الكابتن هني

لاعبة المنتخب الفلسطيني بدأت تلعب في الحارات وقاومت وصفها بـ«حسن صبي».. وتدين لكرة القدم بتعريف العالم على فلسطين «التي تحب اللعب»

TT

عندما جاء «امبراطور الفيفا»، جوزيف بلاتر، الى رام الله، كان حريصا على ان يلتقط صورة الى جانب لاعبة كرة القدم الاولى في فلسطين، الكابتن هني ثلجية. كانت هني، تشعر ان اهتمام بلاتر بها، وبالكرة النسائية الفلسطينية، يشكل انتصارا في معركة طالما كانت فيها تسبح عكس التيار، وهي تلعب الكرة في مجتمع ذكوري ويعيش تحت الاحتلال. كل المحاولات والمضايقات والضغوط التي تعرضت لها الطفلة والفتاة ولاعبة كرة القدم، هني، لم تحملها على التراجع. كانت تتمسك بموهبتها التي اكتشفتها منذ الطفوله وتسعى الى تطويرها باستمرار.

بدأت هني التي تنتمي لعائلة مسيحية، متوسطة الحال، من مدينة بيت لحم الفلسطينية، تتعلق بالكرة منذ طفولتها. كانت تراقب المباريات بشكل متواصل، مع باقي افراد الاسرة، وجميعهم يعشقون لعبة كرة القدم. لم تكن الطفلة هني تقاوم «الكرة». كان شيئا ما في هذه الكرة المستديرة يجذبها باستمرار، حالة حب لم تجد لها تفسيرا. تقول هني لـ«الشرق الأوسط»: «كنت لا اقاوم كرة القدم، انبسط على الكرة.. كانت تجذبني، كنت أحس فيها.. لما اشوف الكرة في اشي لازم اعملو تجاها، حتى لما كنت اشوف ولاد يلعبوا في الحارة فورا اروح اركض والعب معهم». أول ركلة لهني التي ولدت عام 1984 كانت في حارة «مغارة الحليب» الصغيرة بجانب كنيسة المهد. وشيئا فشيئا بدأت علاقة هني بالكرة تكبر وتتعمق.

في مدرسة اللوثرية الابتدائية، كانت هني مستفزة من سيطرة الاولاد في صفها على حصة الرياضة. وسريعا ما كسرت التقليد السائد، وانخرطت مع الاولاد لتلعب الكرة. كان البنات في صفها يقضون حصة الرياضة في التنزه او الدردشة، اما هني فكانت تذهب لتلعب الكرة. بعد قليل، اصبحت هني مؤثرة في مدرستها، صار الاولاد يتنافسون كي تلعب هني الى جانبهم ضد التشكيلات الاخرى. وتتذكر هني، وهي تبتسم «كانوا يعتمدوا علي في التقسيمة، بعدين صاروا يتقاتلوا ويقولوا بدنا هني». أصبح استاذ الرياضة يشجع هذه الظاهرة الاستثنائية في مدرسته، ويشركها في مباريات خارجية، كانت وحدها تلعب بين عشرات الاولاد. وكان لافتا أن تاتي والدتها لتساندها وتصرخ مشجعة لها وهي تلعب في دوريات كرة القدم في المدارس والمخيمات الصيفية. وتقول هني «اهلي كانوا دئما حاضرين، اتذكر امي وهي تصرخ وتشجعني». الا ان هذا التشجيع سرعان ما انلقب الى خوف على هني الفتاة في مجتمع ذكوري. صارت هني تكبر، وبدأ الاهل يشاهدون ابنتهم المولوعة في الكرة مشغولة بها عن سواها. خافوا بداية ان تأخذها الكرة من احلامها، احلام اي فتاة بان يأتيها «النصيب». كانوا يعتقدون في البداية ان الحكاية لا تغدو اكثر من «لعب اولاد» وأن القصة ستنتهي بعد قليل، في مجتمع ذكوري ومحتل ولديه من المصائب ما يكفيه. ظل الجدل مستمرا بين الاهل وابنتهم حول وقف لعبة الكرة. التحقت هني بجامعة بيت لحم، وانتبهت مبكرا لإعلان هو الاول في فلسطين حول رغبة الجامعة في تشكيل فريق نسوي كروي. ذهبت هني الى مسؤولة الانشطة الرياضية في الجامعة، سمر الأعرج، التي اصبحت صديقتها فيما بعد. قالت لها الاعرج انها تضع الاعلان منذ سنين بلا جدوى وطلبت منها المساعدة، اذا كانت تستطيع. استطاعت هني فعلا ان تقنع بعض صديقاتها بتشكيل فريق نسوي للجامعة. وفي اول حصة تدريب اعطبت هني الكرة وقالت «لا انسى ذلك، في أول شوته خربت الطابة». بذلت هني جهدا كبيرا، كانت تشعر بالفخر، كونها أول لاعبة كرة قدم في فلسطين. اقنعت اخريات بالانضمام لفريق الجامعة. وبعد قليل من الجهد شكل اول فريق نسوي يتبع جامعة بيت لحم، او، يتبع «هني». هذا التشكيل، الذي أعلن في أواخر عام 2003، جذب اهتمام الصحافة التي بدأت تطارد هني، وكذلك جذب انتباه الدول العربية التي بدأت ترسل لفريق الجامعة الدعوات للمشاركة في بطولات نسوية. كانت المشاركة الاولى لهني خارج فلسطين في المملكة الاردنية، في عام 2004. كانت بطولة خماسية. ولم يكن فريق الجامعة الذي تقوده هني يملك اصلا أكثر من 5 فتيات. وقالت هني «ذهبنا 5 فقط، بدون اي احتياط حققنا نتائج جيدة». أصبحت الشهرة تلاحق كابتن فريق الجامعة، وتتسع دائرة الضوء حولها، وفي ذات الوقت تكبر تخوفات الاهل. قالوا لابنتهم: الكرة مش للنساء، وانت لا تليق بك هذه الخشونه، هذه لعبة رجال. وحاولوا اقناعها بان للانثى مهمة اخرى في الحياة، فهي خلقت لزوجها وبيتها. خوفوها من ان «يطير النصيب» بسبب الكرة.. «حتى يومنا هذا اسمع حكاية الكرة والنصيب» قالت هني وهي تبتسم.

