التائب

TT

«الحكيم» سمير جعجع رمى اعتذاره على الطاولة ولسان حاله يقول:«أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على كتفيّ؟» تقدم رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع صباح الاحد الماضي في لقاء جماهيري نقلته وسائل الاعلام مباشرة، بـ«اعتذار عميق، صادق وكامل، عن كل جرح، او أذية، او خسارة، او ضرر غير مبرر، تسببنا به، خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية، طوال مرحلة الحرب الماضية». جعجع سجل باعتذاره العلني هذا سابقة غير مألوفة في منتدى السياسيين اللبنانيين. وبمعزل عن الاجتهادات التفسيرية التي رافقت طلبه السماح من الله والبشر عن جرائم رافقت مسيرته، شكل سلوكه كرة ثلج لا تزال تستدعي ردود فعل متناقضة بين الحلفاء والخصوم. «الحكيم» (كما هو لقب جعجع) فعلها. رمى اعتذاره على الطاولة. رماه في وجه خصومه السياسيين، وهم كثر. وهم ليسوا بالضرورة الخصوم الذين واجههم وقاتلهم خلال الحرب الاهلية. بعض هؤلاء صار حليفا ورفيق نضال في قوى «14 آذار».

خصوصية الاعتذار، عدا كونه فعلا سياسيا فريدا، هو في صدوره عن صاحبه. فالرجل هو في نظر فئة من اللبنانيين مجرم حرب لا مثيل له ولا مجال للعفو عنه. وكأنه وحده المسؤول عن ويلات الاحداث اللبنانية وحيال جميع الطوائف المتناحرة ماضيا وحاضرا. وهو في نظر فئة أخرى ضحية وقديس، دفع ثمن الحرب وثمن السلم. ورث عداوات خطه الحزبي وارتكاباته. ونسجت الظروف التي واجهها مزيدا من العداوات حوله، فظُلم ولا يزال يُظلم ويتعالى عن الظلم برفعة نفس وكبرياء. وهو في نظر فئة ثالثة قائد ميليشيا في زمن الحرب، لا يختلف عن القادة الاخرين الذي أصبحوا اصحاب نفوذ وتسلموا مقاليد البلد في زمن السلم. يستحق فرصة كالتي حصلوا عليها. إلا ان الفرق بين جعجع و«زملائه» من «أمراء الحرب» انه دفع ثمنا لم يدفعوه. سجن 11 عاما ونيف وكفّر بذلك عن بعض ذنوبه. واليوم كان سباقا الى تقديم اعتذار لم يقبله الذين ينبشون الماضي ليواصلوا رجمه. على العكس، فقد اعتبروا هذا الاعتذار بمثابة إخبار او اعتراف بإدانة الذات وفرصة ذهبية لتحميله جرائم الحرب اللبنانية كلها حتى صح فيه قول الشاعر: «أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على كتفيّ».

لكن «العاشق الوحيد» في بلد التنابذ والكره المتبادل والتهم الجاهزة وانهيار منظومة القيم في الخطاب السياسي، تحفل سيرته بما يبرر ردة فعل كل فئة حيال خطوته هذه.

تبدأ هذه السيرة في عين الرمانة، احدى مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت. منها اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975 مع حادثة البوسطة الشهيرة. هناك ولد سمير في خريف العام 1952 لعائلة مارونية أصلها من بشري في اعلى قمم شمال لبنان. كان منزله متواضعا ومؤلفا من غرفة ومطبخ ومنتفعاتهما. (المفارقة ان جعجع كان جار منافسه على الساحة المسيحية العماد ميشال عون المولود في حارة حريك القريبة). الوضع المادي للعائلة كان ضيقاً. الوالد فريد معاون اول في الفرقة الموسيقية في الجيش، والوالدة ماري ربة منزل تهتم باولادها الثلاثة: سمير، جوزف ونهاد. في طفولته كان سمير يضجر في المدرسة، يحب التحدي والنقاش. خارج المدرسة كان «عفريتا». وكان مولعا بتنظيم الحفلات في قريته. الفقراء كانوا دائما محط اهتمامه، (شبهه الوزير السابق كريم بقرادوني بروبن هود). لذا حلم بان يصبح طبيباً ليعالج أبناء بلدته والفقراء من دون مقابل.

انتسب عام 1969 الى حزب «الكتائب اللبنانية». وحاز عام 1971 منحة دراسية في الجامعة الاميركية في بيروت لدراسة الطب، لكنه توقف عن دراسته ولم يستكمل منها سوى أربع سنوات ليشارك في الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.

