هل هو انفصال.. قبل التقاء؟

بعد مد طريقين يربطان جنوب السودان بكينيا وأوغندا.. ومشروعات قناة فضائية ووكالة أنباء وشركة للجوال بمفتاح دولي خاص وفتح 40 مكتباً بالخارج.. وشراء أسلحة

مقاتلون من الحركة الشعبية لتحرير السودان في أحد معسكراتهم («الشرق الأوسط»)
TT

سجل القيادي الجنوبي الدكتور فرانسيس دينق في مؤلفه الروائي الشهير المعنون بـ«طائر الشؤم»، الذي تناول بين دفتيه الصراع الطويل بين الشمال والجنوب، ملاحظة وصفت على نطاق واسع وسط السياسيين والمثقفين السودانيين بأنها «وضعت اليد على الجرح». تقول الملاحظة ان «ما لم يناقش على طاولات التفاوض بين الشمال والجنوب، هو الذي ظل يفرق بين شقي السودان الشمال والجنوب، منذ ان نشأت الدولة السودانية». وحين يسألونه، بعيدا عن الطاولات الرسمية عما يقصده، يشير الرجل بكلمات مغلفة الى ما يقصده، ولكن من يوجهون اليه السؤال يفسرون ما ألبسه دينق ثياب الغموض بـ«العنصرية»، وما حولها من حواشٍ من تهميش وتعال وظلم ممتد. وأغلب الجنوبيين تذهب تفسيراتهم في ذات الاتجاه، فيما ينفي الشماليون ـ بعيداً عن اقوال دينق ـ ان تكون العنصرية واحدة من اسباب المشكلة بين طرفي الوطن، ويحملون المستعمر البريطاني، الذي اغلق الجنوب عن الشمال لاكثر من خمسين عاما اطلق خلالها يد التبشير المسيحي، يحملونه مسؤولية اختلال الاوضاع بين الشماليين والجنوبيين. ويقول الدكتور امين حسن عمر وزير الدولة بوزارة الثقافة والشباب والرياضة السوداني، في هذا الخصوص ان «السودان لا يعرف العنصرية على الاطلاق.. ربما هناك احساس بالتميز.. وهذا شيء طبيعي وموجود في كل انحاء العالم». بين أقوال دينق، وهو يعمل الآن مساعد الامين العام للامم المتحدة لقضايا الابادة، حول أسباب المشكلة الممتدة، وفي المسافة بين تشخيص الشماليين للمشكلة، وتصوير الجنوبيين لابعادها، ظل اي حديث عن «العنصرية» كعامل من عوامل الصراع بين شقي السودان ملتبسا، ليظل «عدم الثقة هو المشهد الغالب على العلاقة بينهما، رغم اقتراب اتفاق السلام بين الطرفين، «اتفاق نيفاشا» الموقع بينهما عام 2005، من نهاية فترته الانتقالية الثانية والاخيرة المحددة عام 2011»، كما قال لـ«الشرق الاوسط» الدكتور تاج السر محجوب عضو الوفد الحكومي المفاوض في مفاوضات نيفاشا ورئيس لجنة اقتسام الثروة بين الشمال والجنوب في المفاوضات عن حزب المؤتمر الوطني بزعامة الرئيس عمر البشير، الذي «مثل» الشمال في الاتفاقية، في حين «مثل» الجنوب الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة السابق الدكتور جون قرنق الذي قتل في حادث تحطم طائرة جنوب السودان. ويلاحظ مراقبون لمسار تنفيذ اتفاق السلام بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ان معارك عدم الثقة بين الطرفين انتقلت، مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقرر اجراؤها خلال عام 2009 الى موضع يخضع فيه اي طرف نشاط الآخر الى جدل الوحدة والانفصال، كما جاء في بند حق تقرير المصير للجنوبيين في اتفاق السلام. وفي هذا السياق بات المسؤولون في حزب المؤتمر الوطني هم الاكثر ميولا الى تفسير اغلب انشطة