طالبها الاهل بان تصبح ادارية في فريق ما، اخبرتهم انها تحب لعب الكرة وعندما تكبر ستصبح ادارية لكن طالما انها قادرة على اللعب فهي ستواصل. اما حكاية النصيب فتقول هني «لما بدو يجي بيجي». تعرضت هني مع بداية لعبها الكرة لمضايقات من العائلة واهل الحي والاصدقاء. كان يلقبها البعض بـ«حسن صبي». كان هذا مزعجا لها. وفي الجامعة كانت صديقاتها يحاولن اثارتها كلما خطبت او تزوجت احداهن. كن يقلن لها «هي فلانه خطبت.. خليكي انت لاحقة الطابة»، اي الكرة. كانت هني تتعرض لاسئلة باستمرار حول شريك الحياة، وماذا ستفعل اذا ما خيرها بين الكرة والزواج. فكانت تجيب دائما: «اذا خيرني فلن يصبح الشخص المناسب بالنسبة لي، اللي بدو يشاركني حياتي بدو يفهم اني بلعب كرة». وربما هذا كان سببا في انها لم ترتبط حتى الان. لكن لا يبدو انها تقيم لذلك وزنا، اذ تثق بجمالها وبان النصيب سيأتي حتما، وحده، كما تشاء هي. زاد اعتراض الاهل بعدما بدأت هني تعود اليهم مصابة في كل مرة، وكانوا غير راضين عن عدم وجود ملاعب متخصصة وعناية طبية. خوفوها من ان اي اصابة صعبة قد لا تجد من يداويها ويتابعها. كل ذلك، لم يقنع هني بالتراجع، وحده الاحتلال الاسرائيلي كان يجبرها على وقف ممارسة لعبة الكرة. وفي عام 2002 دخل الجيش الاسرائيلي المدجج بالسلاح الى مدينتها، وحاصر كنيسة المهد لحوالي 40 يوما. كانت ساحة المعركة حيث تسكن هني. وصفت تلك الايام بانها كانت الاصعب في حياتها، كانت تدرس للثانوية العامة، قتل الاسرائيليون احد افراد عائلتها، كانت تشاهد القتل من شباك غرفتها، وشاهدت جثث ابناء شعبها. شاهدت سيارتهم الوحيدة تدوسها الدبابات. فكرت للحظات بأنها تنتمي لشعب لا يحق له أن يلعب الكرة تحت هذا الاحتلال، ومع كل هذا القتل. كانت تهرب من الواقع الصعب الى مشاهدة مباريات كرة القدم. كانت مباريات بطولة كأس العالم، البطولة الافضل عند هني التي تحلم بالمشاركة فيها يوما، مشتعلة ابان حصار المهد. كل هذا الدمار لم يمنعها من متابعة الكرة. تفوقت هني في الثانوية العامة. اعتبرت انها انتصرت على الذات برغم كل ظروفها الصعبة. قررت ان تنتصر على الاحتلال وتدرس وتتفوق وتدخل الجامعة. وقررت ان تستمر في لعبتها المفضلة. بعد تشكيل الفريق النسوي، في جامعة بيت لحم، تشجع اتحاد كرة القدم الفلسطيني لتشكيل منتخب نسوي فلسطيني. كان منتخبا ناشطا وواجه عدة منتخبات خارج فلسطين. لكن اهتمام الاتحاد لم يكن مشجعا بما يكفي، تقول هني «الرعاية لم تكن كاملة». واجه المنتخب، الذي اختار هني كابتن له، صعوبة في ايجاد فتيات لاعبات. بعضهن، وهن صديقات لهني، كن يرغبن باللعب لكن اعتراض الاهل الشديد حال دون ذلك، واخريات كن يتوقفن بمجرد الزواج. إثنتان من صديقات هني منعتا من قبل زوجيهما من لعب الكرة. لكن ليس كلهن، احدى صديقاتها فاجأتها عندما رفضت الارتباط بعد أن أخبرها خطيبها أنه لا يريدها أن تلعب الكرة، ففضلت الكرة على الزواج.

