الرواية.. التي أخافت الهند

53 مليارديرا هنديا على قائمة فوربس للأغنياء.. و400 مليون يعيشون على دولار أو أقل في اليوم

رواية «النمر الأبيض» كشفت عن عمق الفجوة الطبقية في الهند («الشرق الأوسط»)
TT

في رواية «النمر الأبيض»، التي كتبها الكاتب الهندي أرافيند أديغا، وحصل بها على جائزة «مان بوكر» الادبية لعام 2008، يروي بطل الرواية واسمه بالرام هالواي قصته، التي هى أيضا قصة الفجوة بين الفقراء والاغنياء في الهند اليوم، الفجوة التي تحول بالرام الى شخص تسيطر عليه تدريجيا فكرة قتل السيد الذي يعمل لديه كي يحتل مكانه ويصبح هو صاحب العمل. يقدم لنا المؤلف قصة بالرام من خلال سبع رسائل إلى رئيس الوزراء الصيني، الذي قرر بالرام أنه يجب إطلاعه على حقيقة الهند قبل أن يقوم بزيارة وشيكة إليها.

في البداية يقدم بطل الرواية بالرام نفسه صاحب عمل في منطقة بانغالور، ويعترف بأنه قتل سيده أشوك، وبأسلوب بارع ومميز، تروي «النمر الأبيض» تفاصيل حياة بالرام السابقة، فبالرام هالواي هو «النمر الأبيض»، أذكى صبي في قريته. ولكن أسرته فقيرة جدا، فلا تتمكن من تحمل نفقات إكمال تعليمه، ويصبح عليه أن يعمل في مطعم صغير في تكسير الفحم ومسح الطاولات. ولكن تجيء الفرصة إلى بالرام عندما يختاره رجل ثري سائقا لديه، ويأخذه ليعيش في نيودلهي. فتتفتح عيناه على مدينة نيودلهي، وعلى وجه التحديد في ضاحية غورغاون الساحرة، ويبدأ استيعابه التدريجي للفرق بين الأغنياء والفقراء في الهند، خاصة أن سيده يعيش في منزل فاخر مكيف فيه خدم اخرون، وهو متزوج من فتاة عصرية مدللة مولودة في الولايات المتحدة.

وبينما يأخذ السائق بالرام سيده إلى المراكز التجارية والاماكن الفخمة، تزداد معرفته بالثراء الفاحش. ويتعجب من سرعة الحياة في المدينة الكبيرة؛ ويصاحب سائقين آخرين ويتعرف على مجلتهم الرخيصة المفضلة، وجريمة القتل الأسبوعية؛ ويشاهد ما يفعله سيده أشوك خلال عقده صفقات مع وزراء وأعضاء في الحكومة فاسدين.

يشعر بالرام أن ملايين الأشخاص في الهند لا يتميزون بشيء عن الطيور الموضوعة في الاقفاص، فهي تعرف مصيرها ومستسلمة له. وبينما يشعر بالرام بالأسى لحاله، يصل إلى أن هناك طريقا واحدا فقط أمامه ليتمكن من أن يصبح جزءا من هذه الهند الجديدة الساحرة، وهو قتل سيده. تعرض «النمر الأبيض» صورة صارخة غير رومانسية للهند، وهي صورة مخيفة وصادمة، من القرى اليائسة التي لا تخضع للقانون إلى القوة الجديدة التي تسيطر على المال والنفوذ. ففي الهند اليوم يوجد أسرع معدل زيادة في أعداد أصحاب الملايين في العالم. فقد ورد على قائمة فوربس لعام 2008 لأثرياء العالم 53 مليارديرا هنديا، وهو أعلى رقم في آسيا. وتتوقع مجلة «فوربس» أنه في غضون 10 سنوات، سيكون عدد المليارديرات في الهند أكبر من أية دولة أخرى في العالم.

