استثمار المستقبل

جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ستضم سادس أسرع كومبيوتر في العالم.. وشريكاتها جامعات أوكسفورد وستانفورد وتكساس

الملك عبد الله بن عبد العزيز ادخل السعودية طفرة الاقتصاد المعرفي («الشرق الأوسط»)
TT

كان التوجه نحو اقتصاد المعرفة أحد أهم اولويات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، عقب توليه سدة الحكم في السعودية، وذلك بقص شريط الاستثمار في مجال المعرفة، عندما أعلن من أعلى قمة في جبال الطائف خلال الاحتفال الشعبي الذي اقامه اهالي الطائف له عقب توليه مقاليد الحكم في 23 من يوليو (تموز) 2006، عن انشاء أكبر جامعة للعلوم والتقنية على ساحل البحر الاحمر في ثول شمال مدينة جدة بتكلفة نحو 10 مليارات.

ولأن السعودية أدركت ان الاستثمار في المعرفة أمر لا يختلف بل يفوق الاستثمار في أي منتج آخر، أسوة بالنفط والبتروكيماويات والبناء والمقاولات، فقد تسارعت الخطى في هذا الاتجاه ليعلن في تلك الاثناء عن اطلاق اكبر مدينة للمعرفة وهي «مدينة المعرفة الاقتصادية» في المدينة المنورة بتكلفة تفوق الـ 25 مليار ريال (7 مليارات دولار). وجاءت رسالة الملك عبد الله بن عبد العزيز التي تصدرت موقع «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا» الرسمي لتدلل على أن مستقبل الاقتصاد في السعودية سيقوم على المعرفة، جنبا الى جنب مع باقي الموارد الاقتصادية للبلاد، حيث قال الملك عبد الله: «رغبة مني في إحياء ونشر فضيلة العلم العظيمة التي ميزت العالمين العربي والإسلامي في العصور الأولى، فقد رأيت أن أؤسس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية.. ستمثل الجامعة، باعتبارها بيتاً جديداً للحكمة، منارة للسلام والأمل والوفاق وستعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم عملاً بأحكام ديننا الحنيف.. وإنني أرغب أن تصبح هذه الجامعة الجديدة واحدة من مؤسسات العالم الكبرى للبحوث؛ وأن تُعَلّم أجيال المستقبل من العلماء والمهندسين والتقنيين وتدربهم؛ وأن تعزز المشاركة والتعاون مع غيرها من جامعات البحوث الكبرى ومؤسسات القطاع الخاص على أساس الجدارة والتميز».

وستضم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية واحدا من اكبر اجهزة الكومبيوتر في العالم، ما سيساعد على جذب كبار الباحثين الى المملكة. وقال ماجد الغسلان، المسؤول عن شراء وتصميم وتطوير الكومبيوتر العملاق «شاهين» في تصريحات هذا الاسبوع لرويترز، إن الكومبيوتر العملاق هو حجر الزاوية للاقتصاد القائم على المعرفة الذي تسعى اليه السعودية. وأضاف ان من المتوقع ان تصل سرعة جهاز الكومبيوتر العملاق الى 222 تيرافلوب في الثانية، والتيرافلوب تساوي تريليون عملية حسابية في الثانية، ما يجعله سادس أسرع كومبيوتر في العالم. وسيتمكن «شاهين» من محاكاة بيئة البحر الاحمر وسيصمم آبار نفط ثلاثية الابعاد. وستقدم الجامعة الجديدة ابحاثا في العلوم الحيوية والهندسة الحيوية والعلوم المادية والهندسة والرياضيات التطبيقية وعلوم الحاسب. وبمنحها اكثر من عشرة مليارات دولار من الملك عبد الله فان بوسع الجامعة ان تجتذب الخبراء من شتى أنحاء العالم بوعد بتمويل غير محدود تقريبا للعمل البحثي. وقال ديفيد كيز، رئيس قسم العلوم الرياضية وعلوم الحاسب والهندسة الذي انتقل من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، ان «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية اضافة مهمة لمصادر العالم في علوم الحاسب المتطورة». وأضاف، مشيرا الى كومبيوتر «شاهين» أن «الجهاز الذي يشترى احد مصادر الجذب الرئيسية لي». وستستخدم الجامعة وشريكاتها وبينها جامعات «كورنيل» و«أوكسفورد» و«ستانفورد» و«تكساس ايه اند ام» الكومبيوتر العملاق.

