المواطن.. «مش نافش ريشه»

بعد أن أعلنت «الفاو» أن إنفلونزا الطيور مرض متوطن في مصر.. ووصل سعر الدجاجة إلى نحو 5 دولارات

قلق في مصر بعد اعلان الفاو ان انفلونزا الطيور مرض متوطن («الشرق الأوسط»)
TT

اثنان لا يحبهما البعض إلا عند الحاجة.. المحامي والحلاق، خاصة إذا كان الثاني ثرثارا. لكن «جمال» الحلاق على غير عادته كان صامتا وعابسا أثناء تأدية وصلة حلاقة مسائية تخلو دائما من الإثارة، وكان يمكن بالطبع تفسير هذه الحالة في ضوء تعامله البهلواني مع «قفا استثنائي»، فضلا عن تجاربه اليومية المماثلة من شعر وذقن لكائنات مختلفة.. لكن المسكين لا يمكنه التبرم. ماذا عساه أن يفعل؟ لقمة العيش. لكن ما هي إلا لحظات، كانت طقطقة المقص اللامع في يده اليمنى تبدد صمت صالونه الصغير، حتى عاد لطبيعته التي يمكنها تجاوز صعوبات كل أقفية العالم معا قائلاً بأسى «بالأمس طلبت زوجتي مني شراء دجاجة مشوية من أحد المطاعم القريبة، وهناك فوجئت أن سعرها وصل إلى 26 جنيهاً مرة واحدة (خمسة دولارات تقريبا) دجاجة مشوية بـ26 جنيهاً.. ليه؟ اضطررت لأن اتصل بزوجتي وأطلب منها أن تعد بعض المكرونة كي تصاحب الدجاجة على المائدة للستر والتغطية على الفضيحة المنتظرة.. عائلة من 4 أفراد تأكل دجاجة وزنها أقل من كيلوغرام.. رحمتك يا رب».

قصة المصريين مع الدواجن تبدو مريرة منذ وصول إنفلونزا الطيور قبل عامين تقريبا. تحولت قصة الفيروس في تلك المدة القصيرة في حياتهم إلى فصول حزينة، جعلت أحد زبائن «جمال» المنتظرين بملل يردد هذه العبارة التي بدت لازمة مع كل كارثة شهدتها مصر في الأعوام الأخيرة: «هيه المشرحة ناقصة قتلى!».

الرؤية الشعبية لغزو الفيروس متساهلة ومتشككة في البداية، بل ساخرة أحيانا من التحذيرات الرسمية عن خطورة المرض، رغم تأكيدات وصوله عبر أسراب الطيور المهاجرة التي تعتبر مصر محطة رئيسية في رحلاتها الطويلة، فضلا عن قيام 27 في المائة من الأسر المصرية بتربية الدواجن في منازلها، منها حوالي 85 في المائة في الريف والباقي في المدن، بما يمثل حوالي 60 في المائة من الثروة الداجنة في مصر، حيث تعتمد هذه الأسر اعتمادا كليا على تربية الطيور بغرض الاستهلاك الذاتي كمصدر رئيسي للبروتين الحيواني والحصول على دخل إضافي، بينما تمثل الأسر الغنية التي تقوم بتربية الطيور نسبة قليلة، وعليه فإن أكثر المتضررين من المرض هم فقراء مصر بحسب دراسة لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.

صاحب الحضور المخيف للمرض كثير من التهكم والسخرية كعادة المصريين في مواجهة الواقع المرير، فتوالت النكات والقفشات التي جعلت من إنفلونزا الطيور مصدرا جديدا للضحك والتندر، ربما في محاولة للتخفيف من الضغوط النفسية والاجتماعية التي صاحبت الظهور المفاجئ والمميت للمرض، ولم يكن من الغريب أن تستيقظ في الصباح لتجد رسالة على جهاز تليفونك المحمول تحذرك من الاستماع لأغنية «الطير المسافر» للمطربة نجاة، أو مشاهدة فيلم «عصفور من الشرق» أو فيلم «السمان والخريف»، وضرورة مقاطعة أفلام الفنانة فاتن «حمامة»، وخاصة فيلم دعاء «الكروان»، وضرورة محاصرة ظاهرة الزواج «العرفي» نسبة إلى عرف الديك. كما بدت الشائعات الطريفة حول قيام محافظة القاهرة بإغلاق كوبري «أبو الريش» بوسط المدينة، ومنطقة «النعام» بشرق القاهرة واعتبارهما منطقتين غير آمنتين، والمطالبة بألا يسير أي مواطن «نافش ريشه»، وهي كناية عن التكبر والعجب بالنفس في العامية المصرية. فضلا عن ضرورة إلغاء مركزي «الجناح» الأيمن و«الجناح» الأيسر في تشكيلة لاعبي فريق كرة القدم لخطورة الوضع، والاكتفاء بلاعبي الوسط والهجوم. وكان للنساء بالطبع نصيب من الفكاهة الفيروسية هذه، حيث عبر البعض من خشيته من أن تكون النساء هن الشريحة الأكثر عرضة للمرض لأنهن« مكسورات الجناح». غير أن الواقع تكشف سريعا عن مأساة عاشها الشارع المصري بكل طبقاته منذ سقوط أول ضحية للفيروس، وكانت النساء بالفعل الأكثر عرضة للمرض، لكن ليس للأسباب سالفة الذكر، بل لأنهن من يقمن بتربية الطيور المنزلية في ريف مصر وصعيدها. آمال محمد إسماعيل.. امرأة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، من إحدى قرى محافظة القليوبية، كانت تقوم بتربية طيور في منزلها بقرية «نوى»، نفق منها عدد من الدجاج في عشرة أيام، قامت على الفور بذبح باقي الطيور ونظفتها بنفسها، إلا أنها سرعان ما أصيبت بضيق في النفس، وذهبت إلى مستشفى محلي قام بنقلها على الفور إلى مستشفى العباسية المتخصص، في ظل ارتفاع حرارتها وإصابتها بالتهاب رئوي حاد، وسرعان ما فارقت الحياة 18 مارس (آذار) 2006.