وفيما يدور الحديث عن الهند الجديدة الساحرة، التي بلغ معدل النمو فيها 8 في المائة، وأصحاب الملايين والمتاجر التي تنافس متاجر لندن ونيويورك وموسكو، تطفو صور اخرين لا ينالون من مزايا الطفرة الاقتصادية اي شيء تقريبا. هؤلاء المهمشون والمستبعدون ليسوا اقلية بل هم بالملايين، 400 مليون شخص يعيشون على دخل يومي يبلغ دولارا أو أقل. هؤلاء يمثلون «الهند الحقيقية» التي جسدتها شخصية بالرام هالواي بطل رواية «النمر الابيض». كلتا الهندين موجودتان جنبا الى جنب. الأمر المثير للاهتمام في وجود جانبين للهند، او الهند الناجحة والهند المظلمة، هو محاولة الأفراد القفز من جانب إلى آخر. ففقراء الحضر هم مهاجرون من فقراء الريف. وهؤلاء الذين جاءوا من القرى ليسوا بمزارعين أو عمال، ولكنهم بين هذا وذاك من خدم المنازل والعمالة اليدوية. وبسبب هذا أصبح وكأن هناك كوكبين، لكل منهما أسلوب حياة مختلف، ومستويات معيشة مختلفة، ودرجات مختلفة من التوتر. فتحقيق الرفاهية له ثمن إلى حد ما. وقد نتج عن النمو الاقتصادي ظهور طبقة جديدة طامحة تريد أن تحقق طموحاتها وأهدافها بالانضمام إلى الأثرياء بأي ثمن. فيتحدى الشباب التقاليد العريقة، ويقف كبار السن عاجزين أمام التغييرات التي مزقت النسيج الاجتماعي، الذي تشكل على مدار قرون عديدة، ويزداد تطرق الصراع الدائر بين القديم والجديد، والغني والفقير إلى كل ما كان يعتقده الكثيرون أمورا مسلما بها لمدة طويلة.

ويقول مؤلف الرواية، وهو اصلا صحافي يبلغ من العمر 33 عاما، في حوار مع وسائل اعلام هندية بعد الجائزة: «يولد نوع جديد من الاستياء في الهند كما شعرت، من خلال تنقلي في البلاد عندما كنت أكتب لمجلة «تايم». يركز الإعلام الهندي على تقسيمات محددة في البلاد، مثل الفصل الديني بين الهندوس والمسلمين، أو تقسيم الطوائف الاجتماعية. ولكن هناك نوعا جديدا من الانقسام الجديد البدائي جدا وهو تقسيم الطبقات بين الأثرياء والفقراء. ويجب أن نعترف بهذه المشكلة ونحاول حلها، حيث يبدو الفقراء في الهند أكثر عبوسا وهزالا». يضيف أديغا: «لم أستعرض حياة الفقراء في الهند في هذه الرواية. فهم غير مرئيين، أو عرضوا من خلال شخصيات نمطية.. يوجد أمر فريد في الهند وهو كثرة الخدم. فيمكن أن يكون لدى شخص من الطبقة الوسطى ثلاثة أو أربعة خدم. أردت أن أكتب قصة خادم يفعل شيئا مختلفا.. لم تكن تجربة الكتابة مريحة فأنا أمثل، إلى نحو ما، جزءا مما أكتب عنه. فأنا من الطبقة الوسطى، لذا مشاعري متفرقة، فأنا جزء من الشيء الذي أهاجمه».