والمقصود بالاقتصاد المعرفي هو الاقتصاد الذي يدور حول المعرفة واستخدامها وتوظيفها من اجل التطوير الاقتصادي وخلق فرص عمل وتحسين نوعية الحياة بمجالاتها كافة، من خلال تطبيقات تكنولوجية متطورة، واستخدام العقل البشري كرأس للمال، والاستثمار في البحث العلمي لإحداث مجموعة من التغييرات الاستراتيجية في طبيعة المحيط الاقتصادي وتنظيمه ليصبح أكثر استجابة وانسجاماً مع تحديات العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعالمية المعرفة، والتنمية المستدامة بمفهومها الشمولي التكاملي. وقد يكون ابلغ ما قيل في اقتصاد المعرفة، ويعكس التوجه الحكومي السعودي، هو ما قاله الامير خالد الفيصل امير منطقة مكة المكرمة في أحد المحافل الاقتصادية في جدة موضحا «ان الاقتصاد المعرفي هو الوقود اللازم لقطار التنمية الاقتصادية، لأن المعلومة أهم من السلاح». لكن اقتصاد المعرفة لا يولد بين ليلة وضحاها، ففي الواقع بناء الاقتصاد على المعرفة من أصعب التحديات التي يمكن ان تواجه اي دولة، ولتحقيق هذا يستلزم تضافر جهود من الدولة والمجتمع العلمي والمؤسسات الاقتصادية. ويوضح المهندس طاهر محمد باوزير الرئيس التنفيذي لمدينة المعرفة الاقتصادية لـ«الشرق الأوسط» ان «السعودية ستكون الدولة الرائدة في مجال الاستثمار المعرفي على مستوى الشرق الأوسط، وهناك دراسات قامت بها جهات متخصصة أكدت أهمية أن تكون المملكة بلداً معرفياً منتجاً بحلول عام 1444هـ(2023 م)، ووضعت محاور عدة لها عرضت على المجلس الاقتصادي الأعلى، الذي بدوره سيتبنى هذا الاتجاه». وتبرز صعوبات تبطئ مسيرة المشروع إلا ان التغلب عليها امر حتمي لا مجال لمناقشته، كما يشير باوزير بقوله «إن أبرز التحديات هو تأهيل الشباب السعودي وتعليمهم المهن في هذا القطاع، لتواكب قدراتهم التطورات التي يشهدها قطاع تقنية المعلومات في العالم، ولهذا ركزنا من خلال خطتنا التنفيذية على إنشاء المزيد من الكليات والمعاهد المتخصصة لتأهيل وتدريب الشباب السعودي للدخول إلى هذه السوق التي ستشهد نمواً كبيراً في القريب العاجل». ولان اقتصاد المعرفة يتطلب جهودا مشتركة من الدولة والمؤسسات العلمية والبحثية، فإن «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية العالمية» والتي بدأ إنشاؤها في ثول، شمال مدينة جدة، تعد «حجر زاوية» في تحول السعودية نحو اقتصاد المعرفة، خاصة أنها الجامعة ـ الحلم، التي ينتظرها السعوديون بفارغ الصبر، كما تتجه الأعين الى مدينة المعرفة الاقتصادية في المدينة المنورة، فهما معا نواة التوجة نحو الاقتصاد المعرفي. فجامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز للعلوم والتقنية التي وضع خادم الحرمين حجر اساسها في 21 اكتوبر (تشرين الاول) 2007 لتكون جسر عبور السعودية نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، واختير مديرها من بين 120 مرشحا عالميا، ستبدأ أعمالها في سبتمبر (أيلول) من العام المقبل 2009.

وأعطت الجامعة دفعة قوية لمسيرة البحث العلمي بتعيين مسبق لمجلس للأمناء يتكون من عشرين شخصاً من أعلى الكفاءات العلمية والأكاديمية العالمية، وهو ما يضمن المسار العلمي المستقل للجامعة، وذلك بعد أن تم تحديد الموارد المالية الكافية لها عبر إنشاء «وقف دائم» يدار لصالحها.