في منطقة المهندسين الراقية كان محل دواجن «سوق العصر» يشهد يوم الجمعة من كل أسبوع كرنفالا احتفاليا كبيرا بوجود عشرات الأقفاص الممتلئة بالأنواع المختلفة من الدجاج والبط والأوز والحمام تتصايح وسط زحام اعتيادي من الزبائن وسط إقبال غير عادي، وعشرات العمال الذين لا يتوقفون عن العمل طيلة اليوم، لكن تأتي الرياح بما لا يشتهي سوق العصر والأيام دول، حيث انفض الكرنفال سريعا بعد قيام الجهات المسؤولة بإغلاق عشرات محلات ومزارع الدواجن من أجل محاصرة المرض، وكانت النتيجة تشريد مئات الآلاف من العمال وانهيار سريع لتجارة كان يعتمد على مدخولها ما يقرب من مليوني مصري يمثلون عمال المهنة وأسرهم، حيث قام العديد منهم بتظاهرات وصلت إلى ساحة البرلمان احتجاجا على قرار الحكومة بإغلاق محلاتهم، وحظر نقل الدواجن بين المحافظات. وسرعان ما قام صاحب دكان «سوق العصر» بتغيير نشاطه، حيث تحول المحل الكبير الذي كان المورد الرئيسي للبروتين المنطقة إلى مجرد مغسلة ملابس. وفي نهار شتوي كئيب جاء الخطاط ومسح كلمة «دواجن» من اللافتة الفخمة ليضع مكانها كلمة «مغسلة» فقط، وسط عملية محمومة لإخلاء المكان من الأقفاص في انتظار ماكينات الغسيل الضخمة. بعض التكهنات رافقت عملية التغيير هذه، حيث قال البعض أن صاحب الدكان لم يسع إلى تغيير اسم محله «سوق العصر» توفيرا للنفقات وسط خسائر فادحة طالته، بينما قال آخرون أنه رفض تغيير اسم محله، باعتبار أن «العصر» في نهاية المطاف هو أحد مراحل الغسيل. أما عن أسعار الدواجن فقد أصابها الجنون التام وسط ارتفاع وانخفاض فجائي يشبه حال البورصات العالمية هذه الأيام. فقبل الأزمة لم يكن سعر الدجاجة الكبيرة يتجاوز 15 جنيها، باعتبار أن سعر الكيلوغرام لم يكن يتعدى 6 جنيهات (دولارا واحدا) تقريبا. لكن مع الخوف من العدوى انخفض سعر الكيلوغرام إلى ثلاثة جنيهات فقط حتى تمنى بعض المواطنين أن تكون هناك إنفلونزا للحوم الأبقار أيضا حتى تنخفض أسعارها. غير أن هذا الانخفاض المفاجئ أعقبه ارتفاع في الأسعار لقلة المعروض حتى بلغ متوسط الكيلوغرام 12 جنيها في النصف الثاني من عام 2006، ثم انخفض مرة أخرى في مارس (آذار) 2007 ليصل إلى 10.5 جنيه، حتى استقر منذ مطلع العام الحالي عند 14 جنيها للكيلوغرام، فيما وصل سعر كيلوغرام البط إلى 21 جنيها، وبات من المعقول جدا أو من المدهش في نظر الكثيرين شراء بطة بمبلغ 100 جنيه حال تخطي وزنها أربعة كيلوغرامات بعد أن كانت واحدة بهذا الحجم لا يتعدى سعرها 60 جنيها على أكثر تقدير، بينما ارتفع سعر الحمام أيضا بنسبة 40 في المائة. الطريف أن قطط الشوارع في القاهرة كانت إحدى أسرع الضحايا لكارثة إنفلونزا الطيور، حيث بدت هذه القطط وما زالت تعاني هزالا واضحا، بعدما فقدت جانبا كبيرا من حصة عظام الدواجن التي كانت تجدها في قمامة الأسر القاهرية، التي انخفض حجم استهلاكها للدواجن سواء بدافع الخوف أو ارتفاع الأسعار، بعد أن أوضح 59 في المائة من المصريين أن استهلاكهم للطيور قد تغير بفعل الأزمة، بحسب استطلاع للرأي أجراه مركز استطلاع الرأي العام التابع لمجلس الوزراء (أبريل2008).

