مدارس.. على قارعة الطريق

أدت الأزمة في غزة إلى انتشار كرافانات باردة يتكدس فيها التلاميذ في أجواء ليست الأفضل للتعليم

أطفال فلسطينيون يدرسون في إحدى مدارس الكرافانات في غزة («الشرق الأوسط»)
TT

الذي يزور مدرسة الإعدادية «ب»، في مخيم «النصيرات» وسط قطاع غزة، فإن أول ما تقع عينه عليه هو البيوت المتنقلة التي تنتظم بجوار بعضها البعض في صفوف متوازية. الكثير من المدارس الإعدادية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأنروا» أصبحت تعتمد على هذه البيوت لمواجهة مشكلة الزيادة المضطربة في عدد الطلاب الذين ينضمون سنوياً لسك التعليم. هذه البيوت المدهونة باللون الابيض تنتصب في المنطقة المخصصة للعب في المدرسة، وهي عادة ما تستخدم كصفوف لطلاب الصف الثالث الإعدادي وهو أعلى صف في هذه المرحلة. لكن من خلال شهادات الطلاب، فإن هذه البيوت أبعد ما تكون عن توفير البيئة الدراسية. مصطفى الطالب في الصف الثالث الإعدادي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ان ظروف الدراسة فيها قاسية، حيث أن هذه الغرف باردة شتاء وحارة صيفاً».

ولاحظت «الشرق الأوسط»: أن الطلاب الذين يدرسون في الغرف المتنقلة يرتدون ملابس شتوية أثقل من زملائهم الذين يدرسون في الصفوف العادية. أحمد أحد الطلاب الذين يدرسون في هذه البيوت يقول إنه يرتدي ملابس شتوية ثقيلة بفعل البرد الذي يشعر به خلال تواجده في هذه الغرف. اما زميله كرم فقال لـ«الشرق الاوسط»: أنه يشعر كما لو انه في «اصطبل خيول وليس في صف مدرسي»، منوهاً الى أنه بخلاف الصفوف العادية فإن الذباب ينتشر في هذه الصفوف، فضلاً عن أنها ضيقة ولا تتيح للطلاب بحرية الحركة مقارنة مع الصفوف العادية، الى جانب أن التهوية فيها رديئة. جمال أحد الطلاب الذين كانت له تجربة مع هذه الصفوف قال لـ«الشرق الاوسط» إنه كان يتمنى بفارغ الصبر انتهاء العام الدراسي لكي يتخلص من الدراسة فيها بفعل قسوة ظروفها.

الدكتور محمود الحمضيات مدير برنامج التعليم في «الأنروا» قال لـ«الشرق الأوسط» إن القرار بالاستعاضة بالبيوت المتنقلة عن إقامة مدارس جديدة جاء بعدما أجرت «الأنروا» امتحاناً موحداً للطلاب في مدارسها، حيث تبين من خلال نتائج هذا الامتحان بشكل واضح تدني مستوى الطلاب وتحديداً في المدارس الإعدادية الخاصة بالذكور، فتقرر إثر ذلك وضع سياسة شاملة لمعالجة هذه المشكلة تعتمد عدة آليات، أحدها تخفيف الاكتظاظ في داخل الصفوف في مدارس الذكور بحيث ينخفض عدد الطلاب من 45 في الصف الواحد إلى 30 طالب. وأشار الى أن الخطوة الطبيعية لتحقيق هذا الهدف كانت تتمثل في تشييد المزيد من المدارس لمواجهة العجز في عدد الصفوف، وبالفعل فقد تم تخصيص موازنات لهذا الغرض وأنهى قسم الهندسة في الانروا كل التصميمات الهندسية الخاصة استعداداً للشروع في بناء المزيد من المدارس، منوهاً إلى أن هناك حاجة لبناء 20 مدرسة جديدة. واستدرك قائلاً إنه بفعل الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة وعدم توفر مواد البناء اللازمة لتشييد هذه المدارس، فقد تقرر التوجه لحلول عملية أخرى، حيث بحثت «الأنروا» امكانية استئجار مبان خاصة لتحويلها الى مدارس لتكون بديلا مؤقتا عن اقامة مدارس جديدة، لكن تبين أن المباني المتوفرة لا تفي بالحد الأدنى من الظروف الواجب توفرها في الفصل الدراسي. ونوه الحمضيات الى أن «الأنروا توصلت لاتفاق مع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية يقضي بتحويل المدارس الحكومية التي تعتمد على الفترة الصباحية في تدريسها الى مدارس لـ«الأنروا» في الفترة المسائية، الى جانب الاستعانة ببيوت متنقلة يتم وضعها في داخل المدارس القائمة لكي تتحول الى صفوف، مشيراً الى أنه تم وضع هذه البيوت في ساحات المدارس. واكد الحمضيات أنه تبعاً للخطة الجديدة فقد تم اعتماد التدريس في الفترة المسائية في أكثر من 88% من المدارس. ونوه الحمضيات الى أن المشكلة تتفاقم بسبب اتجاه المزيد من الطلاب الذين يدرسون في المدارس الحكومية للدارسة في المدارس» الأنروا» وذلك بفعل الظروف الاقتصادية، على اعتبار أن الدراسة في هذه المدارس مجاناً بخلاف الاوضاع في المدارس الحكومية التي تفرض رسوماً على الطلاب، مشيراً الى أن 2600 طالب من المدارس الحكومية تحولوا هذا العام للدراسة في مدارس «الانروا».

