حارس المرمى

روبرت غيبس المتحدث الصحافي باسم أوباما أغضب المراسلين قبل أن ينتقل إلى البيت الأبيض.. ويقال إنه سرب إلى الصحافة خبر اختياره للمنصب

TT

لا يوجد منصب «وزير اعلام» في الادارة الاميركية، لكن اثنين يتقاسمان عادة هذه المهمة. الاول هو المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض، والثاني هو المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية. المهام بين «الوزيرين» محددة وواضحة.

المتحدث باسم البيت الابيض هو الناطق باسم الرئيس والرئاسة والذي يستعمل مهاراته في نقل الاخبار التي يفترض ان تنقل للمراسلين المعتمدين لدى البيت الابيض، ثم شرح وتوضيح وجهات نظر الرئيس ونائبه وفي بعض الاحيان «تزويق» القرارات التي يتخذها الرئيس، اما المتحدث باسم الخارجية فهو على استعداد للاجابة على اي سؤال يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو الذي يقرر ما إذا كان يود ان يقول شيئاً، ام يستعمل « لغة الخشب» كما يقول الفرنسيون، أي اللغة التي لا تقول شيئاً على الاطلاق، وفي بعض الاحيان يضطر المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض الى استعمال اللغة نفسها.

لم يكن روبرت غيبس الذي سيتولى «وزارة اعلام الرئاسة» في إدارة الرئيس الاميركي باراك أوباما من اسماء الصدارة حتى والحملة الانتخابية في أوجها، على الرغم من انه ظل يشغل موقع «المتحدث الصحافي» باسم أوباما. وعلى الرغم من انه وطبقاً لما ذكرت « نيويورك تايمز» الشخص الذي كان يقدم نصائحه للمرشح الديمقراطي في الامور السياسية والاستراتيجية، وكيفية التواصل وتبليغ الرسائل، كما انه كان الشخص الذي يقضي أطول فترة زمنية مع باراك أوباما أكثر من اي عضو آخر في الحملة. عندما أعلن عن تعيينه في منصب المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض، لم تكتمل فرحة روبرت غيبس، إذ قرر أوباما كذلك تعيين الين موران أحد المؤيدين السابقين للسيناتور هيلاري كلينتون، عندما كانت تخوض الانتخابات التمهيدية، في منصب مدير التواصل في البيت الابيض. وهو قرار فاجأ الاوساط الصحافية لانها كانت تتوقع ان يجمع غيبس بين المنصبين خاصة انه ظل يعمل الى جانب أوباما منذ انطلاق حملته الانتخابية للحصول على مقعد في الكونغرس عام 2004. وقال أوباما عند الاعلان عن قراري تعيين روبرت غيبس والين موران انهما «سيلعبان دوراً ضرورياً، وسيوظفان خبراتهما العميقة لمساعدة الادارة لتحقيق الازدهار والأمن للأميركيين».

ومن المتوقع ان تكون علاقة غيبس مع المراسلين شاقة الى حد ما ذلك ان عدداً من الصحافيين يعتقدون انه كان وراء «التمييز» الذي دأب عليه باراك أوباما مع المراسلين الذين ظلوا يركضون خلفه خلال الحملة الانتخابية من ولاية الى اخرى في أطول حملة في تاريخ الانتخابات الاميركية، وهم يرابطون الآن في فندق هيلتون في شيكاغو لحضور مؤتمراته الصحافية، وتسقط الاخبار. ويعتقد هؤلاء المراسلون أن غيبس كان وراء فكرة منح الاولوية في الاسئلة لمراسلي شبكات «سي بي إس» و «إن بي سي» و«إي بي سي» خلال اللقاءات الصحافية التي عقدها أوباما حتى الآن. اما مراسلو الصحف ووكالات الانباء الاجنبية فإن علاقتهم كانت فاترة جداً مع فريق أوباما، حيث لم يدل الرئيس المنتخب بأي حوار ـ حتى الآن ـ لوسيلة إعلام أجنبية، واكتفى في كثير من الأحيان بتصريحات مقتضبة. ونسب الى غيبس قوله «نسعى دائماً الى إبقاء الناس سعداء بقدر الامكان، وانا أعرف ان هناك بعض المراسلين الذين حضروا اللقاءات الصحافية ولم تعجبهم الطريقة التي تم بها توزيع الفرص».

