مزاج الرئيس

واشنطن ونيكسون كانا عصبيين ولينكولن وريغان كانا هادئين.. ومزاج إيزنهاور كان يظهر من لون بدلته

اوباما وماكين.. معركة الاعصاب («الشرق الأوسط»)
TT

متى كانت آخر مرة انتخبت فيها اميركا رئيسا غاضبا؟ سؤال سأله أحد صحافي «واشنطن بوست»، بعد أيام من المناظرة الثالثة والاخيرة بين المرشح الديمقراطي باراك اوباما والمرشح الجمهوري جون ماكين، وهي المناظرة التي ظهر فيها ماكين غاضبا في أكثر من مناسبة. وكانت ملامح ماكين الغاضبة مسار تعليق الكثيرين، مثلما كان هدوء اوباما مثار تعليق الكثيرين. بعد ذلك نشرت صحيفة «لوس انجليس تايمز» موضوعا بعنوان: «مزاج ماكين ينفر المستقلين». هذه اشارة الى نتائج استفتاء اجرته الصحيفة، قبل ذلك بيومين بالاشتراك مع مركز بلومبيرغ، وركز على الذين قالوا انهم لا ينتمون الى الحزب الجمهوري او الحزب الديمقراطي. واوضح الاستفتاء ان نسبة كبيرة من هؤلاء المستقلين تميل نحو السناتور اوباما، لسببين: اولا: يفضلون سياسة اوباما لمواجهة الكارثة الاقتصادية الاخيرة. ثانيا: يفضلون مزاج اوباما لتحقيق ذلك. ففي اوستن بولاية تكساس، شاهدت جولي كافينو المناظرة الاخيرة بين اوباما وماكين، ورغم انها جمهورية، قالت انها ستؤيد اوباما. قالت: «ماكين، كما شاهدته في التلفزيون، يحرك يديه في توتر، ويركز على كل كلمة في غضب. اعرف انه يركز على كل كلمة حسب نصيحة مستشاريه، لانه كان يتكلم بدون حساب. لكنهم يا ليتهم لم يطلبوا منه ذلك. يركز ماكين على كل كلمة يقولها، ويحرك شفتيه ويضم اسنانه، وكأنه يعاقب كل كلمة يقولها. لم يعجبني ذلك».

وفي كولومبيا بولاية ميسوري، شاهد جاي سيشت نفس المناظرة التلفزيونية، وقال: «رأيت اوباما واثقا من نفسه، وهادئا، ومتواضعا. رغم اتهامات ماكين، لم يرد عليها. ورغم حركات يدي ماكين الكثيرة، لم يفعل مثله». واستعمل سيشت كلمة «كول»، التي تعني ان شخصا ما هادئ الاعصاب.  في الجانب الآخر ارتبطت كلمة «انغر» (غضب) بشخصية ماكين منذ ان دخل الكونغرس، قبل ثلاثين سنة. واستعمل سيشت ايضا كلمة «هوت هيد» (اي الرأس الساخن). ولاحظ ان ماكين، رد على سؤال خلال المناظرة عن ايران، بغناء مقطع من اغنية «بيتش بويز» (اولاد البلاج) تقول: اضرب،اضرب، اضرب.

ويوم الاثنين الماضي، نشرت مجلة «تايم» الاميركية موضوعا حول كيف يؤثر مزاج الرئيس على ادائه، وقابلت مجموعة من خبراء العلوم السياسية تخصصوا في دراسة رؤساء اميركيين سابقين، قالت د. بيفرلي كيدج، استاذة في جامعة ييل: «يستعمل الناس كلمة «تمبرامنت» (مزاج). ويستعمل آخرون كلمة «انستينكت« (حاسة سادسة). والهدف هو تحديد تأثير شخصية السياسي على تصرفاته، خاصة امام المواقف الصعبة. مثلا الرئيس ليندون جونسون، كانت شخصيته من النوع الساخن، كان يخيف الذين يعملون معه، ويناكفهم، وينتقد الذي يعملون تحت إمرته (كان نائب الرئيس جون كنيدي، قبل ان يصبح هو رئيسا)».

ويقول د. راسل رايلي، الاستاذ في جامعة فرجينيا: «يختلف المزاج حتى لدى طفل عمره شهران. هل ينام بالليل في هدوء، ويجعل والدته تنام مثله في هدوء؟ او هل هو من النوع الذي يبكي بدون توقف، وكأنه يبكي بدون سبب؟».