ويؤكد الحمضيات أن البيوت المتنقلة لا توفر البيئة الدراسية المطلوبة كما توفرها الصفوف العادية، لكنه يشدد في المقابل على أن الاستعانة بالبيوت المتنقلة هو حل مؤقت الى حين تتغير الظروف ويرفع الحصار بحيث يتم إدخال مواد البناء اللازمة لتشييد العدد المطلوب من المدارس، مشيراً الى أنه لم يتم وضع هذه البيوت إلا بعد التنسيق مع أولياء الأمور والمجتمع المحلي.

إياد عقل نائب رئيس نقابة المعلمين الفلسطينيين يؤيد ما قاله رئيس برنامج التعليم في «الأنروا» من أن الاستعانة بالبيوت المتنقلة هو ضرورة يمليها الواقع، لكنه في المقابل أشار في حديث لـ«الشرق الاوسط» الى بعض السلبيات الناجمة عن استخدام هذه البيوت، حيث أن هذه البيوت تكون شديدة البرد شتاء وحارة صيفاً، الى جانب حقيقة أن هذه الغرف تتميز بأنها تولد صدى، وهذا ما يؤثر على قدرة الطلاب على التركيز اثناء الدروس، ناهيك عن أنها مقامة على ساحات المدارس، الأمر الذي يعني تقليص المساحات المخصصة للعب بالنسبة للطلاب.

لكن الاضطرار للبيوت المتنقلة كبديل من الصفوف العادية ليس المظهر الوحيد من مظاهر تأثير اشتداد الحصار على قطاع التعليم. فكما يقول الدكتور الحمضيات فقد منع الحصار الأنروا من إقامة كلية تدريب للمعلمين وتأهيلهم تربوياً، وهو ما جعل الانروا تتجاوز هذه المعضلة عبر اقامة مراكز تدريب في كل منطقة من مناطق القطاع المختلفة.

في نفس الوقت فقد أثر الحصار على توفر الكتب المدرسية، وكما يقول الحمضيات فإن هناك 104 عناوين لكتاب، مؤكداً أن دخول هذه الكتب استغرق وقتاً طويلاً، مشيراً في الوقت ذاته الى أنه حتى الآن لم يتم إدخال أحد هذه الكتب. ويشير الى أنه بفعل الحصار فأن المطابع في قطاع غزة لا تعمل بشكل طبيعي لعدم توفر الورق اللازم لعملها وبقية المواد الأخرى. وينوه الى السوق المحلية لا توفر المتطلبات الاساسية والكثير من اللاوازم التي تتطلبها العملية التعليمية.

التعليم والأوضاع الاقتصادية: في قطاع غزة هناك نظاما تعليم منفصلان، وهما النظام التعليمي التابع لوكالة الغوث والنظام التعليمي للحكومة الفلسطينية. وقد تأثر الطلاب الذين يدرسون في النظامين بشكل كبير بتدهور الأوضاع الاقتصادية والتي تفاقمت مع استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة، لكن وطأة الأوضاع الاقتصادية على الطلاب في المدارس الحكومة أكثر قسوة، حيث أن التعليم في مدارس الوكالة مجاناً فضلاً عن أن «الانروا» قامت خلال هذا العام بتوزيع القرطاسية على الطلب من أجل التخفيف من حدة التأثر بالضائقة الاقتصادية الى جانب توزيع مبالغ نقدية على الطلاب، لكن في المقابل فإن المدارس الحكومية التي تستقبل حوالي 60% من الطلاب لا تقدم مثل هذه الخدمات.

غسان إبراهيم أحد المدرسين في إحدى المدارس في المنطقة الوسطى من القطاع قال لـ«الشرق الاوسط» أنه كثيراً ما يفاجأ عندما يكتشف أن بعض الطلاب لا يكتبون لأنهم حضروا للمدرسة بدون أقلام أو قرطاسية. ويضيف «عندما أطلب من طلابي أن يحضروا معهم الدفاتر ذات المائة أو ثمانين صفحة، فإنني أفاجأ عندما أكتشف أن معظمهم قد أحضر دفاتر ذات الأربعين صفحة لأن هذه الدفاتر أقل ثمناً». أسامة شرف المدرس في المرحلة الإعدادية أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه وزملاءه باتوا يمتنعون عن مطالبة الطلاب بإعداد وسائل تعليمية خاصة على حسابهم، لأنه لم يعد أحد من الطلاب مستعدا لاعداد هذه الوسائل لتجنب دفع تكاليف اعدادها. ويضيف شرف أن الكتب التجارية التي تكون عادة رديفا للكتب الوزارية أصبحت بالنسبة لمعظم الطلاب «ترفا لا لزوم له» بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية.