وفي رسائله إلى رئيس الوزراء الصيني، يتحدث بطل الرواية بالرام عن الخدم في نيودلهي، الذي يعيشون في أدوار سفلية حقيرة تحت بنايات من الشقق ذات الواجهات الزجاجية التي يسكن فيها أرباب أعمالهم. ويخبر رئيس الوزراء الصيني عن تقديم أسرة أشوك رشوة لوزراء الحكومة، وعن تزوير الانتخابات القومية. وعلى الرغم من أن السيد أشوك دائما ما يعرب عن شعوره بالذنب حيال معاملته لبالرام، الا أن حديثه اللطيف لا يخرج إلى نطاق الأفعال. وتوضح فقرة من الرواية هذا الأمر على نحو معبر جدا كما جاء على لسان السيد أشوك: «حياة الفقراء مختلفة تماما.. اذهب إلى دلهي القديمة وانظر إلى الطريقة التي يحتفظون بها بالدجاج في السوق. مئات من الدجاجات الشاحبة والديوك ذات الألوان الزاهية مكدسة في أقفاص من الأسلاك. يرون أعضاء بني جنسهم ملقاة من حولهم. وهم يعرفون أن الدور سيأتي عليهم، ولكنهم لا يستطيعون إعلان تمردهم. لا يحاولون الخروج من القفص. الشيء ذاته يحدث مع البشر في هذا البلد».

وتظهر المسافة التي تفصل بين الطبقات في الهند بوضوح شديد عندما يواجه بطل الرواية بالرام هالواي «صدمة ذهنية» لدى زيارته المركز التجاري، وهو المكان الذي يدخله الأغنياء بإرادتهم، ليجلب أمامنا حقيقة «أنه قريب جدا.. ولكنه بعيد جدا»، فهو، بالرام، في المركز التجاري الفخم، لكنه لا يستطيع ان يشتري شيئا، لم يتغير وضعه، لم يصبح مواطنا، بل ما زال مجرد خادم. في النهاية، بعد أن «يعلم بالرام ذاته»، يحاول التغلب على صدمة دخول المركز التجاري بتقليد سيده، حيث يدخل بالرام المركز التجاري مرتديا قميصا أبيض مكتوبا عليه حرف صغير باللغة الإنجليزية، بدلا من زيه التقليدي أو الزي الملون الذي ترتديه طبقة الخدم عادة.

سواء صعد بالرام الى طبقة اجتماعية ارقى ام لا، تظل هناك حقيقة وجود انقسام اقتصادي ـ اجتماعي في الهند. يمكن رؤية هذه الحقيقة متجسدة في المدن الكبرى والمدن الصغيرة وحتى البلدات الصغيرة. ويقول عالم الاجتماع الهندي أنيل ماثور: «يجب أن يشمل النمو الجميع. ولكن في الهند الأمر خلاف ذلك. فما زال هناك الملايين من الفقراء في قاع الدورة الاقتصادية، بينما يعيش آخرون في رخاء في صورة تسبب الحقد الذي أحيانا ما يتحول إلى العنف. ومع الانفتاح الذي تشهده الهند، يريد المزيد من السكان نصيبا من الرخاء. وفي دولة ديمقراطية مثل الهند، التي تشهد فوضى واضطرابات سياسية حتى على بعض الأمور البسيطة، يجب عدم إغفال طموحات سكان تُركوا في السباق».

«النمر الأبيض» رواية يمكنها أن تخترق على نحو غير مريح ضمير أي شخص يفكر ولو لمرة واحدة في أن فاتورة تناوله إحدى وجباته في أحد المطاعم تصل إلى نصف مرتب خادمه الشهري. لقد جعل أديغا الكثيرين في الهند يفكرون في هذه الأشياء، بالإضافة إلى صور الهند المتعددة والطموحات والإحباطات التي تمثلها. فهذه الرواية تلقي نظرة مريرة ليس فقط على الفجوة المخيفة التي تفصل بين طبقة الأغنياء الجديدة وطبقة الفقراء المتدنية في الهند، ولكن على أنماط السلوك غير المتوقعة والمخيفة والمفاجئة، التي يمكن ان تنتج عن الفجوة الطبقية. فبالرام ليس قاتلا بالفطرة، بل اضطر للقتل، وهى نتيجة أخافت الكثير من الهنود الذين لا يريدون ان تتحول الفجوة الاقتصادية والاجتماعية الى عامل للاشتعال والمواجهات. هذا اخر شيء تحتاجه الهند لانه لن يحل شيئا. لن يساعد بالرام.. ولن يعيد أشوك للحياة.