وقال ان نفس التقسيم يمكن ان يطبق على السياسي: هل هو هادئ، ويتأني قبل ان يتخذ  قرارا؟ أو هو مناكف، ولا يفكر كثيرا قبل ان يتخذ قرارا؟

لكن، من الهدوء ما يناقض نفسه، مثل هدوء (او كسل، او عدم مبالاة) الرئيس الاميركي كالفين كولدج الذي اشتهر بأنه: اولا: كان ينام نصف اليوم تقريبا. ثانيا: تحمل مسؤولية الانهيار الاقتصادي سنة 1929 وقال رايلي ان النوم ربط بين كولدج والرئيس رونالد ريغان (اشتهر بانه، بسبب كبر سنه، كان ينام خلال اجتماعات مجلس الوزراء، لكنه لم يكن ينام نصف اليوم). لكن، كانت شخصية ريغان نقيض شخصية كولدج. كان ريغان متحمسا، ومتحركا، ومتكلما، ومنظرا، وعقائديا، وفعالا وهادئ الاعصاب حتى خلال احلك الازمات، وفيما ارتبط اسم كولدج بفشل كبير في تاريخ اميركا (الانهيار الاقتصادي)، ارتبط اسم ريغان بانتصار كبير في تاريخ اميركا (سقوط الاتحاد السوفياتي). كان مزاج كولدج «نائما»، وكان مزاج ريغان «يقظا وهادئا»، ودخل كل واحد منهم التاريخ من باب مختلف.

وهناك شيء آخر في شخصية ريغان: بسبب ثقته في نفسه، استطاع ان يضحك على نفسه: يوم بلغ عمره السبعين (سنة 1980) قال انه عاصر الرئيس ابراهام لينكولن. ويوم محاولة اغتياله (سنة 1981) تندر مع الاطباء اذا كان سيعود الى البيت الابيض او ان الجنرال (يقصد مستشاره الكسندر هيغ) سيتولي منصبه. وكانت ردة فعل ريغان بعد محاولة اغتياله من اسباب ارتفاع شعبيته بشكل قياسي، فهو لم يهلع ولم يخف، كان هادئا جدا. ويقول د. ريتشارد سميث، الاستاذ في جامعة جورج ميسون بولاية فرجينيا: «درست اكثر من رئيس جمهورية، ووجدت ان لكل واحد مزاجا مختلفا عن الآخر». الرئيس الاول، جورج واشنطن، كان من النوع الغاضب. ربما بسبب خلفيته العسكرية، فقد كان جنرالا قبل ان يكون رئيس جمهورية. ومثله مثل الرئيس الجنرال دويت ايزنهاور الذي قاد قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.  وخلال الخمسينات، كانت هناك اشاعة في البيت الابيض بأن مزاج ايزنهاور يعتمد على لون البدلة التي يرتديها في ذلك اليوم. بدلة سوداء؟  مزاج طيب. بدلة بنية؟ مزاج ساخن، وهنا لا بد من تحاشي الرئيس لمن يقدر. لكن، لم يشتهر ايزنهاور بحدة المزاج بقدر ما اشتهر بالرقي والتأدب. وربما شفع له ذلك في التاريخ. ابرهام لينكولن دخل التاريخ ايضا لكن بسبب هدوء اعصابه، على الرغم من انه حكم اميركا في فترة عصيبة جدا. وعن مزاج الرئيس بيل كلينتون، قال رايلي انه «مثقف غير منضبط»، ويقصد انه كان من اكثر رؤساء اميركا ثقافة، وقدرة على التفكير، وجدلا مع الاكاديميين والخبراء، وانفتاحا على العالم الخارجي (وحتى اليوم لا يزال). لكنه، كما قال رايلي، «لم يقدر على تأديب نفسه»، هذه اشارة الى علاقاته الغرامية خصوصا مع مونيكا لوينسكي، فالرئيس الهادئ الاعصاب عموما، فقد اعصابه خلال هذه الازمة كثيرا. ولم تختلف شخصية كلينتون عن شخصية ريتشارد نيكسون كثيرا. وكان الاخير ربما في نفس ذكاء كلينتون، واطلاعه على العالم الخارجي، ودهائه السياسي، وقدرته على المناورة والمراوغة. لكن، كشفت فضيحة «ووترغيت» معدنه، هو لم يكن هادئا كما كان يظهر، بل كان خائفا شكاكا، تجسس على الحزب الديمقراطي. وعموما يرفض السياسيون الحديث عن امزجتهم وشخصياتهم الا عندما يتنافسون ضد بعضهم البعض. وفي آخر مناظرة بين اوباما وماكين، سأل ماكين: «من هو اوباما الحقيقي؟». ولم يقصر اوباما، ورد على النقد بنقد: «مع كل الاحترام لماكين، يثور وقت الازمات». (استعمل اوباما كلمة أراتيك). ويبدو ان اوباما لم يقل الا الحقيقة، لان سببا رئيسيا لزيادة اسهمه هو ان اغلبية الشعب الاميركي تعتقد انه يمكن الاعتماد عليه وقت الازمات (مثل الازمة الاقتصادية الحالية). الثقة شيء مختلف عن السياسة. اي ان ماكين، رغم خبرة سنوات كثيرة، يتوتر امام المشاكل. «اراتيك». لكن اوباما، رغم قلة خبرته، يبدو هادئا ومسيطرا على نفسه «كول».