الحركة الشعبية وحكومة الجنوب في مجالات التنمية والعمل الخارجي، وغيرها من الانشطة الجنوبية الواقعة في نطاق مستوى الحكم في الجنوب، اي الانشطة «البحتة»، طبقا لتعبير صحافي من جنوب السودان، بانها ليست اكثر من ترتيب مسبق لعملية الانفصال كخيار. ومن بين الانشطة المرصودة في هذا الخصوص، ظاهرة دخول اسلحة ثقيلة ومتطورة الى جنوب السودان، فقد سجلت الاستخبارات التابعة لقوات الجيش السوداني في يوليو (تموز) الماضي دخول 10 دبابات واسلحة من اثيوبيا الى الجنوب عبر مدينة «الكرمك» على الحدود، وأثارت الواقعة جدلا كبيرا، حيث اعتبر حزب المؤتمر الوطني الخطوة «خطيرة» تخفي وراءها شيئا ما، ربما الحرب من جديد، طبقا لمسؤولين في وزارة الدفاع السودانية، فيما نفت الحركة الشعبية اولا، انها تعلم بالاسلحة التي دخلت اراضيها، غير انها في اليوم التالي قالت انها تتبع للجيش الشعبي «جناحها العسكري» وارسلت الى هناك للصيانة وعادت الى الجنوب بعد الصيانة. وقبل ان يتجاوز الطرفان الجدل حول الاسلحة الداخلة من اثيوبيا، فاجأت الساحة السودانية انباء بأن شحنة الاسلحة في الباخرة الاوكرانية التي اختطفها القراصنة الصوماليون قبالة مياه الصومال هي في الاصل مرسلة الى جنوب السودان، مما دفع حزب المؤتمر الوطني الى القول ان الحركة الشعبية لها اولوية اخرى في الجنوب غير التنمية، وهي التسلح استعدادا للحرب إذا ما جاءت رياح استفتاء الجنوب على غير ما تشتهي سفن الشمال.

ورغم نفي الحركة الشعبية لشرائها اسلحة أخيراً، إلا أنها تؤكد في الوقت ذاته أنه حتى إذا اشترت اسلحة فإن ذلك حقها بموجب اتفاقيات السلام. او كما قال وزير الخارجية السوداني دينق ألور في حوار سابق مع «الشرق الاوسط»، فإنه من حق الجيش الشعبي التسلح والتدريب حتى يتم تقرير مصير الجنوب. وما زاد القلق على مستقبل العلاقات بين جنوب السودان وشماله أن قضية الاسلحة التي تتجه للجنوب لم تكن الملمح الوحيد لبوادر انفصال محتمل، فهناك حديث عن ان الحركة تنشط الآن في اقامة قناة تلفزيونية فضائية تنطلق خلال الفترة القليلة المقبلة من العاصمة المصرية، القاهرة، حسب اتفاق اجراه مسؤول وزير الاعلام في حكومة الجنوب خلال زيارة قام بها اخيرا الى مصر. ثم تحدث الوزير السوداني عن استعدادات لاقامة وكالة أنباء تخص الجنوب. وفتحت حكومة الجنوب الباب لشركة «سيم تل» الأوغندية لخدمات الهاتف الجوال للاتصالات لتوفير خدماتها لسكان جنوب السودان منذ اكثر من عام وترتب لاقامة شركة مماثلة تخصها باسم «now». وذكر مسؤول في حكومة الجنوب ان شركة «الآن» لخدمات الهاتف الجوال ستدشن عملها في فبراير (شباط) المقبل، وعندها سيكون للجنوب مفتاح اتصالات دولي خاص به مغاير لمفتاح الاتصالات الخاص بالسودان، وانه من الصعب بعد فبراير المقبل الدخول الى الجنوب من الشمال عبر الهاتف دون ادخال «مفتاح الجنوب»، اي ان الاتصالات بين الشمال والجنوب ستكون اتصالات دولية وليست اتصالات بين مدن في بلد واحد مفتاحه الدولي موحد. ويلاحظ المسؤولون في وزارة التجارة في حكومة جنوب السودان أن حركة التجارة بين الجنوب ودولتي اوغندا وكينيا المجاورتين نشطة ومنسابة