الصومال.. حصان طروادة

مستقبل ذلك البلد يبقى مجهولا وهو أشبه بمن يقف على صفيح ساخن لا تلامسه البرودة أبدا

TT

إذا أردت أن تعرف ما الذي تفعله ألاعيب السياسة والتدخلات الخارجية بمصير بلد انظر إلى خارطة العالم ويمم وجهك شطر منطقة القرن الأفريقي هناك ستجد دولة كل ما تبقى منها علم ونشيد وطني بعدما انهارت كل مؤسساتها بفعل أهلها والغرباء.

فالصومال تلك الدولة التي كان يفترض أن تكون ضمن تلك الدول العربية التي تلعب دورها التاريخي والاستراتيجي في الربط بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية ودول الاتحاد الأفريقي وأن تمثل حائط صد لمفهوم الأمن الاستراتيجي العربي حيال تلك المنطقة الحيوية على خارطة العالم، باتت ملفا مزعجا للجميع ودولة يتهرب منها الكل خشية أن تصيبهم لعنتها أو أن يغرقوا في مستنقعاتها الدموية.

«الصومال الكبير» تعبير أو مصطلح بات في ذمة التاريخ وبامكانك أن تتحدث عن «الصومال الصغير» الذي بات على فراش المرض يرفض أن يستجيب لكل الأدوية والمعالجات التي يتلقاها على مدى السنوات الـ17 الماضية.

الصومال، دولة افريقية ذات رقعة أرضية غنية بالثروات. ويشكل الحديد واليورانيوم، فضلا عن الغاز الطبيعي، أبرز ثرواتها. أما النفط العمود الأساسي للدول الصناعية، فهو متوفر بكميات كبيرة في الطبقات الأرضية الصومالية بالإضافة إلى الموقع الاستراتيجي للصومال إذ تمتلك الصومال، اكبر ساحل على المحيط الهندي. وتعتبر المشكلة الصومالية من أصعب المشكلات السياسية في القرن الأفريقي؛ منذ سقوط نظام محمد سياد بري عام 1991، كما تزداد تعقيدا نتيجة للحلول الجزئية الفاشلة من الجهات الخارجية.

آنذاك اندلعت الحرب الأهلية في الصومال، بعد أن حاولت بعض القوى الخارجية إثارة النزعات القبلية. لكنها كانت بحاجة إلى أطراف داخلية تساعدها في إشعال الفتنة، فتلاقت مصالح التجار، مع المصالح الخارجية، حين وجدوا في الحرب الأهلية، مصدرا كبيرا للربح.

وفي عام 1992 أصدر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، أوامره بإرسال، 27 ألف جندي أميركي، إلى الصومال، تحت شعار إرساء السلام. وبقيت القوات الأميركية في الصومال، حتى عام 1995، حين أطلق الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون صيحته الاستغاثية، آمرا قواته الخروج من الصومال.

بعد خروج القوات الأميركية، وظهور اتحاد المحاكم الإسلامية، الذي استطاع إرساء سلام وهدوء نسبيين، في الصومال. حدثت تفجيرات السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، عام 1998، وبعدها أحداث 11 سبتمبر لترفع أميركا، راية حربها ضد الإرهاب. متهمة المحاكم الإسلامية بالعلاقة مع تنظيم القاعدة، واعتبار الصومال معقلا للإرهابيين المسلحين.

تم استيلاء المحاكم الإسلامية على معظم الأراضي الصومالية في عام 2006، واضطرت واشنطن إلى التوجه نحو الحكومة الصومالية التي كانت محصورة آنذاك في «بيداوة» جنوب غربي الصومال لوقف تقدم الإسلاميين.

ونجحت أميركا في إلحاق هزيمة سريعة بالإسلاميين على يد حليفتها القوات الإثيوبية إلا أن ذلك لم يحل الأزمات السياسية والأمنية في الصومال بل اتخذت تلك المشاكل منحى أخطر، فالحكومة الصومالية المدعومة بالقوات الإثيوبية تخوض في مقديشو منذ أكثر من عام مواجهات مع المعارضة المسلحة لم تحقق انتصارا فيها، بل على العكس حقق الإسلاميون تقدما في كثير من الأقاليم الصومالية وأصبحوا الآن يهددون الأقاليم المجاورة للعاصمة.