وكان الملك عبد الله قد عهد في يوليو (تموز) 2006 إلى شركة «ارامكو» الرائدة في صناعة النفط إنشاء الجامعة، على مساحة تزيد على 36 مليون متر مربع بالقرب من بلدة ثول بتكلفة 10 مليارات ريال، وتم تخصيص وقف لخدمة الأبحاث العلمية في الجامعة بقيمة 10 مليارات ريال أخرى. وأقامت الجامعة في منتصف العام الحالي احتفالا خاصا في جدة للإعلان عن اختيار سبع جامعات لمنحة مراكز الأبحاث، وذلك من بين عشرين عرضا قدمت من جامعات إقليمية ودولية عريقة في مجال البحث العلمي، حيث قال نظمي النصر، رئيس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية المُكلف لـ «الشرق الأوسط»، الذي يعتبر مهندس الحلم الخاص بالملك عبد الله في تأسيس الكيان الأكاديمي المعروف باسم «بيت الحكمة»، إن الجامعة خلال المدة الزمنية المتراوحة بين 10 إلى 15 سنة المقبلة، ستصبح من الجامعات الرائدة في العالم.

وأشار متحدثا حول الطلبة الذين سينخرطون في الفصل الدراسي الأول للجامعة بعد انطلاقها في سبتمبر (أيلول) 2009، «اجتذبنا 170 طالبا وطالبة من مختلف دول العالم، ويمثل الطلبة السعوديون نسبة ما بين 40 إلى 45 بالمائة منهم، إضافة إلى 500 طالب وطالبة تم اجتذابهم، ليصبح إجمالي طلبة السنة الدراسية الأولى 670 طالبا».

ويضمن ميثاق الجامعة حرية الفكر، وحرية البحث والاستقلالية والتمويل ومنح العلماء ما يلزم لضمان استقلاليتها العلمية، ومن شأن هذا المشروع العملاق أن يضع السعودية في مصاف الدول المتقدمة في تسخير مواردها للبحث العلمي واحتضان العلماء ليكرسوا خبراتهم وتجاربهم لوضع الحلول للعقبات التي تعترض التنمية والاقتصاد والبيئة والصناعة وترتبط مباشرة بالعجلة الاقتصادية لكي تزاوج بين البحث العلمي وحاجات التنمية الصناعية والاقتصادية في البلاد.

وتركز الجامعة على البحث العلمي وتحويل نتاجه إلى مشاريع صناعية تعمل على نقل الأفكار والتقنيات. وتحقيقا لهذه الغاية أعدت الجامعة مدينة أبحاث ومركز إبداع مجهزين بأحدث المرافق. ويجد نخبة من المهندسين والباحثين المعروفين عالمياً، والذين تضمهم جامعة الملك عبد الله، في الأفق المفتوح والإمكانيات الهائلة التي توفرها الجامعة، مكاناً مناسباً لبلورة جهودهم في الأبحاث التي تطبق العلم والتقنية على المشكلات المتعلقة بمختلف القضايا حيث اعتمدت الجامعة برنامج «رابطة الأبحاث العالمية»، إذ سيتم في إطار هذا البرنامج الدخول في شراكة بين خمسة أو ستة معاهد بحثية سنوياً لمدة خمس سنوات في مجالات تهم جامعة الملك عبد الله، بالاضافة لاتفاقيات شراكة لعروض مقدمة من نحو 60 جامعة عالمية ومعهد أبحاث. ومثل تعيين البروفيسور تشون فونغ تشي، مدير جامعة سنغافورة الوطنية السابق، كأول رئيس مؤسس لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، تأكيداً لتميّز الجامعة في اجتذاب الكفاءات العلمية العالمية، فهو أحد أبرز الكفاءات العلمية على المستوى العالمي حيث كان أول سنغافوري ينتخب عضوا مشاركاً أجنبياً في الأكاديمية الوطنية الأميركية للهندسة، وهو أول متلق من منطقة آسيا لجائزة القيادة، التي يمنحها مجلس تطوير ودعم التعليم لكبار المسؤولين التنفيذيين، وهي منظمة عالمية تشترك في عضويتها أكثر من 3000 مؤسسة تعليمية منحت له عام 2007، وهو أيضاً عضو فخري أجنبي في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. كما أنه «فارس» فرنسي بناءً على مرتبة «فرقة الشرف» الفرنسية التي منحت له. والى جانب جامعة الملك عبد الله تعد مدينة المعرفة الاقتصادية في المدينة المنورة من اهم مشاريع الاستثمار في مجال المعرفة في السعودية حيث بدأت منذ ان اعلن انشائها في استقطاب العلماء من انحاء العالم وتوقيع الاتفاقيات مع الدول المتخصصة في مجال المعرفة والمتقدمة في ذلك.