مجيء إنفلونزا الطيور إلى مصر أحدث صدمة على كافة المستويات، وأدت لانهيار صناعة الدواجن تماما في مطلع عام 2006. وبعد أن كانت مصر إحدى الدول المصدرة للدواجن في عام 2004 بحوالي 8 ملايين دولار سنويا، تحولت إلى مستورد خالص في عام 2006 لها بتكلفة قدرها 17 مليون دولار سنويا، وبانخفاض صادرات وصل إلى 96 في المائة بحسب تقرير صادر عن مجلس الوزراء. وجرى في ذات السياق إعدام ما يقرب من 27 مليون طائر منذ بداية الأزمة حتى الشهر الماضي بخسائر تقارب 150 مليون دولار وفقا لتقرير اللجنة القومية لمكافحة مرض إنفلونزا الطيور، إلا أن الخسائر البشرية كانت أفدح بكثير حيث بلغت حالات الإصابة بالفيروس 50 إصابة بشرية منذ فبراير 2006، منها 28 حالة شفاء و22 حالة وفاة حتى شهر ابريل الماضي، بينما وصل عدد الحالات المشتبه في إصابتها بالمرض منذ ظهوره في مصر حتى الآن 5527 حالة، جاءت جميعها سلبية فيما عدا الخمسين حالة إصابة بحسب مصادر في وزارة الصحة. وشهد الأسبوع المنصرم وقفات مهمة في مسيرة إنفلونزا الطيور في مصر، والتي تبدو أنها ستطول أكثر من المأمول، وذلك بعد أن أعلنت منظمة «الفاو» إنفلونزا الطيور مرضا متوطنا في مصر، ويسبب فيها إصابات بصفة «شبه منتظمة» طوال العام. وزير الصحة حاتم الجبلي من جانبه وعلى هامش المؤتمر الدولي السادس عن إنفلونزا الطيور الذي شهدته مدينة شرم الشيخ المصرية مطلع الأسبوع الفائت بمشاركة ممثلين عن نحو 124 دولة، وبحضور 52 وزير صحة وممثلين عن 26 منظمة دولية وإقليمية ووكالة متخصصة، أعلن عن تخوفه من إمكانية حدوث تحور في الفيروس وانتقاله من إنسان إلى إنسان في ظل ضعف الإنتاج العالمي من اللقاحات، مبررا ذلك بضعف الإنتاج العالمي، حيث أفاد أن هذا الإنتاج العالمي من اللقاحات لا يكفي سوى 5 في المائة من الاحتياجات الفعلية من اللقاحات البيطرية للدول.

وفي السياق نفسه كشفت وزارة الصحة المصرية أخيراً عن خطة «غير معلنة» تحسبا لتحول الفيروس إلى وباء في مصر، الخطة الموجودة الآن في مركز إدارة الأزمات، ولدى كل محافظ من محافظات الجمهورية نسخة منها.