بشكل أفضل مما هو عليه مع الشمال. ويرجحون من جملة الاسباب الظاهرة السبب القائل إن البضائع التي تأتي من تلك الجهة تتفق مع مزاج الجنوبيين اكثر من تلك القادمة الشمال. ويلفت انتباه المراقبين الذين يرون ان الحركة تتوغل جنوبا اكثر من الشمال، قيامها بتوقيع اتفاقات مبدئية مع الحكومة الكينية لاستخدام ميناء ممباسا المطل على المحيط في استيراد بعض ضرورياتها. كما شملت الاتفاقات إنشاء خط للسكة الحديد من ممباسا الى جنوب السودان عبر منطقة «لوكيشيكو» الكينية على الحدود مع السودان. ويشيرون الى اكتمال المراحل الأساسية لأطول طريقين بريين يربطان جنوب السودان بأوغندا وكينيا، حيث تقول آخر التقارير إنهما في انتظار المرحلة الاخيرة، ولكن «يتم استخدامهما الآن اكثر من بعض الطرق القديمة المؤدية الى الشمال»، حسب المراقبين. ولا ينظر البعض الى قيام الحركة الشعبية بفتح 40 مكتبا لها في الخارج بالتركيز على اوروبا والولايات المتحدة والدول المجاورة مثل كينيا اوغندا وتنزانيا وجنوب افريقيا ومصر، بمعزل عن فكرة توجه الحركة جنوبا، واندماجها مع دول في الجنوب اقتصاديا وتوثيق علاقات سياسية وامتدادها الجغرافي، مع أن الاوامر الاساسية لانشاء هذه المكاتب تشير الى انها حق اصيل من حقوق مستوى الحكم في الجنوب منحه اياه اتفاق السلام، ومن اغراضها تسهيل دخول الاستثمارات الى جنوب السودان ونشاط حكومة الجنوب بالخارج. وتشير تقارير غير رسمية حول مكاتب الحركة بالخارج إلى انها اصبحت تقوم بأعمال هي في الاصل عمل السفارات السودانية بالخارج. اما في المعابر والدخول الى جنوب السودان والخروج، فباتت تعتبر التوقيعات والاذونات التي تمنحها حكومة الجنوب للدخول او الخروج هي الأم وليست تلك الصادرة من سفارات السودان بالخارج. وقال مسؤول في مطار جوبا لـ«الشرق الاوسط» إن من يصل الى المطار بإذن الدخول الى الجنوب صادر من مكاتب الحركة في الخارج بوسعه ان يدخل بأيسر ما يكون ولكن لو جئت وفي يدك تأشيرة من السفارات السودانية في الخارج فبلا شك ستنتظر طويلا وستخضع للاسئلة التي قد تضايقك، حسب تعبيره. وكشف المسؤول الذي طلب عدم ذكر اسمه لحساسية منصبه في المطار ان اغلب المسؤولين الاجانب او الصحافيين الذين يرغبون في الوصول الى جنوب السودان لن يتسنى لهم ذلك في سهولة ويسر إلا بعد حصولهم على الاذونات من مكاتب الحركة بالخارج». وحصل المبعوث الاميركي للسلام رتشارد وليامسون في زيارته الاخيرة للسودان على اذن من مكاتب الحركة في نيروبي التي وصلها اولا قبل التوجه الى الجنوب وزيارة عدة مواقع، بينها مدينة رامبيك معقل الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية، كما لاحظ الصحافيون في جوبا ذلك. وفوق كل هذا وذاك، يلاحظ الصحافيون في جوبا أن الوجود الشمالي في الجنوب بات في انحسار مستمر، ليس على صعيد القوات النظامية الشمالية التي اعيد انتشارها شمالا بموجب اتفاق السلام، وانما على صعيد الحركة الاستثمارية ايضا، ويلاحظون أن حكومة الجنوب تعطي الاولوية في فرص الاستثمار بالجنوب الى الشركات الكينية والاوغندية والمصرية، وتلك القادمة من جنوب افريقيا الى جانب الشركات