ويقول المهندس طاهر باوزير، الرئيس التنفيذي لمدينة المعرفة الاقتصادية «إن مدينة المعرفة الاقتصادية تعد معلماً حضارياً وصرحاً وطنياً وعالمياً للتنمية الاقتصادية المبنية على الصناعات المعرفية، حيث تسعى إلى تأسيس قاعدة للتنمية الاقتصادية المبنية على الصناعات المعرفية في المنطقة من خلال توقيع عدة اتفاقيات مع شركات كبرى من أبرزها شركة سيسكو للمشاريع العالمية بهدف إنشاء أكاديمية للربط الشبكي في مدينة المعرفة الاقتصادية لتوفير أحدث الوسائل التدريبية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وشركة أوراكل العالمية بهدف تأسيس أكاديمية أوراكل لتأهيل طلاب المعرفة لتقنية المعلومات الحديثة». ولفت باوزير الى ان المدينة كانت قد وقعت مذكرتي تفاهم مع شركة «إنتل» العالمية لتقنية المعلومات ومع منظمة «ني سي آي» المتخصصة في التطوير الاقتصادي وذلك لتمكين مدينة المعرفة لتكون أول مدينة من نوعها قائمة على الصناعات المعرفية حيث تستوعب 150 ألف ساكن في مساحة إجمالية 4.8 مليون متر مربع، ومن المخطط عند اكتمال بنائها أن يبلغ إجمالي الاستثمارات فيها 25 مليار ريال لتسهم في توفير 20 ألف فرصة عمل لها علاقة بالمعرفة واقتصاداتها. كما يعتقد أن تكون قادرة على استيعاب 30 ألف زائر في مساكن ذات مستوى عالمي، كما خصص فيها 1200 محل تجاري، ويجري تطوير 30 ألف وحدة سكنية. وقد بدأت الجامعة التحرك لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية بدعم كامل من جانب الحكومة، حيث تم إعلان مدينة المعرفة الاقتصادية منطقة اقتصادية خاصة بموجب تشريع قانوني صادر عن الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية، الأمر الذي سيتيح توفير بيئة صناعية جذابة قائمة على المعرفة أمام الشركات. لذا فإنها توفر أطر عمل تشريعية وقانونية مرنة لممارسة مختلف النشاطات التجارية في هذه المنطقة. ويؤكد العاملون في هذه المدينة انها ستركز في توجهها نحو العديد من الجوانب المعرفيه وفي مقدمتها «الحكومة الذكية، والتعليم عن بعد، ومراكز الاتصال» والأهم من ذلك ستوفر بيئات حاضنة لمشروعات تكنولوجيا المعلومات للشباب السعودي وللشركات الصغيرة. وشهدت السعودية على مدار العامين الماضيين عشرات المنتديات التي تتحدث عن الاستثمار في مجال المعرفة كان ابرزها المؤتمر الدولي للمعرفة الذي احتضنته المدينة المنورة في يونيو 2008 م برعاية خادم الحرمين الشريفين، والذي جمع تحت سقف واحد نخبة من العلماء والمفكرين وكبار المستثمرين. ويوضح المهندس طاهر باوزير أن «الصناعات الاقتصادية المعرفية تعتمد على كفاءة العنصر البشري واستخدام العقل في الاختراع والتطوير أكثر من الاعتماد على المواد الخام»، موضحاً أن اقتصاد المعرفة يدخل في قطاعات كثيرة مثل صناعة الاتصالات وتقنيات المعلومات وهندسة الإلكترونيات وصناعة البرمجيات وغيرها.