وبذلت وزارة الصحة جهودا كبيرة للتوعية الإعلامية بخطورة المرض، إذ قامت بتوزيع ملايين من مواد الدعاية المكتوبة، كما قامت 13 ألف رائدة ريفية بتوعية وزيارة أكثر من 10 ملايين منزل خلال عام 2008، وتم تدريب الأطباء وهيئات التمريض على رعاية المرضى بالمستشفيات، مما كان له الأثر الكبير في إنقاذ حياة العديد ممن تعرضوا للإصابة بالمرض، حيث تم إنقاذ 20 طفلا تحت سن 10 سنوات وتم شفاؤهم جميعا. وكان للمطرب شعبان عبد الرحيم نصيب في التنبيه بلغة سهلة وبسيطة يفهما كل الناس وبمصاحبة لحنه ولزماته الشهيرة..«اغسل إيديك ولبسك بالمية والصابون..واغلي الفراخ كويس خليك في المضمون.. طيورك لو تبان لك غلبانة وطيبة.. لكن شايلة في ريشها العدوي المرعبة». الوضع الحالي الذي أصبح يتميز باستقرار نسبي رغم ارتفاع الأسعار والصعوبات التي تعتري صناعة الدواجن، عبر عنه محسن مهنا، أحد بائعي الدواجن في القاهرة، حينما قال والابتسامة تعلو شفتيه «الحمد لله كنا فين وبقينا فين، الوضع من سنتين كان مصيبة، لكن الآن فيه انتعاش، الطلب على الدواجن يزيد، والطيور الحية ممنوعة، أذهب في الصباح إلى مجزر الدواجن القريب لشراء الدواجن الطازجة، وأعود لبيعها في الدكان.. شعبة الدواجن بالغرفة التجارية وقفت بجانبنا طوال الأزمة.. أعطت كل تاجر 1000 جنيه تعويضا.. أتمنى أن يعود الوضع إلى السابق قريبا».

أما حسن عبد ربه (موظف) فيقر أن استهلاكه للدجاج قل عن السابق، فبعد أن كان يشتري كل يوم جمعة ثلاث دجاجات كي يشويها وأولاده الثلاثة في شرفة منزله في جو احتفالي عائلي يسعد به الأطفال كثيرا، أصبح الآن يكتفي بشراء دجاجتين كل أسبوعين تقريبا، معتبرا أن ارتفاع الأسعار أدى لإحجامه عن شراء الكمية التي كان يشتريها في السابق، لكنه يتذرع لأولاده في تقليله لتلك الكمية بخطورة إنفلونزا الطيور وتأثيرها الضار. عبد ربه تأثر تماما بالحملات الإعلامية التي بثتها وزارة الصحة طوال الفترة السابقة حيث أصبح حريصا على الذهاب إلى السوق وملاحظة الدجاج في الأقفاص أولا قبل الشراء قائلا «أنظر إلى القفص جيدا.. أتفحص الدجاجة النشيطة، أما التي يبدو عليها المرض لا آخذها حتى ولو مجانا».

ويقول د. عبد العزيز السيد، رئيس شعبة الثروة الداجنة بالغرفة التجارية بالقاهرة، إن صناعة الدواجن رغم كل ما حدث قوية ومنتظمة، وإن المشكلة الآن في الأساس تعود إلى جشع المنتجين الذين رفعوا سعر الكتكوت إلى 5.5 جنيه فيما سعره الحقيقي أقل بكثير، مما استلزم فتح باب استيراد الكتاكيت من دول غير موبوءة. ويضيف السيد أن هذه الخطوة إضافة إلى انخفاض أسعار الأعلاف، مع عدم حدوث أي تقلبات في البورصة العالمية للدواجن، ستؤدي إلى انخفاض أسعار الدواجن بنسبة 50 في المائة خلال دورتين انتاجيتين فقط.

ويوضح عبد العزيز أن الإجراءات الأمنية في كمائن الشرطة على الطرق تصيب صناعة الدواجن في مقتل، بسبب استمرار مصادرة سيارات كاملة محملة بالدواجن من المجازر، رغم وجود تصاريح من وزارة الصحة، مطالبا بوجود طبيب بيطري للاطلاع على هذه الأوراق، بدلا من رجال الشرطة الذين يصادرون السيارة بما فيها، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع التكلفة، ومن ثم رفع الأسعار على المستهلك، لكنه يعتقد في النهاية أن مستقبل الدواجن في مصر واعد رغم خطورة إنفلونزا الطيور. وبسبب كثرة كمائن الشرطة على الطرق المصرية ومصادرة حمولات من الدواجن، انتشرت نكتة تقول: خرج تاجر بسيارة محملة بالدواجن لبيعها في القاهرة، لكنه اصطدم بكمين للشرطة في أول الطريق، أستحسن الضابط الدجاج وسأل التاجر ماذا يأكل هذا الدجاج؟ فرد التاجر: أتركهم في الصباح يأكلون من قمامة الأرض. غضب الضابط وقال: هي الناس ناقصة مرض.. غرامة مائة جنيه. سار التاجر إلى أن صادفه كمين آخر، وسأل الضابط أيضا نفس السؤال عن طعام الدجاج؟ فرد التاجر انه يطعمهم بسكويت، فقال الضابط: الناس لا تجد رغيف الخبز وأنت تطعمهم بسكويت؟.. غرامة مائة جنيه. وقبل مدخل القاهرة صادفه كمين ثالث، وتكرر السؤال نفسه: ماذا تطعم هذه الدجاجات؟ فرد التاجر بهدوء: أنا يا باشا أعطي كل دجاجة في الصباح جنيهاً، وهي تشتري ما ترغب في تناوله من طعام.