من خارج افريقيا مثل الولايات المتحدة والمانيا والصين والهند واليابان. اما آخر المظاهر المقلقة في هذا الاطار، فهي أن السفير الهندي لدى السودان أقام في جوبا لاكثر من ثلاثة أشهر متصلة دون أن يعود الى الخرطوم. ويرجح أن وجوده طوال تلك الفترة يرتبط بمفاوضات بينه وبين المسؤولين في حكومة الجنوب لتعزيز الوجود الهندي التجاري والاستثماري جنوب السودان، فيما لا يجد مراقبون للشأن السوداني اي تفسير لرغبة حكومة الجنوب في تسجيل وإعادة تسجيل الشركات الاجنبية، مسجلة بالفعل في الشمال، مرة اخرى في الجنوب، سوى انه يخفي رغبة جنوبية في الظهور ككيان منفصل عن الشمال. ولكن هناك من يرى أن القول إن نشاط الحركة الشعبية وحكومة الجنوب علامة انحسار جنوبي نحو الجنوب، ليس صالحا للتعميم على كل الجنوب ولا ينطبق على ما يجرى في المناطق المتاخمة للشمال بقدر ما يجري على المناطق المفتوحة على دول الجوار جنوبا، مشيرين ضمنا الى ان الجغرافيا تلعب دورا في العلاقات الاقتصادية، وليس كل توجه نحو الجنوب يحمل بالضرورة نفسا انفصاليا. ويقول هؤلاء ان التواصل الثقافي والتجاري بين مدينتي ملكال وواو والمدن والبلدان القريبة من الشمال يمضي على وتيرته الاولى بل اكثر بعد ان صارت الطرق آمنة بعد نهاية الحرب. ويساند هذا الرأي الدكتور ابراهيم محمد عجب، المستشار لأنشطة الامم المتحدة في مدينة واو، الاستاذ في جامعة بحر الغزال ومقرها واو، حيث يقول لـ«الشرق الاوسط»: إن واو عبارة عن سودان مصغر، تضج بالجنوبيين والشماليين على السواء، وقوافل الشاحنات التي تنقل البضائع من دارفور وكردفان الى الجنوب لم تتوقف لحظة واحدة. ويعتقد ان ذلك اشارة كبرى لامكانية التعايش بين شقي السودان «لولا القرارات السياسية»، حسب تعبيره. غير ان الصحافي نيال بول رئيس تحرير صحيفة «سيتزن» الناطقة باللغة الانجليزية يذهب في اتجاه مغاير للدكتور عجب، حين قال ان ما يحدث الآن في الجنوب من انشطة هو تعزيز لفكرة «الدولة بنظامين، كما جاء في اتفاق السلام. كما يرى أن «الاستفتاء لصالح الانفصال يحدث الآن بقوة». ومن وجهة نظره لا داعي للخطوة رسميا الآن لان الانفصال يتحقق يوما بعد يوم. ويدعي بول ان سكان الجنوب حاليا يرفضون كل ما هو شمالي. وحسب رأيه، فان الشماليين والجنوبيين فشلوا في الخمسين عاما الماضية بعد الاستقلال عن الاستعمار الانجليزي في تطوير الشراكات الحية بينهما بما يحقق الوحدة العادلة. لكن الدكتور لوكا بيونق القيادي في الحركة الشعبية ووزير شؤون الرئاسة في حكومة جنوب السودان يشدد على أن انشطة حكومة الجنوب على مستوى الجنوب او خارجيا ليس اكثر من ممارسة لحقوق منصوصة في الدستور واتفاق السلام، والذي حدد لكل مستوى من الحكم اطرا للحركة والعمل. وقال بيونق أنه لم تخرج الحركة الشعبية ولا حكومة الجنوب عن تلك الاطر سواء عبر مكاتب الحركة في الخارج او جلب الاسلحة من الخارج لتسليح الحركة الشعبية او اي نشاط تنموي تجاري آخر. وأضاف «أعتقد أن ما نقوم به من عمل لترقية حياة السكان يقوي الشعور بالوحدة اكثر من الانفصال». وحسب بيونق، فان خيار الوحدة او الانفصال ليس من حق الحركة الشعبية