شهد صيف العام 1976 أولى محطات الشاب العسكرية وكانت معركة شكا في شمال لبنان. بعد ذلك، برز سمير جعجع بين أنصار «الكتائب» في الشمال، وبدأ تأسيس ثكن عسكرية في المنطقة. لقب آنذاك بـ«الشيف سمير». في 9 فبراير (شباط) 1978، واثر تطور الصراع بين «تيار المردة» الموالي للرئيس الراحل سليمان فرنجية والكتائبيين ومقتل مسؤول الكتائب في زغرتا (شمال لبنان) جود البايع، قرر الرئيس الراحل بشير الجميل مهاجمة إهدن المعقل الرئيسي لآل فرنجية. واعطى الاوامر لجعجع والوزير الراحل ايلي حبيقة بالهجوم على البلدة. الهجوم أدى إلى مقتل الوزير طوني فرنجية نجل الرئيس الأسبق، وزوجته وأحد أبنائه، بينما نجا نجل طوني الوزير سليمان فرنجية. في العام 1979 شارك جعجع في معركة خاسرة ضد القوات السورية. في العام 1983 خاض حرب الجبل وفيها تعرض وأنصاره لهزيمة ساحقة وانسحب الى بلدة دير القمر في الشوف، حيث حوصر وتوالت هزائمه في نيسان (ابريل) 1985 في شرق صيدا، ثم في إقليم الخروب.

إلا ان هذه الهزائم المقرونة بفظائع الحرب الاهلية لم تقض على الرجل. ويمكن القول ان تاريخ جعجع الفعلي بدأ بعد مقتل بشير الجميل عام 1982. فقد رافق في تلك المرحلة «القوات اللبنانية» التي عانت مخاضا معقدا انتهى بتوليه زمام امورها في يناير (كانون الثاني) 1986، وذلك بعد انتفاضة «القوات» على حبيقة اثر توقيع الاخير على الاتفاق الثلاثي مع نبيه بري رئيس «حركة أمل» آنذاك ووليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي برعاية سورية. قاد «الحكيم» انتفاضته بالتحالف مع رئيس الجمهورية آنذاك امين الجميل وقائد الجيش العماد ميشال عون. وتمكنوا من إسقاط حبيقة بعد معركة أودت بمئات القتلى من المسيحيين.

تحالفات جعجع لم تكن لتعمر. فقد حفلت فترة ولاية الجميل بصراع مكشوف بين الرجلين ولم تنته مع تسليم الجميل الدولة الى قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون الذي شكل عام 1988 حكومة انتقالية بعد فشل البرلمان في انتخاب رئيس للجمهورية. وسرعان ما استدرج جعجع الى «حرب الإلغاء» الشرسة بمواجهة الجيش اللبناني بقيادة عون الذي كان يسعى للسيطرة على الساحة المسيحية. هذه الحرب أدّت الى نتائج كارثية على المسيحيين. بعد اتفاق الطائف تحولت «القوات اللبنانية» حزباً سياسياً كما بقية الميليشيات المتصارعة. وعين جعجع في 24 ديسمبر (كانون الاول) 1990 وزيرًا في حكومة الرئيس عمر كرامي، التي أقرت حل الميليشيات وجمع الاسلحة فامتثل لقرارها وفي 21 آذار (مارس) 1991 استقال منها، فعين بدلاً عنه ممثله روجيه ديب. كذلك استقال جعجع في 16 آيار (مايو) 1992 من حكومة الرئيس رشيد الصلح. ولم يتردد في صيف العام نفسه من مقاطعة أول انتخابات نيابية عامة في لبنان منذ عشرين عامًا.

لكن ما ارتضاه جعجع لم يحمه. ففي عام 1994 سجن بسبب اتهامه بتفجير كنيسة سيدة النجاة في كسروان. فنبشت ملفاته دون سواه من امراء الحرب وحوكم بتهمة اغتيال رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي ورئيس حزب «الوطنيين الأحرار» داني شمعون. كما اتهم باغتيال النائب طوني فرنجية وعائلته في إهدن. حكمت المحكمة عليه بالإعدام وتم تخفيف الحكم بقرار من رئيس الجمهورية آنذاك الراحل إلياس الهراوي إلى السجن مدى الحياة. وكذلك صدر حكم بحل «القوات اللبنانية». وأطلق سراح جعجع بموجب عفو نيابي خاص صدر عن المجلس الجديد الذي انبثق بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 فعاد إلى نشاطه السياسي. هذا في الشكل العام، لكن في التفاصيل تحفل سيرة سمير جعجع بمحطات مثيرة للانتباه بمعزل عن حلوها ومرها. فجعجع حسب عارفيه صاحب شخصية مركبة غامضة. يقول عن نفسه انه مسكون بهاجس التاريخ. ويقول عنه رفاقه انه كان صاحب شخصية خجولة نوعا ما، يكره الفوضى والفكر المشتت والأساطير السياسية في المجتمع المسيحي.