بيد ان كوتشانو كياريكو مدير مكتب وكالة الانباء الايطالية (آنسا) في واشنطن يقول إن تجنب باراك أوباما الادلاء بأحاديث للصحافة الاجنبية، سياسة ذكية ليقول إن الاولوية لاميركا وإنه سيركز على الأزمة الاقتصادية ولا يبحث عن علاقات عامة مع الصحافة الاجنبية. ويشرح كياريكو قائلاً «أظن ان العمل الأساسي الآن الذي يعكف عليه باراك أوباما هو تشكيل ادارته، لذلك ربما ارتأى انه ليس من المناسب مناقشة قضايا خارجية في الوقت الذي يريد من الناس التركيز على القضايا الداخلية». وبشأن اختيار روبرت غيبس قال كوتشانو كياريكو لـ«الشرق الاوسط»: «أظن أن أوباما أحسن الاختيار لمعرفته أن غيبس سيقوم بعمل جيد، وفي اعتقادي أنه قام بعمل رائع خلال الحملة الانتخابية، والمؤكد ان أوباما اصبح يثق به كثيراً مثل ثقته بديفيد ايكسلورد (المخطط الاستراتيجي لحملة ابوباما) وربما اختير لهذا المنصب لانه قادر على الاجابة على الاسئلة الحرجة ويعرف كيف يلتف على مثل الاسئلة الشائكة والحرجة دون ان يقع في الأخطاء» ويضيف كياريكو قائلاً «غيبس قادر على شغل المنصب باقتدار».

وكان أكثر من انتقد أساليب غيبس مراسلون يعملون مع «نيويورك تايمز» ووكالة «اسوشيتدبريس» حيث طلب منهم الجلوس خلال اول مؤتمر صحافي يعقده الرئيس المنتخب في الصف الامامي، وهي إشارة الى انه ستكون لهم اولوية في طرح الاسئلة، بيد ان باراك أوباما تجاهل الصف الاول تماماً وطلب من الصحافي اندي شاو، الذي يعمل مع محطة تلفزيونية في شيكاغو تابعة لشبكة «إيه بي سي» ان يطرح السؤال الاول. وقال مراسلو الوكالة والصحيفة إن غيبس هو صاحب الفكرة. وقالت «اسوشيتدبريس» إنها فوجئت بأن مراسليها وجهت لهم الدعوة مبكراً، وطلب منهم الجلوس في الصف الامامي، لكن باراك أوباما منح الفرصة، بناء على ترتيبات من غيبس، الفرصة لمراسلي شبكتين تلفزيونيتين وثلاثة من مراسلي الصحف قبل أن يعود الى مراسلي الوكالة. وهذه واحدة من المرات النادرة التي تبث فيها الوكالة خبراً تعبر فيه عن استياء من معاملة غير منصفة من وجهة نظرها. وهو ما جعل بعض المراسلين يعتقدون بان غيبس «إنطلق سيئاً».

ويعتقد على نطاق واسع ان غيبس هو الذي جعل الوصول الى أوباما أثناء الحملة الانتخابية صعباً للغاية. وغيبس يطبق اسلوب الغموض والتمويه وأحيانا يصبح الحديث معه في حد ذاته موضوع تفاوض، حيث يستغل ذلك في تحقيق فائدة لرئيسه. البعض يرى في أسلوبه دهاء، وآخرون يعتبرونها مدرسة متقدمة في مجال التواصل، والحقيقة انه الاثنان معاً.

وقالت صحيفة «بولتيكو» السياسية الاميركية في معرض الغمز من قناة غيبس «بدا الرئيس المنتخب جافاً وغير متأكد عندما كان يطلب من بعض المراسلين اثناء مؤتمراته الصحافية بالاسم طرح اسئلتهم، من الواضح انه لا يعرف الاشخاص الذين يطلب منهم ذلك، كما انه لا يحبذ طرح اسئلة كثيرة عليه». وقالت الصحيفة ايضاً «منح سؤال واحد لكل مراسل من الصحف الأكثر انتشاراً وهي «يو إس توداي»، و«وول ستريت جورنال»، و«نيويورك تايمز»، و«لوس انجلس تايمز»، في حين منحت «واشنطن بوست» و«شيكاغو صن» فرصاً متساوية مع الصحف الكبرى، أما شبكة فوكس نيوز (ذات توجهات يمينية) فقد استبعدت تماماً بسبب التوتر الذي ساد علاقتها مع حملة أوباما، وفسر غيبس الذي كان وراء قرار استبعاد فوكس «ليس هناك امر شائن وراء عدم منح الفرصة لمراسلي فوكس لطرح اسئلة». وتقول «بولتيكو» ايضاً «من بين أكثر من عشرة أكبر صحف تم تجاهل «نيويورك بوست»، و«نيويورك ديلي نيوز»، و«هيوستن كرونيكل»، و«نويزداي»، كما ان غيبس لا يفضل الصحف الالكترونية بما في ذلك بولتيكو» وقالت إن «غيبس يتحمل مسؤولية هذه الهفوات».