وهكذا، تظهر اهمية شخصية السياسي ومزاجه، ربما اكثر من سياسته. رغم اتفاق الاثنين على دعم البنوك والمؤسسات الاستثمارية التي افلست، او واجهت الافلاس، ورغم اتفاقهما على تخفيض الضرائب، لهؤلاء او اولئك، ورغم اتفاقهما على الانسحاب من العراق، قريبا او بعيدا، رغم كل ذلك، انتبه الاميركيون الى الاختلاف في المزاج، وفضلوا اوباما على ماكين.

لكن ما هو المزاج السياسي؟ قبل ستين سنة، اجاب على السؤال ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. كان قابل الرئيس الاميركي ثيودور روزفلت. وكتب عنه: «ان تعرف روزفلت مثل ان تفتح زجاجة شمبانيا». وقصد ان المشروب واحد، لكن لكل زجاجة طعما. اي ان السياسي هو السياسي، لكن الشخصيات تختلف.

ووصف المزاج ديفيد ماكولو، مؤلف كتب عن رؤساء اميركيين منهم الرئيس جون ادامز والرئيس هاري ترومان، وقال: «انه مدى النضوج والتوازن والتعقل». وأوضح ان معرفة مزاج السياسي اهم من معرفة سياسته لان لا احد يعرف ماذا سيحدث في المستقبل. لهذا، لن يقدر السياسي على ان يقسم انه سيفعل كذا اذا حدث كذا لسبب واحد بسيط، هو انه لا يعرف ما سيحدث. ولا يعرف الناخب ايضا. ولهذا، تصير الثقة اهم من التأييد. تصير الثقة في السياسي، وامكانية الاعتماد عليه في حالات مجهولة، او شبه مجهولة، أهم من تأييد برنامجه وارائه وفلسفاته وكتبه ونظرياته.

واتفق المؤرخون، الذين كتبوا عن رؤساء سابقين، على أن طفولة السياسي تساعد على ذلك.

بالنسبة لاوباما، كان عمره ست سنوات عندما تزوجت والدته الاميركية مرة ثانية طالبا من اندونيسيا، وانتقلت العائلة الى اندونيسيا. وتذكر زولفين عدي (الآن عمره 47 سنة، وكان زميل اوباما في الفصل) ان اوباما كان اجنبيا غريبا، لا يتكلم لغتهم، ولا يعرف عاداتهم. وقال: «كان جسمه اكبر، وكانت ملابسه احسن، وكان هناك من يحسده. ومرة، تعمد اطفال الاشتباك معه، ورموه في بركة. ولحسن حظه كان تعلم السباحة وهو في اميركا، عكس كثير من اطفال اندونيسيا. وسبح، وانقذ نفسه. لكنه خرج من البركة وهو يضحك. لان حجمه كان كبيرا، كان يقدر على الانتقام من الذين رموه في البركة. لكنه لم يفعل ذلك، وكسب عطفنا لتسامحه وقدرته على كسب اعدائه».

في الجانب الآخر، وباعتراف ماكين، عندما كان عمره سنتين، فشل والداه في علاج تصرفات عصبية تصيبه من وقت لآخر. وكتب في كتاب مذكراته: «كان والدي ضابطا في البحرية، ونصح الطبيب والدي ووالدتي بان يرشوني بماء كلما يصيني التوتر العصبي». واضاف: «لا ازال اتذكر والدتي تصرخ لوالدي: «احضر الماء، احضر الماء». وعن هذا قالت مجلة «تايم»: «صار اوباما هادئا، حتى وقت الازمات، وصار ماكين هادئا الا وقت الازمات». الا ان هذا ليس حكما مسبقا على نتيجة الانتخابات يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.. فكما يتغير مزاج الرئيس يتغير مزاج الناخبين.