في احد تصريحاته يعتبر انه غير موهوب في ميدان السفاهة والتراشق بالتهم. يقول: «هناك عدد من السياسيين اللبنانيين لديهم خزنة من المفردات. ولا أَعرف من أين يستنبطون كل ذلك. العماد ميشال عون، مثلا، يذكرنِي بيساريّي الستينات، يوم كانوا يفلتون على شخص ما: إمبريالي، إستعماري، صهيوني، رجعي. ربما كنت أكبر تقدمي، لكن إذا لم تتوافق مواقفك معهم، أفلتوا في وجهك هذه الغابة من الكلمات الجوفاء». ما يقوله عن نفسه لا يتطابق مع ما يقال عنه. وتحديدا بعد المواجهة مع عون، فقد ظهرت صورة «القوات اللبنانية» باهتة وغير محبوبة لدى عدد كبير من سكان المناطق التي تسيطر عليها. يعزو كريم بقرادوني في كتاباته هذا «الكره المكثف» الى ثلاثة اسباب هي: «الصورة الموجودة لجعجع لدى الرأي العام كمسؤول عن التهجير في الشمال والجبل، في حين انه لم يكن وحده مسؤولاً عن الاثنين. فرض القوات رسوما وضرائب وهي امور غير شعبية بالرغم من استفادة الناس منها. والسبب الثالث يتمثل في تعب الناس من الميليشيات، مع ان سمير جعجع لم يتسلّم القوات إلا عام 1986 وكان عمرها 10 سنين. وتمكن عون من التقاط هذا الامر وظهر في مظهر رجل الدولة الذي يريد الغاء الميليشيات، فكان هذا الانجراف الشعبي وراءه».

ربما حُمّل جعجع هذه التبعات لأن المراقبين يربطون تاريخ «القوات اللبنانية» بكل من بشير الجميل المؤسس، وسمير جعجع الباني الذي حوّل الحزب مؤسسة حقيقية. وقد لعب بقرادوني دوراً مهماً الى جانب القائدين في مرحلة من المراحل. وكانت العلاقة بين الشابين يسودها التوتر الناجم عن بريق كل منهما وقد راوحت بين الإعجاب والتنافس. ويضيف بقرادوني «ان سمير جعجع يملك قدرة استثنائية على التأقلم مع أصعب الظروف حتى مع عزلة السجن ووحشته. وهو انتصر على سجنه إذ استوعبه وصار السجن جزءا من شخصيته ومن مسيرته الشخصية والقيادية. فهو باطني الى أقصى الحدود لا تعرف يمينه بأفعال شماله، لا يكشف سره ولا لعبته، لذلك كان الجميع يخافونه. لا يحبّ أن يجادل في قرار اتخذه إذ يكون قد اشبعه درسا. وعند دخوله السجن كان الناس يخافونه أكثر مما يحبونه. بعد سجنه صاروا يحبونه أكثر مما يخافونه».

على رغم الاتهامات المتواصلة له بأنه «حالة اسرائيلية» يؤكد من رافق جعجع خلال الثمانينات، انه فكّك العلاقات التي كانت قائمة قبلاً بين «القوات» وإسرائيل، لأنها إرث من القوى المسيحية يجب التخلص منه وعبء على الحركة السياسية لـ«القوات اللبنانية»، لذا لم يطورها. عام 1989 عرض عليه الاسرائيليون ان ينتقل الى الجنوب اللبناني المحتل الذي كان يعرف بالشريط الحدودي ليوفروا له الحماية بعد التوافق الدولي على اطلاق يد النظام السوري في لبنان. لكنه رفض وقال لهم: «لست مستعدا لأحمي حدودكم. ولن أكون سعد حداد آخر. انا سمير جعجع». لم يحبه الاسرائيليون يوما ولا هو أحبهم. تلقى نصائح عديدة بالابتعاد عن لبنان بعد الطائف، لكنه رفض وفضل مواجهة ما ينتظره.

جعجع خارج السياسة يتذوق الموسيقى الكلاسيكية والأغنيات اللبنانية البلدية. وفترة السجن شكلت فرصة ليغرق في القراءة. وهو يهوى الأدب والتاريخ والفكر السياسي والفلسفة واللاهوت. وفي السجن تعرف الى أدب التصوف. ارتباطه بزوجته ستريدا أعطاه هالة رومانسية، كسرت من حدة المقاتل الذي كان. تعرف اليها عام 1987 عند عمها النائب جبران طوق. وتزوجا عام 1991 على وقع كلمات جبران خليل جبران «ولدتما معاً وتظلان معاً». بعد دخول جعجع السجن تواصلت الهالة الرومانسية، فقد انشغلت ستريدا عن نفسها بمسؤوليات ألقيت على عاتقها فجأة. لم تكن أمامها خيارات كثيرة، فكان عليها المواجهة أو الرحيل، فاختارت المواجهة. وقررت الصمود إلى جانبه. فهو حبها ومثالها الأعلى. طوال فترة سجنه كان يذكر العالم الخارجي به من خلال بطاقات معايدة دأبت ستريدا على ارسالها مطلع كل عام مرفقة بعبارات تناسب ظروفه. بعد 11 عاما و3 أشهر في السجن انهى جعجع مرحلة جديدة من مراحل حياته التي اتسمت كلها بالمواجهات الحادة. عندما سألته بعد استعادته حريته عن حقده على الذين سجنوه، قال انه حقد كثيرا في العامين الاولين من السجن. وكان يفكر في وسائل الانتقام. يبتكر وسيلة تلو أخرى. لكنه بعد ذلك وصل الى قناعة بأن من اساء اليه لم يعد يؤثر عليه. شعر بأن هذه القناعة كفيلة بحمايته من أي سوء ناله او سيناله من اي طرف كان.

بعد خروجه قال: «سمير جعجع الذي كان في الحرب الاهلية مات في السجن. لا علاقة لي بجعجع القديم وبمرحلة الحرب الاهلية. من يستطيع الوصول الى تحقيق اهدافه بالسياسة لا لزوم لديه للذهاب الى الحرب». لكن جعجع عاد الى دوامة الحرب بأسلحة مختلفة. هو حاليا لا يملك الا كلمته بمواجهة تهم القتل والعمالة التي تصوب نحوه. واعتذاره الذي لا يزال معلقا على حبال الصراع السياسي الدائر في لبنان، يقرأ في الاتجاهين.

يقول النائب الياس عطا الله : «الحرب الاهلية اللبنانية دخل فيها أكثر من مكون داخلي وخارجي، وأبادت عشرات الآلاف من الضحايا ودمرت الدولة ونشرت ثقافة العنف. انه امر بمنتهى التعسف ان يتهم بها فقط شخص معين او حتى تنظيم معين. بما ان الموضوع عن القوات وسمير جعجع، اعتقد ان الكثير من الاطراف اللبنانية مارس انواع العنف بحق بعضه البعض بشكل متشابه. نحن تلقينا القتل والاغتيالات والتصفيات الجسدية والسياسية. اغتيل جورج حاوي وقبله مهدي عامل وسهيل طويلة وحسين مروة وكثيرون. معروف من ارتكب بحقنا هذه الجرائم. وهو لم يعتذر منا. ليس هناك اي صيغة مغايرة عن الذين قُتلوا على يد القوات اللبنانية او غيرها». ويرى عطا الله ان تركيز الحملة على شخص واحد هو تركيز ظالم «فإما ان نفتح سجل الحرب ونحاسب الجميع بشكل شامل، ويبدو انه امر مستحيل، واما ان نتجاوز الماضي ولكن ليس على زغل بل من خلال الاعتراف والاعتذار». ويعتبر «ان سجن سمير جعجع كان انتقاما سياسيا، لأن المحاكمة نفسها يمكن ان تجرى بحق أكثر من زعيم في لبنان ولم تجر لأن رياح السياسة يومها كانت تتقصد شخصا معينا. واهم امر هو ان جعجع اعترف بأخطائه. وهذا لا يضيره بشيء. الكارثة عند الذين يقدسون انفسهم ويعتبرون انفسهم اعلى من ارتكاب الخطأ».