«تريبيون».. بين الطمع والنزاهة

كانت تفتح مكاتبها كل صباح ليس للخروج من الخسارة إلى الربح بل لدفع الديون

مبنى صحيفة «شيكاغو تريبيون» في لوس أنجليس (أ.ف.ب)
TT

قبل ان يتسلم الرئيس الاميركي باراك اوباما منصبه، بدأت مشاكله. هذه المرة، ليس في العراق او افغانستان او وول ستريت، بل من حيث اتى، من شيكاغو. منذ يوم الثلاثاء الماضي، بدأ يطارده السؤال الذي طارد الرئيس السابق ريتشارد نيكسون: متى عرف الرئيس؟ وماذا عرف؟ (عن فضيحة ووترغيت). صحيح لم يثبت ان لاوباما صلة بفضيحة «سناتورغيت»، فضحية حاكم ولاية ايلينوي رود بلاغوفيتش الذي حاول بيع مقعده في مجلس الشيوخ، ولا يعتقد أن له اية صلة بها، ولكن يوجد اعداء سينقبون وينقبون.

وما قد يدفع هؤلاء الى البحث أكثر، هو ان براغوفيتش واوباما صديقان وزميلان في العمل السياسي، خاصة عندما كان اوباما يمثل شيكاغو في كونغرس الولاية في سبرنغفيلد (عاصمة الولاية). ويتمتع براغوفيتش كونه حاكم الولاية، وبحسب القانون الاميركي، بتعيين بديل في مجلس الشيوخ عن اوباما الذي استقال من الكونغرس بعد ان فاز برئاسة الجمهورية. ويحق لحاكم الولاية أن يعين اي شخص يريد ليحل مكانه حتى تجرى انتخابات جديدة.

لكن يوم الثلاثاء الماضي، اعتقلت شرطة التحقيق الفيدرالية (اف بي آي) حاكم الولاية بتهمة محاولة «بيع» مقعد اوباما الشاغر لمن يدفع له، ولزوجته، اكثر، بالاضافة الى حاكم الولاية واوباما، ظهر طرف آخر: صحيفة «شيكاغو تريبيون».

قبل ثلاثة شهور، وفي افتتاحية رئيسية، كررت الصحيفة، للمرة الالف، ان حاكم الولاية فاسد. وطلبت من كونغرس الولاية عزله. وقال الحاكم انه سيطلب من الملياردير سام زيل، صاحب ورئيس مجموعة شركات «تريبيون» التي تملك الصحيفة، فصل جون ماكورميك، المسؤول عن كتابة افتتاحيات الصحيفة. وقال الحاكم انه لن يساعد الملياردير زيل على بيع فريق «شيكاغو كابز» (صغار الاسود) لكرة السلة، اذا لم يفصل الرجل.

وقالت اخبار ان الملياردير كان سيفصل الرجل ليكسب صفقة الفريق الرياضي، ولينفذ مجموعة شركات «تريبيون» التي تواجه الافلاس، لكن حدث شيئان يوم الثلاثاء: اولا: اعلنت الشركة الافلاس. وثانيا: اعتقلت الشرطة الفيدرالية حاكم الولاية بتهمة الفساد. ومنذ العام الماضي عندما صارت مجموعة شركات «تريبيون» الاعلامية العملاقة شركة خاصة، كان واضحا انها تواجه الافلاس، وهذه السنة، مع الكارثة الاقتصادية، خاصة في العقارات، كان واضحا ان اعلان الافلاس يمكن ان يصدر في اي يوم.

وتملك الشركة، بالاضافة الى صحيفة «شيكاغو تريبيون»: صحف اخرى، منها: «لوس انجليس تايمز» و«بولتيمور صن» و«نيويورك نيوزداي». وتلفزيونات منها: «دبليو جي ان» في شيكاغو، و«سي دبليو» في واشنطن العاصمة، وفريق «كابز» (صغار الاسود) في شيكاغو. عندما حول الملياردير سام زيل شركة «تريبيون» الى شركة خاصة، كانت ديونها اكثر من عشرة مليارات دولار. وكان واضحا انها تواجه الافلاس، لكن عن الشركة وموظفيها وصحافييها وعمالها احساس بالامل والتفاؤل بان الرجل سينقذ مجموعة «تريبيون»، ويطورها، ويدخلها القرن الحادي والعشرين.