تدرك هني أنها تعيش في مجتمع تسميه بالذكوري او الابوي، ويرفض مساواة الرجل بالمراة، الا أنها تثق بأن تغييرا بدأ يطرأ على وعي مجتمعها. تعبر هني عن سعادتها بأن الناس اصبحوا ينظرون لها بفخر. وترى ان زيارة بلاتر الذي تصفه، برئيس دولة الفيفا، للاراضي الفلسطينية الاحد الماضي، ساهم في احداث فرق في نظرة المجتمع نحو الكرة النسائية. بعدما التقت هني بلاتر وتصورت الى جانبه، بدأ اولئك الذين كانوا يحثونها على ترك الكرة بتشجيعها على الاستمرار. تلقت مئات الرسائل من اصدقائها. قالوا لها «كنا نطلب منك ترك الكرة ونحكيلك مش راح تنفعك، بس واضح انها صارت تنفعك». علاقة هني بالكرة علاقة «حب». وتقول، كابتن المنتخب النسوي الفلسطيني، ان كرة القدم لعبة جماعية وذكية وتحتاج الى عقل وتكتيك. تحب هني المراوغة في الملعب لكن ليس في حياتها. وتصف اللعبة بانها لعبة عادلة، وتكرر دائما «جميل ان نلعب لعبة عادلة في ظل الاحتلال». وتعتبر ان هذا سيثبت للعالم ان الشعب الفلسطيني «مش ارهابي وبيحب الكرة ويحب الحياة».

الكرة بالنسبة لهني «لغة حوار بين الشعوب». وتقول انها «ثقافة بحد ذاتها» وهي «رسالة سلام». وبالنسبة لهني «فكل الشعوب تفهم لغة القدم، عندما نلعب اذن نحن نفهم لغة السلام». هذه القناعات تعززت عند هني بعد اختلاطها بفرق اخرى، اي شعوب وثقافات اخرى، وفي لبنان ومصر وفرنسا وتونس ودول اخرى تفاجأو من ان نساء من فلسطين يلعبن الكرة. بعض لاعبات المنتخبات العربية والاجنبية سألن هني «هل يوجد غيرك في فلسطين». كانت الفكرة التي يحملها البعض بان الفلسطينيات متظاهرات ضد الاحتلال وعنيفات. تفاخر هني بانها غيرت من فكرة الشعوب الاخرى «بعض هؤلاء لم يكن يسمع بفلسطين، فقط كانوا يعرفون اسرائيل. وكرة القدم النسائية عرفتهم بفلسطين». لم تكن لعبة الكرة لعبة مفضله عند هني فحسب، فقد نمت لديها مواهب غير رياضية ايضا عرّفتها على العالم وثقافاته. وتقول هني «ان الكرة طورت شخصيتي وزادتني قوة وعرفتني على حضارات اخرى ونمت لدي مواهب الحوار والنقاش».