ولا حكومة الجنوب، ولكن من حقوق مواطني الجنوب عبر الاستفتاء المقرر في اتفاق السلام. وتابع: «اذا استطعنا من خلال الانشطة التي نقوم بها أن نحقق له (مواطن الجنوب) الامن والاستقرار ووفرنا له سبل الحياة الكريمة، فإنه سيصوت للوحدة. وإذا لم نحقق ذلك، فانه سيختار الانفصال لان الوحدة لم تكن جاذبة بالنسبة له خلال الفترة الانتقالية المحددة في الاتفاق». وتابع «اذن نحن ننشط ونعمل عبر القانون والدستور لجعل الوحدة جاذبة كما ورد هذا البند في اتفاق المبادئ الذي قام عليه اتفاق السلام». وفي السياق لا يرى اتيم قرنق القيادي البارز في الحركة الشعبية ونائب رئيس البرلمان السوداني ما يغضب الآخرين في أنشطة الحركة أو حكومة الجنوب في الجنوب «لأنها فقط ممارسة لواجبات وحقوق منصوص عليها في الدستور واتفاق السلام». وأوضح في تصريحات لـ«الشرق الاوسط»: «يغضب الناس من امتلاك الحركة الشعبية قناة فضائية رغم أن الافراد في السودان يمتلكونها؟». وتساءل «هل يريدوننا أن نكون في الظلام دائما لا نستطيع أن نرى انفسنا.. لماذا؟». وتابع «نحن فقط نريد أن نسمع ونرى في اطار حقوقنا المشروعة». وعلى غرار اتيم قال بيتر سولي رئيس حزب جبهة الانقاذ لـ«الشرق الأوسط»: بلهجة استنكارية: «علينا أن نسأل عن منفعة مثل هذه الانشطة وأهميتها للسكان في الجنوب وليس عن الانفصال؟». اما على الجانب الاخر من ضفة النهر، اي الامور من وجهة نظر المؤتمر الوطني الشمالي الطرف الآخر في اتفاق السلام والشريك الاكبر في حكومة الوحدة الوطنية بالبلاد، فتتباين وجهات النظر والتفسيرات حيال انشطة الحركة الشعبية في الجنوب. هناك من يعتقد ان كل ما يحدث في الجنوب في الاونة الأخيرة يصب في نطاق فرز الامور مع الشمال قبل الانفصال. وفيما يحمل مسؤولون في حزب المؤتمر الوطني الحركة الشعبية مسؤولية ما يحدث، يرى آخرون ان المسؤولية مشتركة. وقال أحد أعضاء الوفد الحكومي المفاوض في نيفاشا ان «الوحدة غير واردة.. والانفصال هو الاقرب، وان ما يحدث في الجنوب هو عمل لدولة مستقلة وليس مستوى حكم فقط». ويؤمن على هذا الاتجاه الدكتور تاج السر محجوب رئيس «لجنة اقتسام الثروة» عن الوفد الحكومي في مفاوضات نيفاشا، ولكنه يرى ان الاسباب هي عدم وجود عمل مشترك لجعل الوحدة جاذبة. وبرأيه ان «في الاتفاق ظلالا يعرفها طرفا التفاوض، فاذا لم يعملا معا، فان اي نشاط يجري لا يجسد العمل للوحدة بقدر ما يشجع على الطريق الاخر»، اي الانفصال. وأوضح محجوب «من المهم تأطير عمل مشترك لصالح الوحدة.. تعزيز الوحدة بعمل مشترك هو العاصم من الانفصال». ولا يشك محجوب في ان اي نشاط للحركة الشعبية له ظلال خارجية، اذا لم يتم بتنسيق مع سلطات الشمال، فانه لا يخدم الوحدة بقدر ما يخدم الانفصال». ويؤيد محجوب في هذا الخصوص حسب الله عمر، المدير السابق للامن الخارجي السوداني، حيث اعتبر أن تزايد المكون الخارجي في قرارات الحركة الشعبية أمر مقلق. ومع ذلك أكد عمر لـ«الشرق الاوسط» انه لا يوجد حتى الآن رأي محدد داخل الحركة الشعبية في قضية الوحدة والانفصال، مثلما لا يوجد لها رأي محدد في أغلب القضايا المطروحة، لأن داخل الحركة تكمن