يتحدر غيبس، 37 عاماً، من ولاية آلاباما الجنوبية من أبوين كان يعملان في جامعة مدينة ايبرن في الولاية نفسها، بيد ان غيبس درس العلوم السياسية في ولاية شمال كارولاينا. ومنذ صغره شجعته والدته نانسي غيبس على الاهتمام بالسياسة لذلك كان يحضر معها وهو بعد صبي يافع اجتماعات «رابطة النساء الناخبات»، وعندما انتقل الى المرحلة الثانوية، كاد ان ينصرف عن السياسة حيث اهتم بأمور اخرى، ومن ذلك ميله الى عزف آلة النفخ (الساكسفون)، كما عشق رياضة كرة القدم ولعب حارساً للمرمى، وحتى عندما أكمل المرحلة الثانوية عام 1989 وانتقل الى الجامعة في ولاية شمال كارولاينا، ظل يمارس لعبة كرة القدم حيث تولى حراسة مرمى فريق الكلية، بيد ان دراسته العلوم السياسية جعلته يعود من جديد الى السياسة التي حرصت والدته ان ينغمس في أتونها. وحتى قبل ان يتخرج عمل في مكتب عضو الكونغرس غلين برودر كمتدرب، لكنه سرعان ما ابان عن مقدرات لفتت اليه الانظار. وفي عام 1996 شارك في حملة انتخابية خاسرة خاضها برودر في ولاية ألباما. وفي السنة الموالية عمل سكرتيراً صحافياً مع عضو الكونغرس بوب اثرديج من ولاية شمال كارولاينا، ثم انتقل الى العمل متحدثاً صحافيا مع عضو الكونغرس فريتز هولينغ.

وبعد تخرجه عمل غيبس في مجال التواصل والإعلام، وكانت بدايته مع عدد من المرشحين الديمقراطيين وكذا مع اللجنة الوطنية للمرشحين الديمقراطيين، كما عمل عام 2004 سكرتيراً صحافياً في حملة المرشح الديمقراطي جون كيري، لكنه استبعد من حملة كيري وانتقل ليعمل مع حملة باراك أوباما الذي كان يخوض غمار انتخابات الكونغرس (مجلس الشيوخ). ثم انضم الى مجموعة كانت تناهض ترشيح الديمقراطي هوارد دين، وهذا الموقف على وجه التحديد الذي دفع كتاب مدونات الكترونية، لهم توجهات ديمقراطية، الى توبيخ مواقفه، خاصة ان دين وهو من اشد معارضي حرب العراق وقف الى جانب باراك أوباما بعد ان تولى رئاسة اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، كما ان ديمقراطيين بارزين عبروا عن امتعاضهم لاختيار غيبس لمنصب المتحدث باسم البيت الابيض على الرغم من موقفه المناوئ للمرشح الديمقراطي السابق هوارد دين.

يتحرك روبرت غيبس على مهل إذ انه يميل الى البدانة. وجهه مستدير له ملامح باردة بعينين صغيرتين خلف نظارات طبية. لا يعتني بهندامه. يلبس ربطات عنق في حالة تنافر واضح مع ما يرتديه من اقمصة. على سبيل المثال ربطة عنق خضراء مع قميص أزرق. يلوك العلكة باستمرار. قدرته على تدوير الكلام والتلاعب بالكلمات لا تضاهى. يطلق الذين عملوا معه خلال الحملة الانتخابية عليه لقب «المنقذ» وذلك لقدرته على الرد السريع والمفحم على الانباء الزائفة التي كان يرددها خصوم أوباما، سواء في الانتخابات التمهيدية أو الانتخابات الرئاسية. ولعل من مفارقات السياسة الاميركية، على ما تحفل به هذه السياسة من تناقضات ومفارقات، أن فريق هيلاري كلينتون خلال الحملة الانتخابية كان يعتقد ان غيبس هو الذي يقف خلف الانتقادات الاعلامية اللاذعة التي تعرضت لها هيلاري، والآن فإن كلينتون، التي وافقت على منصب وزيرة الخارجية، وغيبس، سيترافقان في جميع رحلات الرئيس المنتخب الخارجية عندما يتولى مهامه في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل. ولعل المفارقة ايضاً ان غيبس هو الشخص الذي انحى عليه المراسلون باللائمة عندما استطاع ان يبقي الصحافيين بعيداً عن الاجتماع السري الذي عقده باراك أوباما وهيلاري كلينتون في واشنطن قبل ان تعلن هيلاري انسحابها من السباق الرئاسي. وعندما واجه المراسلون الناقمون غيبس وعبروا عن غضبهم حيث لم تكن لديهم اية معلومات حول اللقاء السري قال غيبس «لم تكن محاولة لخداع أي أحد، الامر كان يتعلق فقط باجتماع خاص».

