الإرث الصعب

كيف يتعين على الرئيس أوباما تناول العلاقات الأميركية مع روسيا؟

علاقات روسيا وأميركا.. بين هبوط وصعود («نيويورك تايمز»)
TT

في ساعة متأخرة من الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، أُعلن انتخاب المرشح الديمقراطي السيناتور باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، واحتفى أوروبيون وآسيويون وأفارقة، والكثيرون في الشرق الأوسط بهذا الفوز، شأنهم بذلك شأن غالبية الأميركيين. إلا أن الروس كانوا أكثر فتورا حيال فوز أوباما. ورحب الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف بانتخاب أوباما، عبر خطاب شديد اللهجة وجهه إلى الشعب الروسي، وفيه عبر عن أمله بأن يساعد الرئيس المنتخب في تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين، إلى جانب تلويحه بتهديد أن روسيا ستنشر صواريخ «اسكندر» في منطقة كالينينغراد ردا على نصب الولايات المتحدة لصواريخ دفاعية في كل من بولندا والتشيك. وهذا يعني ان الوصول إلى توازن ملائم في العلاقات الروسية ـ الاميركية لمجابهة المشكلات العالمية بصورة بناءة، واحتواء الطموحات الأحادية الروسية تجاه جيرانها، سيكون أحد التحديات الماثلة أمام إدارة أوباما.

* الإرث الصعب

* تزامنت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة مع أسوأ فترة شهدتها العلاقات الأميركية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة. كما كان للحرب الروسية على جورجيا في شهر أغسطس (آب) أثر كبير على آراء ومعتقدات النخبة السياسية الأميركية والروسية، كل تجاه الآخر. وتميل الطبقات والفئات السياسية الأميركية – ومنها الكثير من مستشاري أوباما ـ إلى النظر إلى روسيا على أنها قوة عدوانية وأحادية، تنتهج مراجعة النظرية الماركسية، بهدف تبرير التراجع عن الثورة الليبرالية وتبني موقف إصلاحي، كما أنهم يعتقدون بان موسكو على أتم الاستعداد للوقوف أمام المصالح الأميركية والتأكيد على نفوذها، حتى ولو باستخدام الوسائل العسكرية، كما حدث مع حلفاء الولايات المتحدة في أوراسيا، مثل جورجيا. وبالنسبة للروس، زادت الأزمة الجورجية من انعدام الثقة في واشنطن، والشعور بالارتياب تجاه سياسة الإدارة الأميركية نحو روسيا وجيرانها، بالإضافة إلى سياستها إزاء قضايا عالمية وإقليمية أخرى بالغة الأهمية. وقد فسرت النخبة السياسية في روسيا الدعم الأميركي لجورجيا على أنه عمل غير ملائم بدرجة كبيرة، بل أن هناك من اعتبره عملاً عدائيا، واتفق أغلب الروس على هذا الرأي السلبي تجاه الولايات المتحدة، فقد أشار آخر استطلاعات الرأي، الذي أجراه مركز «أوول راشان» لدراسات الرأي العام، إلى أن عدد الروس ممن لديهم انطباعات أو آراء إيجابية إزاء الولايات المتحدة قد تراجع إلى النصف، خلال الخمس السنوات الأخيرة، وهو ما يمثل أقل مستوى تم تسجيله من قبل. فمن مجموع 1600 شخص شملهم استطلاع الرأي في سبتمبر (أيلول) 2008، يعتقد 2% فقط أن لروسيا علاقات صداقة مع الولايات المتحدة، فيما أوضح 37% أن العلاقات بين البلدين يشوبها التوتر المتزايد، ورأت نسبة قوامها 11% أنها عدائية. ولكن في خضم الحديث عن انعدام الثقة والاحتواء والمواجهة، بات الحديث عن حرب باردة جديدة أمرا غير متصور على الإطلاق. فهناك اعتماد اقتصادي متبادل ومتزايد، فضلاً عن أرضية مشتركة في تناول قضايا البيئة، والتغيير المناخي، وقلق مشترك بشأن تدهور الوضع في أفغانستان، واحتمالات ظهور إيران نووية، علاوة على القلق المشترك من صعود الصين. ومع وصول الإدارة الجديدة إلى سدة الحكم في واشنطن، فإن ثمة فرصة تلوح في الأفق للتغلب على المواجهة المتزايدة بين الحكومتين الأميركية والروسية، وللوصول إلى تسوية بين الدولتين، فهناك العديد من القضايا الملحة التي تحتاج إلى التعاون الروسي الأميركي، وعلى أساسها سيتم اختبار أساسيات العلاقة بين الدولتين خلال الشهور والسنوات المقبلة.