أما عوني حماد المدرس في إحدى المدارس الإعدادية التابعة لوكالةالأنروا فيؤكد أن التعليمات صدرت للمدارس بعدم تحصيل مبالغ لقاء اعداد أوراق الامتحانات بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، لكن مما لا شك فيه أن أحد أكثر المظاهر التي تثير المرارة في النفس هو اضطرار آلاف الأطفال من الطلاب في المدارس الابتدائية للسير مسافات طويلة جداً للوصول إلى مدارسهم مشياً على الأقدام. الذي يتحرك على شارع صلاح الدين في الصباح الباكر فإنه يلاحظ المئات من الأطفال في عمر الزهور وهم يمشون في البرد وأحيانا تحت المطر متجهين من قرية «المغراقة» الى مخيم «البريج» حيث يلتحقون بمدارسهم، حيث يقطعون 10 كلم ذهاباً وإياباً، وذلك لعدم توفر وسائل نقل لنقلهم الى مدارسهم.

الكثير من طلاب المرحلة الثانوية وحتى الاعدادية أصبحوا يبحثون عن أعمال اضافية لتأمين تكاليف تعليمهم ومصروفهم اليومي. جمال ابو خليل (17 عاماً) الذي يدرس في الثانوية العامة يعمل بعد عودته من المدرسة كسائق سيارة اجرة، رغم أنه لا يحمل رخصة لقيادة سيارات الأجرة، لكنه مضطر لذلك لدفع أجرة المدرس الذي يعطيه الدروس الخاصة في مادة اللغة الإنجليزية.

الانقسام الداخلي يؤثر على العملية التعليمية: ويتضح من الشهادات التي حصلت عليها «الشرق الاوسط» من المدرسين والطلاب أن الحصار ليس العامل الوحيد الذي يؤثر سلباً على العملية التعليمية في قطاع غزة، بل أن الانقسام الداخلي والصراع بين حركتي فتح وحماس يلقي بظلاله السلبية على مجمل الحياة التعليمية. أحد المدرسين في مدارس شمال ووسط القطاع أكد لـ«الشرق الاوسط» إن من مظاهر تأثير الانقسام الداخلي على العملية التعليمية هو استثمار الطلاب الجهد والوقت في اقامة التكتلات السياسية في سن مبكرة نسبياً، حيث يندلع الجدل بين الطلاب حول القضايا السياسية. وأضاف «كثيراً ما أدخل الفصل وأجد أن طلاباً قد كتبوا شعارات مؤيدة لحركة فتح، ومنددة بحركة حماس والعكس صحيح». وأكد أنه في كثير من الأحيان فإن الطلاب يتشاجرون مع بعضهم البعض ويقاطعون بعضهم البعض على خلفية المواقف السياسية. لكن أكثر ما يلفت النظر هو ما قاله لـ«الشرق الاوسط»، مدرس اخر فأكد أن الطلاب قد طوروا وسائل «ابداعية» في التعبير عن تعصبهم الحزبي والتنظيمي. ويقول إن الطلاب الذين ينتمون لحركة حماس يتعمدون عدم المشاركة في النشاط الصفي في المادة التي يدرسها مدرس ينتمي لحركة» فتح» في حال تواجد في الحصة المفتش أو ناظر المدرسة حتى يدللوا على عدم أهلية المدرس، كما يسلك الطلاب المنتمون لحركة فتح نفس السلوك مع المدرسين الذين ينتمون لحركة حماس.

الدكتور درداح الشاعر استاذ الطب النفسي في جامعة «الاقصى» بغزة أكد لـ«الشرق الاوسط» أن أكبر تأثير للانقسام الداخلي الناجم عن الصراع بين حركتي فتح وحماس يتمثل في الهوة النفسية التي باتت تفصل بين الطلبة، شأنهم في ذلك شأن بقية فئات المجتمع التي تأثرت سلباً بالانقسام. وأوضح الشاعر أن الأجواء النفسية المضطربة تؤثر كثيراً على قدرة الطلاب على التحصيل العلمي والمعرفي، مؤكداً أن الانقسام أوجد مناخات تؤسس لتأزيم الأوضاع النفسية للطلاب. واضاف أن مشاعر الكراهية حلت محل مشاعر الحب والألفة التي كان يتوجب ان تسود بين الطلاب الذين ينتمون الى نفس الشعب ونفس المنطقة وذات الحي. وأكد أن مظاهر اتساع الفجوة النفسية باتت تتمثل في حدة الانتقادات التي يوجهها الطلاب لبعضهم البعض، فضلاً عن الرغبة المتأصلة لدى كثير منهم بالمس بالطلاب الآخرين الذين يتبنون مواقف سياسية مغايرة والانتقام منهم. واعتبر الشاعر أن هناك حاجة ماسة لوضع حد لحالة الانقسام الداخلي من أجل إيجاد مناخات تسمح بتنفيس الأحقاد والضغائن المستشرية في النفوس.