وكان غيبس هو الذي تصدى للأخبار التي انتشرت على نطاق واسع حول ان باراك أوباما «مسلم متخفٍ» وظلت شبكات التلفزيون الاميركية المحافظة ترددها دون توقف، الى الحد الذي جعل زلة لسان ارتكبها أوباما أثناء حوار مع شبكة فوكس نيوز، عندما قال «هناك كثيرون يشككون في إسلامي» وكان يقصد ان يقول «في مسيحيتي» وراحت القناة تعيد وتكرر زلة اللسان دون كلل عدة ايام. واعتمد تكتيك غيبس على الحديث الى عدة شبكات اخرى مؤكداً ان باراك أوباما لم يكن مسلماً في يوم من الايام. وكان يردد باستمرار «هذه الاتهامات الخبيثة والماكرة وغير المسؤولة هي بالضبط نوع السياسات التي اصبح الشعب الاميركي يشعر تجاهها بالاشمئزاز». وعندما انتقد الرئيس الحالي جورج بوش في خطاب امام الكنيست الاسرائيلي إلمام باراك أوباما بالسياسة الخارجية، وصف غيبس تلك الانتقادات بانها «مدهشة». وقال إن انتقاد أوباما في بلد اجنبي غير مقبول، وقال إن دبلوماسية بوش هي بالضبط «دبلوماسية رعاة البقر» التي انتقدها روبرت غيتس وزير الدفاع، واستعمل بعض العبارات التي وردت في تصريحات ادلى بها غيتس في مناسبة مختلفة.

وكان من أبرز نجاحات غيبس اثناء الحملة الانتخابية، عندما أثار كل من المرشح الجمهوري جون ماكين ونائبته سارة بالين مسألة علاقة باراك أوباما مع بيل آيرز، الذي كان ينتمي الى جمعية تستخدم العنف لمعارضة حرب فيتنام، وذلك قبل أسابيع قليلة من يوم الاقتراع، الى الحد الذي قالت فيه بالين إن أوباما كان «يسكن مع ارهابيين في الغرفة نفسها» في إشارة الى ان أوباما كان يتردد على شقة آيرز، وأقام مرة حفلة ذات طبيعة اجتماعية في تلك الشقة. وكان آيرز يقود منظمة راديكالية في الستينات متهمة بالضلوع في تفجيرات احتجاجاً على حرب فيتنام.

وقال غيبس في مواجهة حول هذا الموضوع مع شبكة «فوكس نيوز» إنه يتحدى الشبكة ان تقدم دليلاً على علاقة بين أوباما وآيرز، وقال: هل لان أوباما كان عضواً في جمعية خيرية كان آيرز ايضاً عضواً فيها يبرر القول إنها علاقة بإرهابيين. وقال في ذلك الحوار الصدامي إن جون ماكين كان عضواً في جمعية تضم اندي مارتين الذي اتهم مراراً بمعاداة السامية، وقال بمكر شديد «هل يعني هذا ان ماكين معاد للسامية؟».

بعد يومين فقط من فوز باراك أوباما التاريخي في انتخابات الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تسربت أخبار مفادها بان روبرت غيبس سيعين في منصب المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض. وثمة اعتقاد ان غيبس ولا احد غيره هو الذي سرّب الخبر للمراسلين. وفي 22 من الشهر الحالي اعلن رسمياً ان غيبس عين بالفعل في منصب المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض.

وحاليا يقيم غيبس في مدينة الكسندريا في ولاية فرجينيا مع زوجته كاثرين وولدهما الذي يبلغ من العمر خمس سنوات. وهو يستعد الآن للانتقال الى واشنطن المجاورة، حيث عليه أن يطل يومياً على المراسلين لينقل أخبار البيت الأبيض، او ليخفي بعض الاخبار عن هؤلاء المراسلين. المؤكد انه في الحالتين سيصبح تحت دائرة الاهتمام. وهو سيواجه لاول مرة مراسلين لهم باع طويل وحنكة ودراية في التعامل مع الرسميين. ومشكلة غيبس الاساسية ان هؤلاء المراسلين لا تعجبهم لغة «الخشب» لذلك سيُمطرونه بوابل من الاسئلة التي تجعل أعتى الدهاة يقعون في الفخ. لكن غيبس كان حارس مرمى في السابق، وهو اعتاد الى توجيه الاصابات إليه.