* الأزمة الاقتصادية

* تتجسد أولى التحديات الكبرى في الأزمة المالية العالمية، التي ضربت بشدة كلا من الولايات المتحدة وروسيا. فربما تشهد الولايات المتحدة أسوأ فترة ركود منذ «الكساد الكبير»، الذي طال البلاد فترة عشرينات القرن الماضي، هذا بالإضافة إلى اهتزاز الثقة العالمية بشدة في النظام المالي الأميركي، ودوره في جوهر النظام المالي في ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ما يختص بالمشهد الروسي، كان أثر الأزمة المالية العالمي أشد، ويعود ذلك إلى اقتصادها الصغير وضعف ثقة المستثمر في حكومتها، وفي سيادة القانون، والدين المرتفع المتراكم على الشركات، وهبوط أسعار النفط، التي أثرت بدورها على النمو. وقد هبطت سوق الأوراق المالية الروسية بـ 75% منذ شهر مايو (أيار). وحسبما أفاد رئيس البنك المركزي، فقد قُدّر حجم هروب رأس المال من روسيا في أكتوبر (تشرين الأول) 2008 بـ50 مليار دولار تقريبا، فضلاً عن انخفاض الاحتياطات الدولية الروسية بنحو 9.2 مليار دولار في الأسبوع. ومن المثير للسخرية، أن الأزمة المالية العالمية كان لها بالفعل أثر إيجابي على العلاقات الثنائية، فقد وقعت الأزمة في أعقاب حرب جورجيا وساعدت على تجاوز ما كان يحتمل أن يكون جمودا طويلاً في الحوار الاستراتيجي الأميركي ـ الروسي، غير أنه على الرغم من التأثير المباشر، من الصعب تفهم كيف سيمكن أن تتوصل الولايات المتحدة وروسيا إلى حلول مشتركة للأزمة العالمية، فاقتصاد الدولتين مختلف تماما والاعتماد المتبادل في ما بينهما يميل ناحية الولايات المتحدة.

ومن المتوقع أن يؤدي تعهد الرئيس المنتخب باراك أوباما بضمان أمن الطاقة في الولايات المتحدة عن طريق التنقيب في مناطق جديدة وابتكار بدائل جديدة للطاقة إلى مزيد من الانخفاض في سعر برميل النفط، ومن ثمّ يضعف من الطموحات الاقتصادية الروسية. وأخيرا، فإن الكثير من الحلول الأميركية، مثل خطة الإنقاذ الحكومية التي تتكلف 700 مليار دولار لإنقاذ البنوك، وقرارها بالحصول على حصص في هذه البنوك، إضافة إلى حديث أوباما عن تقييد الالتزامات حيال حرية التجارة ومحاولة منع إعادة توطين الأعمال التجارية الأميركية في الخارج، لن تصب في صالح الاقتصاد الروسي. وينظر إلى تحكم الحكومة الروسية في القطاع الخاص على أنه المشكلة وليست الحل.

* التحديات الأمنية

* ويرتبط التحدي الثاني بأجندة الأمن العالمي، فالولايات المتحدة وروسيا اللاعبان الرئيسان اللذان يتشاركان في مسؤوليات مهمة حول مسألة السيطرة على انتشار السلاح غير التقليدية ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة النووية والنزاعات الإقليمية وقضايا أخرى. وسيكون أول اختبار مهم للعلاقات الأميركية ـ الروسية التفاوض حول الاتفاقية القادمة التي ستحل محل معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية (ستارت)، التي تنتهي في 2009. وقد تعهد أوباما بالعمل على خفض مخزون الأسلحة النووية بالتعاون مع روسيا، لكن يحرص الروس، الذين باتوا أكثر اعتمادا على الأسلحة النووية، في الوقت الذي تتراجع فيه قدراتهم من الأسلحة التقليدية، على التفاوض بشأن اتفاقية مناسبة وملزمة قانونيا للحد من الأسلحة الإستراتيجية، ورغم المصلحة المشتركة للدولتين، إلا أن مسألة الدفاع الصاروخي ستدرج ضمن المفاوضات في المعاهدة الجديدة، وقد كان أوباما حريصا على عدم التصديق المطلق على خطة الرئيس بوش بشأن الدفاع الصاروخي التي تعارضها روسيا بشدة. ومن المتوقع أن تعطل المصاعب المالية والتكنولوجية تلك الخطة، مما يترك مساحة لإعادة التفكير في المشروع بكامله على مدار سنوات قادمة.

وسيعتمد الكثير على تطور العلاقات الأميركية الإيرانية وما إذا كان أوباما ذو النزعة التصالحية قادرا على إقناع إيران بالتخلي عن طموحاتها النووية المزعومة، وقد كانت روسيا حريصة على الحفاظ على درجة من الحيادية في المسألة الإيرانية، فأقرت مطالب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي تدعو إيران للالتزام بمعاهدة حظر الانتشار النووي والتزامات وكالة الطاقة الذرية، لكنها في ذات الوقت لم تبد رغبة في فرض عقوبات إضافية، كما عارضت استخدام القوة لوقف البرنامج النووي الإيراني ـ ومن الممكن أن يعود المقترح الروسي بتزويد إيران بالوقود النووي المعد للأغراض السلمية للحياة من جديد، إلا أن الولايات المتحدة وروسيا عليهما الموافقة أولاً على إقرار اتفاقية التعاون النووي المدني التي سحبتها إدارة بوش، من الكونغرس، في أعقاب الحرب الروسية مع جورجيا. وثمة تحد خطير يبرز في المستقبل، إذ يجب على رئيسي الدولتين الوصول إلى صيغة تترك فيها الاختلافات المستمرة إزاء بعض القضايا، التي لن تنتهي بوجود أو بانتهاء الأزمة المالية، مساحة سياسية كافية للتعاون في القضايا الاستراتيجية المهمة ذات الاهتمام المشترك. والسيناريو البديل هو تراجع العلاقات الأميركية الروسية إلى مستوى أسوأ من هذا الذي شهدته السنوات الخمس الماضية، والتضحية بالمصالح المشتركة من أجل المنافسة الجيوسياسية، وليس من المحتمل أن يفوز حينئذ أي من الطرفين.

*باحثة متخصصة في الشؤون الاسيواوروبية في مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن