القاهرة.. قبل العيد

ما بين مصاريف الصيف ورمضان والمدارس والعيد.. عبد الله يؤكد: علاقتي بالياميش مثل علاقة جدتي بالنانو تكنولوجي

مصاريف المدارس ورمضان ترهق المصريين قبل العيد («الشرق الأوسط»)
TT

حينما قرر هشام الصاوي اقتحام عالم الياميش هذا العام فجأة، لم يكن يدري أن المسيرة ستنتهي سريعا بخسارة سريعة حتى قبل أن ينتهي شهر رمضان. الصاوي تاجر الألبان قرر مع دخول الصيف واقتراب شهر رمضان ركوب المغامرة والولوج إلى عالم الياميش طمعا في مكسب سريع لطالما حلم به، خاصة أن البضاعة حاضرة وممتازة، ورمضان آت لا ريب، والناس تحب الياميش فيه، إذن فما المشكلة؟

لكن على ما يبدو أن رياح الياميش أتت بما لا يشتهي الصاوي هذا العام. أشعل «تاجر الياميش الجديد» سيجارة واعتدل في جلسته على المقعد القديم المستسلم لجسده الضخم أمام دكانه المزين بلمبات ملونة في ليله رمضانية بهيجة، ثم قال وهو يحلق ببصره في دوائر الدخان المتصاعدة ببطء: "اشتريت كميات كبيرة من الياميش لأنه سوق رائج جداً في رمضان والناس تقبل عليه على كافة مستوياتها، لكن الطلب للأسف كان محدودا للغاية، خاصة على الأصناف غالية الثمن، فالناس هذا العام قررت شراء أساسيات الياميش فقط ..يعني التمر ويمكن قمر الدين وقليل من الزبيب، وتركت باقي الأصناف، ولولا شنطة رمضان التي دعمت حظوظ الفقراء في قضاء شهر الصيام على خير، وإقبال القادرين على شراء المئات منها لتوزيعها على عشرات الآلاف من الأسر لكانت المصيبة كبيرة.. لكن أرجع وأقول أن التوقيت هذا العام كان صعباً، فقد انتهى موسم التصييف بما له من تكلفة كبيرة على الأسرة، ثم دخل علينا شهر رمضان بسرعة، وبدأ الإقبال على بضاعتي فقط لمدة أسبوع، ثم انتقل مركز البيع بسرعة محزنة إلى أدوات المدارس والكتب والكراريس لمدة أسبوعين قبل دخول المدارس في الأسبوع الثالث من هذا الشهر، والآن الجميع بدأ في التوجه نحو محلات الملابس لشراء مستلزمات العيد ونسوا تماما الياميش.. ماذا أفعل بالبضاعة الموجود لديّ، ومن الصعب أن أبيع الياميش مع الألبان طوال العام لتحويل الخسارة إلى مكسب؟ لكن ماذا أقول هذه حكمة ربنا».

سوق الياميش لا يمكن للمصريين تجاهله أو تجنبه في رمضان حتى في ظل غلاء الأسعار، أو رغم إضافة أعباء جديدة على كاهل الأسرة. فالياميش مكون أساسي من مكونات الاستعداد الأسري لشهر الصوم، ورمضان هو شهر الرواج الحقيقي لمنتجات الياميش. استعدادات السوق تبدأ مبكرا قبل رمضان بستة شهور تقريبا، حيث يبدأ المستوردون في طلب أنواع الياميش المختلفة من بعض العالم مثل إيران وسورية وتركيا، وسجلت وزارة المالية المصرية هذا العالم معدل استيراد للياميش بلغ قرابة الـ 20 مليون دولار، حيث تضمنت تلك المنتجات جوز الهند بأكثر من 7 ملايين دولار، وفستق بـ3 ملايين دولار، وبندق بـ2.5 مليون دولار، وتين بـ900 الف دولار، وزبيب بـ500 ألف دولار. وذلك إضافة إلى مخزون كبير من العام الماضي، قام تجار جدد في سوق الياميش باستيراده على نحو غير مدروس، لكن ذلك لم ينعكس بالإيجاب على المستهلك كما توقع البعض، وارتفعت الأسعار. لكن للإنصاف لم يلق بقية تجار الياميش في القاهرة مصير الصاوي، التاجر المبتدئ في سلك الياميش، فقد عبر الكثيرون عن ارتياحهم من نتائج موسم كان صعباً وشاقاً ومحفوفاً بالمخاطر. لكن من هم هؤلاء التجار وأين يعملون ولماذا يشعرون بهذا الارتياح «المشوب بالحذر». الدخول إلى شارع جوهر القائد من ناحية ميدان العتبة باتجاه مسجد الحسين متعة قاهرية لكنها تتطلب صبراً وسعة صدر ورغبة في الاستمتاع والغوص في تفاصيل الماضي الماثل على جانبي الطريق القديم قدم القاهرة ذاتها، أنها السباحة في جموع البشر. توزيع اللحظات أثناء السير الوئيد بين النظر إلى واجهات المحلات المضاءة، وبين تلافي الأكتاف المتصادمة من كلا الاتجاهين. عربات معدنية تحمل البضائع يجرها أولاد، مستحيل أن تسير سيارة هنا. يطالبون بالتنحي عن قارعة الطريق: طريق يا بيه.. طريق يا أنسه.. طريييق يا حاج.

الكل يحاول مسرعاً التنحي لفتح ثغرة لينفذ منها الغلام وعربته قبل أن يحدث اصطدام وشيك، البعض يتذاكي ويقرر السير وراء العربة مباشرة حتى يضمن سعة مؤقتة وسرعة وهمية لقطع طريقه الطويل. زحام من جميع الاتجاهات، لكن رغم ذلك، به شيء من البهجة. البيوت القديمة، المساجد المملوكية تتراص على جانبي الشارع الذي يحمل أسم قائد المعز لدين الفاطمي جوهر الصقلي. دكاكين الملابس المتخمة بنوعيات الملابس من كل صنف ولون. الباعة يرفعون قطعا من ملابس الأطفال الزاهية، يصرخون نحو النساء اللائي تجمعن لشراء ملابس العيد. امرأة تقلب فستانا صغيراً بين يديها، يفاجئها البائع بسعر لا تقبله، تترك قطعة الملابس وتسير. ينادي عليها البائع: بس تعالي.. كام تحبي تدفعي؟ تتجاهله ولا تنظر وراءها. في الجوار تتراص محلات العطارة الكبرى حيث التاريخ القديم للتوابل وتجارتها وعائلاتها التي تتوارثها جيلاً بعد جيل. هذا دكان «رجب العطار» رئيس شعبة العطارين، وهذه «عطارة الفرسان» قرب مدخل حارة اليهود، وبعدها على اليمين ببضع خطوات دكان «العطار والسبع بنات»، وفي نهاية الشارع ومع تقاطعه مع شارع المعز لدين الله الفاطمي يتكئ خضر العطار بشهرته وتاريخه الطويل على ناصية مسجد مملوكي قديم. رائحة التوابل نافذة، تروح وتجيء مع نسائم الصيف الباردة التي تضرب وجه السائر باتجاه ميدان الحسين. عالم يرتبط بالناس والناس ترتبط به. تتراص أنواع الياميش وصنوفه على طاولة عريضة باتساع الدكان من الخارج. عدة أصناف للزبيب وأخرى للتمر وجوز الهند وعين الجمل واللوز والجوز وقمر الدين والعرقسوس والمشمشية. هنا سوق الياميش الكبير. «الحمد لله. ربنا سترها علينا، أحضرنا بضاعة بـ400 ألف جنيه فقط، وتم تصريفها حسب تساهيل الله»، هكذا قال محمد التميمي تاجر العطارة، مستطرداً «الموسم كان سيئاً جدا هذه السنة.. أربعة مواسم مرت على الناس مرة واحدة وفي فترة زمنية قصيرة.. مصيف.. رمضان.. مدارس.. عيد. يعني ملابس وكعك، لكن نرجع نقول الحمد لله».

ويضيف التميمي بنبرة يملؤها الأسى أن سوء الحال الذي شهده الموسم هذا العام سيتكرر لأعوام كثيرة طالما دخل رمضان في شهر الصيف بسبب ازدحام المواسم، ثم يقسم قائلاً «العام قبل الماضي اشتريت بضاعة بمليون جنيه مرة واحدة، انتهت كلها في شهر واحد، أنا لدي زبوني الذي يقدر بضاعتي، لكن هذا العام كان السحب على البضاعة الشعبية أي التمر وقمر الدين والفول السوداني، لكن الناس لم تقترب من الزبيب لأن سعره ارتفع من 12 جنيها للكيلو إلى 22 جنيها، 10 جنيهات كاملة.. تصور.. الناس تعمل إيه؟ أما خالد زكي صاحب دكان «العطار والسبع بنات» أحد كبار تجار الياميش في المنطقة فقد اعتبر أن الموسم بشكل عام كان جيدا، وأن الطلب على الياميش طوال الشهر كان لا بأس به رغم ارتفاع الأسعار الكبير الذي وصلت الزيادة فيه إلى نسب تتراوح بين 20% و30% عن الموسم السابق. لكنه اعترف أن هامش الربح في تجارته هذا العام كان اقل بكثير من العام الماضي. ويضيف زكي أن ارتفاع الأسعار واقتران موسم دخول المدارس مع دخول شهر رمضان أثر سلباً على حظوظ البيع لديه، لكنه يرى أن «رمضان هو رمضان.. الناس هنا لا يمكنها الاستغناء عن الياميش، الياميش هو جزء من رمضان، ويمكن أن تلجأ بعض الأسر إلى شراء أساسيات الياميش مثل التمر وجوز الهند وقمر الدين رغم ارتفاع أسعارها، فبعد أن كان سعر كيلو التمر الجيد في العام الماضي بعشرة جنيهات، ما يوازي دولارين، وصل سعره إلى 18 جنيها (3.6) دولار هذا العام، وبينما كان الكيلو من جوز الهند بتسعة جنيهات (1.8) دولار، صار هذا العام بـ14 جنيها (2.8) دولار، لكنهم في المقابل لا يفضلون شراء عين الجمل واللوز والجوز لارتفاع أسعارها هذا العام كون البعض يعتبرها ترفاً يمكن الاستغناء عنه». زكي ينفي قيامه بتخزين البضاعة من العام الماضي مثلما يفعل البعض، معتبراً أن سمعة الدكان هي كل شيء لديه، فضلاً عن أن هذه المواد قد تفسد بطول التخزين.

أما الحاج أنور عيد صاحب «بيت العطارة المصري» القريب، فيعتقد هو الآخر أن الموسم كان جيدا أيضا لأن حجم الاستيراد كان ضعيفاً جدا هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة، إذ بلغت الجمارك على استيراد الياميش بحسب عيد نحو 316 مليون جنيه، بينما كانت في العام الماضي حوالي 800 مليون جنيه، مؤكدا أن المستوردين كانوا يضعون في حسبانهم صعوبات تصريف البضاعة هذا العام، بسبب ارتفاع معدلات إنفاق الأسرة المصرية على موسم الاصطياف، ثم موسم المدارس، ثم مصروفات العيد، وبالتالي لم تكن هناك خسائر كبيرة كما كان متوقعا بسبب ضعف كمية المعروض. ويرى عيد أن الإقبال على الياميش كان إقبالا في مجمله على الأنواع الشعبية مثل التمر والزبيب وجوز الهند والتين رغم ارتفاع أسعارها هذا العام، مضيفاً أن الارتفاع في الأسعار في بعض السلع سيستمر طالما دخل شهر رمضان في الصيف بسبب تخزين بعض سلع الياميش مثل التمر في «مكيفات» طيلة ثمانية شهور قبل رمضان، وها ما سيرفع سعره مدة عشرة سنوات قادمة، لكن الشيء الملاحظ لديه كان قيام معظم زبائنه بتقليل الكميات التي كانوا يحصلون عليها من دكانه هذا العام، فمن كان يأخذ في السابق من جوز الهند كيلو جراما، اكتفى هذا العام بنصف كيلو وهكذا، بينما لم يطلب عين الجمل هذا العام سوى 20% من زبائنه. ويشير عيد أيضاً إلى دخول رمضان في موسم الصيف حيث ارتفاع درجات الحرارة جعل الناس تقبل على المرطبات أكثر من الياميش، لأن الأخير بحسب عيد يقبل عليه الناس في الشتاء أكثر.

وينضم الحاج محمد رمضان صاحب محلات «أنوار الحرم الشريف» إلى قائمة التجار المتحفظين على سوق الياميش هذا العام قائلا «الموسم هذا العام أقل من الموسم الماضي بنسبة 25%، كنت أشعر بذلك، فقمت بشراء بضاعة ب700 الف جنيه فقط بينما العام الماضي اشتريت بما يزيد عن المليون جنيه.. الناس معذورة هل تشتري أرز وسمن وزيت وسكر أم تشتري جوز وعين جمل؟». رمضان يرى أن المتضرر الأكبر من الموسم كان التجار الصغار وبعض المستوردين الذي راهنوا خطا على السوق، أو أحضروا أنواعا من الياميش لم تلق رواجاً. لكن رمضان يعود ويقول أن مع الياميش لا أحد يخسر، فمن لا يستطع تصريف البضاعة في موسم رمضان، يتوجه بها إلى المتخصصين في حلوى المولد حيث يمكن استخدام الزبيب وجوز الهند وعين الجمل وغيرها مما يدخل في هذه الصناعة، وبعد انتهاء المولد النبوي يذهب بها إلى الحلواني الذي يستخدم أيضا كل هذه المكونات. لكن طارق حيدر أحد كبار مستوردي الياميش في مصر عبر بوضوح عن ارتياحه لموسم هذا العام قائلاً "كان موسما ناجحا تماماً، لأن المعروض كان قليلاً وقام الزبائن بسحبه بدون أية مشاكل، لكن المشكلة حدثت فقط مع تجار التجزئة الذين لم يعوا ظروف الموسم هذا العام، وقاموا بشراء نفس كميات العام الماضي لبيعها، لذلك سقط الصغار هذا العام لعدم درايتهم بظروف السوق والعرض والطلب، لكن المستوردين وأنا منهم قللنا حجم الكمية المستوردة للنصف تقريبا، فمن كان يطلب 5 شحنات من الياميش من إيران أو تركيا، اكتفى هذا العام باثنين فقط، والمستورد يمكنه أيضاً تصريف بضاعته بعد رمضان في موسم خفي يجهله كثير من الناس، وهو موسم حلوى المولد النبوي الشريف، لكن ماذا يفعل تاجر التجزئة بهذه البضاعة؟».

وفي الطريق إلى نهاية شارع المعز لدين الله من ناحية الغورية، كان عبد الله يقف أمام دكان خضر العطار يطالع أحد محلات العطور الصغيرة، ابتسامة كانت سببا في تعارف سريع، عبر بعدها عن علاقته بالياميش. «علاقتي بالياميش الذي أراه الآن في واجهة هذا الدكان مثل علاقة جدتي يرحمها الله بالنانو تكنولوجي.. مقطوعة تماما، بل غير موجودة على الإطلاق»، يقول عبد الله. يخيل من ابتسامته أنه يمزح، لكن يبدو من صوته انه جاد. يكمل: أما إذا كنت تقصد الياميش المكون من قمر الدين والبلح وقمر الدين، فقد وصلني جزء منه على سبيل الهدية من الشركة التي اعمل بها. وأكملت أنا الباقي، عبر شراء التمر الرخيص نسبيا، بستة جنيهات للكيلو، وهو بالإجمال ليس رخيصا على الإطلاق.. ولكنك عندما تشاهد الأسعار المثبتة على بقية الأنواع والتي تصل إلى 40 جنيها للكيلو في بعض الأحيان، يمكنك أن تتخيل نوعية التمر الذي اشتريه بستة جنيهات. ويواصل عبد الله الموظف بشركة للسجاد "أما إذا كنت تقصد ياميش الأثرياء المكون من التين والفستق والبندق وعين الجمل واللوز والكاجو والقراصيا وهذا الاستفزاز غير المبرر، فهذه أمور نكتفي بمشاهدتها من حين لآخر، وفي رأيي يندرج التفكير في شرائها تحت بند السفه لي ولكثيرين غيري. فشراء عينات، مجرد عينات، من هذه الأصناف قد يكلفني على الأقل 200 جنيه، والتي أفضل طبعا، أنا وأفراد أسرتي إضافتها إلى بند اللحوم، أو الحلويات، أو قضاء سهرات رمضانية إلى جوار مسجد الحسين أو عند قلعة صلاح الدين الأيوبي، أو منطقة السيدة زينب، أو غيرها من الأماكن التي تدعم الأجواء الرمضانية في وجداننا. هذا ما أفضله، لكن ما حدث فعليا هو إضافة هذا المبلغ إلى ما هو مطلوب مني لتدبر نفقات بدء العام الدراسي الجديد، من مصاريف كتب مدرسية وشراء ملابس جديدة للأولاد، فضلا عما هو مطلوب لشراء الأدوات المدرسية».

وصل الحوار بيننا إلى شارع الأزهر الرئيسي أسفل كوبري المشاة وأمام قصر الغورى، قال عبد الله قبل أن يرفع يده مودعاً «بالطبع لم يكن هذا هو حالي العام الماضي، فانا أتعرض لازمة اقتصادية، مثل بقية البشر، حتى في أميركا انهارت البنوك ويعانون هم أيضا من أزمة اقتصادية، لا أظن أن هناك مشكلة ياميش، لكن أكيد هناك مشاكل أخرى، أنا إذن لست وحدي في هذا الأمر، هذا ما أقوله لزوجتي وأولادي.. موش زعلان لأني لو حزنت قد أموت من الغيظ والشعور بالعجز. أنا طول الوقت أقول لنفسي ولكل من حولي: كده كده ربنا هيفرجها».