تخطط هني لان تبقى في الملاعب فترة اطول. وان تقود المنتخب النسوي الفلسطيني نحو مواجهات كبيرة. وهي ترى ذلك ممكنا في ظل «النقلة الجذرية»، بعد تشكيل الاتحاد الجديد لكرة القدم في فلسطين. وتعول هني على ان يفي اللواء جبريل الرجوب، الذي تسلم رئاسة الاتحاد الفلسطيني قبل شهور بتعهداته. فقد اخبرهم غير مرة، انه سيعطي المرأه حقها في الرياضة بدون اي تفرقة وانه سيفرض وجودها في المجتمع. تلعب هني الآن في دوري نسوي اطلقه بلاتر بنفسه. ويهدف الدوري الى اعادة تشكيل المنتخب الفلسطيني وتطويره. وتشارك في الدوري 6 فرق من بيت لحم وبيت جالا ورام الله واريحا والقدس. وسيستمر 5 اسابيع. وتعتقد هني ان المنتخب الفلسطيني الذي تجري اعادة تشكيله من جديد سيصبح منافسا قويا يشار له. الا انها لا تخفي قلقها من «عقبة» قد لا يكون لها حل، انه الاحتلال. وقالت «الحواجز والاحتلال تشكل عائقا كبيرا». وفي بطولة العرب في الاسكندرية، ذات مرة، اضطرت لاعبات المنتخب الفلسطيني لان يتجمعن في مصر قبل اسبوع ويتلقين التدريبات بعد ان منع الاحتلال لاعبات غزة من الذهاب الى الضفة.

لا تكتفي هني بان تلعب الكرة، وهي تريد لكل النساء الراغبات بان يمارسن اللعبة. ذهبت الى بعض المدن التي فيها مجتمعات متشددة لتقنعهم بان يسمحوا للنساء بلعب كرة القدم. اخبروها ان هذا مستحيل، الا انها لم تيأس. قالت إن بعض البنات، من بعض التجمعات المتشددة، اتصلن بها، ويرغبن في لعب الكرة والانضمام للمنتخب الفلسطيني. وأضافت «في بنات كثير يعشقن الكرة لكنهن يخفن من المجتمع».

أول مباراة كرة قدم رسمية خاضتها هني كانت في عمان مع الفريق اللبناني في 2004. كانت مباراة لا تنسى بالنسبة لها. ومن الطريف ان هني تفضل مواجهة فريق من الشباب. اذ انها تشعر بروح التحدي اكثر وتسعى لان تثبت لهم انهم ليسوا افضل من النساء، وفعلا نجحت بذلك في اكثر من مناسبة ودية.

درست هني ادارة الاعمال في الجامعة، ثم انضمت لمؤسسة خطوات للتنمية الرياضية ومقرها لندن. وهي تعمل مسؤولة في الضفة الغربية عن منطقة الجنوب عن ملف الكرة النسائية. وتعمل المؤسسة على تقديم الرعاية لاندية رياضية للاطفال من سن 8 ـ 14 سنة، لكنها تشترط بان تشكل الفتيات نصف اي فريق رياضي ستقدم له الدعم.

وحين التقتها «الشرق الاوسط» كانت هني تستعد لحصة تدريب اخرى، لكن ليس في لعبة كرة القدم، بل ضمن جوقة تم تشكيلها حديثا في بيت لحم. اكتشفنا ان صوتها ايضا جميل. وتتخصص الجوقة في اداء تراتيل دينية واغان اخرى. لكن هني لم تحسم امرها فيما اذا كانت تود تطوير هذه الموهبة. قالت «الانسان لازم يحدد اهدافو في الحياة ويعرف شو بدو».

تفكر هني بان تلعب الكرة حتى سن الثلاثين. ولديها احلام اخرى. عينها على منصب رفيع تستطيع من خلاله تمثيل النساء الفلسطينيات، ربما وزيرة الشباب والرياضة، او سفيرة في الخارج. تفكر احيانا ان تشترك في برامج على غرار «سوبر ستار» و«ستار اكاديمي» لكن «هذا مش حلم، مجرد افكار». عملها اليوم يغطي احتياجاتها واسرتها، «خبزنا كفاف يومنا» كما تقول، وهي مقولة شهيرة للسيد المسيح عليه السلام. تدفع من جيبها الخاص على انشطتها الرياضية وتأمل ان تحصل على رعاية كاملة من الاتحاد.

كانت تطمح قبل ان تحترف الكرة بالسفر، اما اليوم فهي لا تحلم باكثر من لعب الكرة، الكرة غيرت من خططها وابقتها في فلسطين. تفرح كثيرا عندما يناديها الاخرون «كابتن هني». قالت «هذا يدل على وعي واحترام، بطلوا ينظروا للمسألة بسخرية». بدت مزهوة جدا عندما ناداها احدهم «كابتن هني».