تيارات سياسية فكرية وتكوينات قبلية ومؤثرات خارجية، موضحا أن كل هذه الاعتبارات لا بد من مراعاتها في النظر الى تعامل الحركة مع القضايا. غير أن الدكتور قطبي المهدي أمين المنظمات في حزب المؤتمر الوطني والمستشار السياسي السابق للرئيس السوداني عمر البشير يرى انه لم يحن بعد الوقت الذي يمكن أن تعطى فيه تقديرات محددة ونهائية لأنشطة الحركة المثيرة للجدل حول الوحدة والانفصال بين شقي السودان، موضحا أن المعلومة لم تتوفر حتى الآن كاملة. ويعتقد المهدي أنه «لا بأس بتحركات وأنشطة الحركة الخاصة بالتنمية في جنوب السودان»، لكنه في المقابل يقول إن ادخال الحركة كميات من الاسلحة والتركيز عليها في الاونة الاخيرة يعطي اشارة سلبية في عملية تنفيذ اتفاق السلام. وبعيداً عن ذلك، يستبعد مراقبون وسياسيون وخبراء وجود نوايا نفصالية تستشف من خلال انشطة حكومة الجنوب. ويقول سليمان حامد، القيادي في الحزب الشيوعي السوداني المعارض، ان ما يدور في مخيلة الكثيرين في الشمال بأن بعض انشطة الحركة في الجنوب تجهز للانفصال خاطئ. ويرى ان الحركة عندما تنشئ قناة تلفزيونية في الجنوب، فهذا عمل يصب في نطاق تطوير الادوات التي تعين على بسط السيطرة والاستقرار والامن. ويعتقد المسؤول في الحزب الشيوعي أن الحركة الشعبية تفكر بأن تكون حزبا له وضع في كافة السودان. ويدعم فكرة حامد مسؤول أمني سابق، رفض ذكر اسمه، ولكن بمبررات اخرى وهي ان «الجنوبيين ليسوا بحجم قرار الانفصال». وقال هذا المسؤول الامني لـ«الشرق الاوسط»: «هناك الآلاف منهم (الجنوبيين يقصد) يشترون المنازل الفاخرة في الخرطوم للاستقرار فيها، ولم يشتروا بذات المعدل في الجنوب». كما يعتقد هذا المسؤول أن قرار الانفصال «ليس في يد الحركة وأنما في يد القوى الخارجية المؤثرة مثل الولايات المتحدة». وأضاف «اميركا ليست مع انفصال السودان.. انها مع الوحدة لانها ترى أنها تحقق الاستقرار في السودان بما يضمن لها مصالحها اكثر من الانفصال». وفيما يحتدم جدل الوحدة والانفصال في كواليس السياسة السودانية، هناك حقائق ثقافية اجتماعية لا تغيب عن الانظار تتمثل في ظهور جيل جديد من الجنوبيين في الشمال خلق عامل اندماج بين سكان شقي البلاد بشكل لافت، كما يقول الدكتور اشرف آدم ادهم، استاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة النيلين، وهي من اكبر جامعات الخرطوم. حقيقة هذا الجيل لا يعرف معنى الامن والاستقرار الا في الشمال، وكل ما يعرفه عن الجنوب لا تتعدى حكايات من ذاكرة الآباء والأجداد والجيل القديم من ابناء الجنوب. هؤلاء باندماجهم التلقائي مع الشمال، ساهموا في الغاء الكراهية بين الشماليين والجنوبيين على اوسع النطاق». وعليه، فان خيار الانفصال السياسي والجغرافي في ظل تنامي الاندماج الثقافي والاجتماعي بين الجنوبيين والشماليين يشبه العبث إن تم. فالحرب الاهلية السودانية التي دامت أكثر من 20 عاما، وخلفت ملايين القتلى والجرحي والمهجَّرين، أدت من حيث لا تدري الى تنامي الاندماج الثقافي والاجتماعي بين الشماليين والجنوبيين ولا يريد احد ان تؤدي دولة الوحدة بعد الحرب الى ضرب هذا الاندماج من جديد.