المستمر لتلك الاتهامات، وبين استثمار حكومي «يفتقر الى وجود نظام شامل على الإيرادات النفطية». وتعزو وزارة النفط العراقية سوء ادارة النفط الى الفوضى في البلاد والاوضاع الامنية المتردية وعقود اقليم كردستان النفطية مع الشركات الاجنبية من غير التنسيق مع الوزارة والى عدم إقرار قانون النفط.

ويرى المتحدث باسم الوزارة ان تأخير اقرار قانون النفط يؤثر في الصناعة النفطية، وان حل مشكلة النفط بالعراق يأتي عبر اقرار القانون من قبل البرلمان للمباشرة بالعمل وفقه، ودعا عاصم جهاد الاطراف السياسية كافة في العراق الى «البحث عن المصلحة الوطنية العليا وتغليبها على كل المصالح الاخرى»، وحث تلك القوى على اقرار قانون يدر الفائدة على الجميع، قائلا «الافضل ان نضع قانونا رصينا خاليا من استفادة جهة على حساب جهة أخرى، أما ان يكون لنا قانون ترقيعي يجامل الاخرين.. فهذا غير مقبول». ويدل الصراع بين تلك الاطراف على عدم ثقة جهة بأخرى وخشيتها من ان يحصل طرف على عوائد أكثر من غيره. والقانون ما زال معطلا بسبب خلافات بين الحكومة المركزية ببغداد وحكومة اقليم كردستان إثر إبرام إقليم كردستان عقودا نفطية مع شركات اجنبية لاستثمار النفط في الاقليم، وتم ابرام العقود بمعزل عن حكومة بغداد. ويبدو واضحا امام جميع التيارات السياسية في العراق، وامام العراقيين أنفسهم، أن قضية النفط قضية «اختبار ثقة» بين جميع اطياف الدولة العراقية.

* شارك في إعداد التقرير جاسم داخل من البصرة