يرى الدكتور حمدي عبد الرحمن حسن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن أهم ما يميز مسارات القضية الصومالية منذ صدور مقررات مؤتمر نيروبي عام 2004 هو الحسابات الخاطئة لأطراف الصراع الفاعلة سواء في الداخل أو في الخارج. ترتب على ذلك كله وقوع الصومال نفسه بقبضة الاحتلال الإثيوبي وحدوث أكبر مأساة إنسانية في العاصمة مقديشو وفقاً للتقديرات الدولية الموثوق فيها.

ويعتقد عمر طلحة نائب رئيس البرلمان الصومالي أن الصومال بلد متخم باللعنات المحلية والأجنبية ومن وجهة نظره فان نظرية المؤامرة حكمت تاريخ هذا البلد الذي يضم عشرة ملايين نسمة أغلبهم مشردون خارجه في دول الجوار وفي الشتات.

وقال طلحة لـ«الشرق الاوسط»: «يتعجب المرء كثيرا حول ما كان بامكان الصومال كدولة قوية وفاعلة أن يؤديه من خدمات جليلة للمنطقة العربية وللعالم».

اليوم «الصوملة» تعبير يستخدم للتحذير من مخاطر الانقسامات وهو تعبير عرف طريقه بسهولة إلى مختلف أزمات المنطقة العربية كترجمة عملية لما بات عليه الحال الآن في دولة كان يفترض أن تكون حصان طروادة العربي والاسلامي إلى دول أفريقيا.

«اللعنة لا تأتي من فراغ» و«المصائب لا تأتي فرادى»، تلك مقولات برهنت صحتها في الصومال، فمن تقسيم إلى تقسيم ومن فوضى إلى فوضى يمضى هذا للبلد مثقلا بالجراح وهو يحمل على كتفيه ترهات أهل السياسة فيه وتفضيلهم مصالحهم الشخصية على مصالحه العليا.

فتاريخيا كان الصومال مقسما قبل أن يتحد ولاحقا سيتم تقسيمه بعد اتحاده، في لعبة دراماتيكية دامية أشبه بالمتاهة المستعصية على كل الحلول.

في خريطة القرن الأفريقي ستكتشف للوهلة الأولى أن وجود دولة قوية وقادرة في تلك المنطقة هو أمر لا يروق لكثيرين. فلم يكن في تلك المنطقة سوى دولة واحدة طيلة قرون هي الصومال الكبير قبل أن تصيبه لعنة الغرباء. أدرك الغربيون مبكرا حيوية الموقع والدور، فلجأوا إلى تقاسم الصومال فيما بينهم، حيث احتلت بريطانيا جانا، سمي فيما بعد بالصومال البريطاني، بينما تولت ايطاليا إدارة ما كان يعرف بالصومال الايطالي واكتفت فرنسا بنصيبها الممثل في الصومال الفرنسي فيما تم إلحاق جانب من الصومال الكبير بأراضي كينيا (انفدى) وإثيوبيا (الصومال الغربي).

ويقول محمد محمود جوليد جعمديري عضو البرلمان ووزير الداخلية الصومالي الأسبق لـ «الشرق الأوسط»: «لا ينبغي أن نقف مطولا لنبكي على الأطلال أو اللبن المسكوب، تلك حقبة تاريخية ينبغي أن نضعها خلف ظهورنا ونلتفت للبلد الذي بات عرضة للمزيد من الانشطار ومهددا في عروبته ودينه وقوميته». لكن الحاصل أن تفتيت الصومال الكبير على النحو الذي جرى كان أول لعنة تصيب هذا البلد الذاخر بالخيرات والثروات الطبيعية والإمكانيات الزراعية والحيوانية الكبيرة. الخريطة التي رسمت بمهارة غربية استهدفت تلغيم الصومال مستقبلا تارة عبر إبقاء ملف خلافته الحدودية مفتوحا مع جيرانه (كينيا وإثيوبيا) وتارة أخرى عبر وزع الخلافات مع بقية دول جواره في منطقة القرن الأفريقي.

وفي الصومال اليوم ليس هناك دولة واحدة، ذلك انه منذ سقوط نظام حكم الرئيس المخلوع محمد سياد بري عام 1991 لم تعد هناك إلى الآن حكومة مركزية فاعلة كما في كل بلاد العالم. في المقابل أنت أمام ثلاثة رؤوس تتولى من دون اتفاق تسيير الدولة التي حلت الفوضى العارمة مكان مؤسساتها وبات خطر التقسيم يتهددها.

وبسقوط نظام الرئيس السابق الدكتاتور المحبوب سياد بري لدى الكثير من الصوماليين الذين ترعبهم فكرة التقسيم انفرط عقد الصومال وتحول إلى كانتونات صغيرة ليست حتى بقادرة على ضمان أمنها واستقرارها. وبدلا من أن يكون التخلص من عهد بري مدعاة لكي يتشاطر الصوماليون السلطة فيما بينهم ويجتمعوا على قلب رجل واحد، فان دم الصومال تفرق بين قبائله وعشائره التي تسابقت بشكل محموم لاقتسام النفوذ والسلطة وتركت البلد غارقا حتى النخاع في متاهة النسيان والفقر والعوز والتخلف. وعمليا لم يعد الصومال دولة واحدة فهو على الارض مقسم بفعل التناحرات السياسية والعسكرية إلى ثلاث مناطق رئيسية هي: إقليم البونت لاند (ارض اللبان) في شمال شرق الصومال، وجاره جمهورية أرض الصومال (صومالي لاند)، وأخيرا ما تبقى من الصومال التاريخي. ويدرك الرئيس الصومالي عبد الله يوسف حقيقة هذا المشهد وقد أخبر «الشرق الأوسط» قبل فترة انه نادم بشدة على رفعه السلاح في مواجهة نظام بري وأنه لو كان يعرف ما ستؤول إليه أحوال البلاد على النحو المذري الذي تعرفه الآن، لما حاول إسقاط هذا النظام ولبحث عن بدائل أخرى.

عبد الله يوسف هو ثاني رئيس منتخب للصومال بعد سنوات من الفوضى وسبقه سلفه عبد القاسم صلاد حسن، علما بان الرجلين قدما إلى الحكم بمؤتمرات عقدت خارج الصومال نظرا لأوضاعه الأمنية ومساعي دول الجوار الجغرافي له بالتدخل لمنع انشطار الدولة الصومالية مع ما يعنيه ذلك من مخاطر حقيقية على أمن واستقرار دول القرن الأفريقي كافة.

في مؤتمر عرتا الذي مولته واستضافته حكومة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة على الرغم من محدودية إمكانياتها وميزانيتها عام 2000 تم انتخاب صلاد رئيسا للبلاد من قبل أعضاء البرلمان الذين أمضوا الأسابيع تلو الأسابيع في خيمة المؤتمر في مفاوضات قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض معلنا أخيرا اختيار صلاد.

وأمضى صلاد فترته بلا إنجازات حقيقية ورحل مشيعا باتهامات بالفساد نفاها لاحقا. لم يكن خروج صلاد سهلا، فالرجل الذي اعتقد الجميع أنه سيدخل العاصمة الصومالية مقديشو فاتحا لها، وقع أسير التناقضات القبلية وسطوة ونفوذ أمراء الحرب الذين اجبروه في مرات عديدة إلى العودة إلى مقر إقامته في المدينة ولم يسمحوا له باستقلال طائرته مغادرا إلى الخارج في مهمات رسمية.

وبعد طول جدل أعلنت كينيا أنها ستستضيف مؤتمرا للمصالحة برعاية الأمم المتحدة ومنظمة دول الإيقاد والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، وبالفعل بعد مفاوضات ماراثونية استمرت بضعة شهور خرجت إلى العلن السلطة الانتقالية الحالية التي يقودها الرئيس الصومالي عبد الله يوسف في أغسطس (آب) عام 2004.

يوسف الذي كان يحلم بحكم البلاد من تحت شجرة في انتظار أن يتمكن من القضاء على الإسلاميين ومثيري الشغب والفوضى، كان قد تخلى عن رئاسة إقليم البونت لاند الذي كان هو أول من أعلن تمتعه بالحكم الذاتي عام 1998.

الآن لا يجد يوسف نفس الزخم العربي والدولي الذي تلقاه لدى توليه السلطة، ثمة من يشكك في جيناته الوراثية ويدعي أنه إثيوبي حتى النخاع سلم بلاده لمطامع تاريخية لرئيس الوزراء الإثيوبي ميلس زيناوي، لكن الرجل الذي تمرس طويلا في المؤسسة العسكرية الصومالية قبل انهيارها وتعرض للسجن في إثيوبيا جراء رفضه الموافقة على ضم إثيوبيا لمدينة صومالية، يقول إنه ليس بامكان أي شخص أن يتجاهل هذه الجينات: أنا عربي مسلم وأفريقي، وليست لدى شكوك حول هويتي أو هوية بلدي وما يحكمنا بالآخرين هو علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة، هكذا يرد يوسف على المشككين، فيما تبقى هوية الصومال غير واضحة على الإطلاق.

وفي شمال شرقي الصومال عاد الجنرال موسى عدي إلى الإقليم قادما من كندا التي أمضى فيها بعض الوقت وامتلك هناك محطة لبيع البنزين، حيث اختاره قادة العشائر رئيسا، لكنه الآن يبحث عن فترة ولاية ثانية مستندا إلى بعض ما حققه. ويقول أحد المرشحين المنافسين له في المقابل: يتعين عليه أن يرحل بعد شهرين عندما تجرى الانتخابات، هو متهم بالفساد والرشاوى، على أن الجنرال القصير لا يبدو مكترثا بهذه الاتهامات التي يعتبرها رخيصة وغير ثابتة ومجرد ترهات وإشاعات كاذبة. اليوم لا يجد الرئيس الصومالي سوى الجنرال موسى حليفا يمكنه الوثوق به، بعدما أوغل طاهر ريال كاهين في المضي قدما بجمهورية أرض الصومال التي أعلنت انفصالها من طرف واحد عام 1991 وبعد أسابيع قليلة فقط على سقوط نظام بري واندلاع الحرب الأهلية.

يتصور كاهين أن إقليمه يمتلك مقومات الدولة ويطالب العرب والغرب بالاعتراف به.

وحدها الولايات المتحدة الأميركية تقدم له بعض العون العسكري والأمني وتتوافد شركات أميركية وغربية على تلك الدويلة طمعا في ثروتها النفطية والمعدنية.

مستقبل الصومال يبقى مجهولا وهو أشبه بمن يقف على صفيح ساخن لا تلامسه البرودة أبدا، فالرئيس الفعلي لا يدير سوى جزء محدود وضئيل من الدولة الصومالية، بينما جانبها الكبير مساحة يبقى معزولا يسعى للانفصال أو في أحسن الظروف منتظرا المجهول الذي قد لا يأتي بالضرورة.

سيتعين على الصوماليين أن يعيدوا تأسيس برلمانهم مجددا بموجب اتفاق جيبوتي الأخير لمنح الإسلاميين المعتدلين فرصة للمشاركة في الحكم والسلطة، وهو ما يعنى بالضرورة إعادة صياغة دستور جديد للبلاد.

الوحدة هي أمل الرئيس الصومالي المثقل أيضا بخلافاته مع رئيس حكومته حول تشكيل الحكومة والصلاحيات التي يقرها الدستور المؤقت للبلاد لكل منهما، لكنه يبقى مقيدا باعتبارات القبيلة وتأثيراتها السلبية على حياة الصوماليين، ولكن تلك، كما يقولون، قصة أخرى.