من المشاكل التي واجهها زيل انخفاض الاعلانات، وهي ظاهرة تعاني منها ربما كل الصحف ومحطات الاذاعة وقنوات التلفزيون: بدأت الكثير من شركات الاعلانات بالتوجه والانتقال نحو الانترنت، ولم يساعد الركود الاقتصادي الذي ضرب البلاد منذ أسابيع. ربما شركات قليلة كانت في وضع «تريبيون» وهو انها كانت تفتح مكاتبها كل صباح، ليس للخروج من الخسارة الى الربح، ولكن لدفع الديون. وكلما زادت الخسارة، زادت مضايقات البنوك التي تريد اقساط ديونها، كل سنة عليها ان تدفع للبنوك مليار دولار لهذا الغرض. وفي الربع الثالث من هذه السنة، بلغت خسارتها اكثر من مائة مليون دولار، وصار واضحا ان الافلاس لابد منه.

ولان الركود الاقتصادي صار رسميا (قبل اسبوعين اعلنت ذلك وزارة التجارة)، ولأنه يتوقع ان يستمر لسنة على اقل تقدير (قال ذلك عدد كبير من الخبراء)، تبدو السنة القادمة سنة سوداء قاتمة بالنسبة لكل النشاط الاقتصادي الاميركي، بما في ذلك المؤسسات الصحافية بسبب توقع انخفاض اكثر في الاعلانات. وتواجه نفس المصير شركات أخرى. فقد هبطت قيمة السهم في شركة «واشنطن بوست» بنسبة اربعين في المائة، وفي شركة «نيويورك تايمز» بنسبة ستين في المائة، وفي شركة «ماكلاتشي» بنسبة تسعين في المائة. يتهم كثير من الخبراء الاقتصاديين الملياردير زيل بأنه طمع (ولم يحلم) اكثر مما يجب عندما اشترى شركة «تريبيون»، وحولها الى شركة خاصة. وكان واضحا انه يريد تحاشي القوانين والتقييدات الحكومية لان الاستثمارات الخاصة لا تقنن وتقييد مثل الاستثمارات العامة. ليس فقط في شركته الصحافية، ولكن ايضا في شركته الرياضية التي تدير فريق «شيكاغو كابز». لسوء حظه، اثرت الكارثة الاقتصادية حتى على دخول المتفرجين استادات الرياضة. زاد سعر غالون البنزين، وزادت اسعار التذاكر. وزاد هو، عمدا، اسعار المرطبات والساندويتشات داخل الاستاد. والآن، يريد بيع الفريق والاستاد واماكن المرطبات والساندويتشات لانه يخسر، ولانه يريد تحويل جزء من القيمة المطلوبة (ثمانمائة مليون دولار) لانقاذ الشركة الام.

ومرة اخرى، لسوء حظه، بسبب كارثة الديون، لا تقدم البنوك قروضا كافية ومضمونة لمن يريد ان يشتري الفريق. في الحقيقة في بداية السنة، كان الرجل محظوظا لانه وجد من يشتري صحيفة «نيويورك نيوزداي» (بستمائة وخمسين مليون دولار لشركة «كيبل فيشن» التلفزيونية). واستفاد من جزء من الدخل لانقاذ شركات المجموعة، لكن، كما صار واضحا، ظلت ديون المجموعة تكبر وتكبر. ثم فكر الرجل في بيع مبنى صحيفة «لوس انجليس تايمز» ليقدر على دفع مزيد من الديون. لكن، هذه المرة، احتج الصحافيون والعاملون. لمذا بيع المبنى، لا الصحيفة؟ لأن الصحيفة واحدة من صحف اميركية رئيسية قليلة لا تزال تربح ربحا معقولا. في الحقيقة، اذا باعها، يقدر الحصول على اكثر من مليار دولار، لكنه سيكون فقد واحدة من الابقار التي تدر ذهبا.

وهكذا، باعلان افلاس مجموعة شركات «تريبيون»، اثبت الرجل فشل خطته التي اعلنها قبل اربع سنوات، بان زيادة، وليس تخفيض، شركات المجموعة سينقذها.

هناك جانبان لقصة «تريبيون»: الطمع والنزاهة. لم يبدأ طمع زيل في السنة الماضية عندما حولها الى شركة خاصة، ولكن بدأ في عام 2000، عندما اشترى الشركة بعد ان صار اكثر المستثمرين قوة، وقرر مستثمرون صغار بيع الشركة ووضع ارباحهم في جيوبهم. راهنوا على ان الشركة لن تنجح الا اذا قلصت ممتلكاتها، وراهن على انها لن تنجح اذا لم يزيد ممتلكاتها، لهذا، في سنة 2004، اشترى شركة «لوس انجليس تايمز» وضم الشركتين معا. حصل على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار، واخرج من جيبه الخاص ثلاثمائة مليون دولار. نجح في دمج الشركتين تحت اسم مجموعة «تريبيون»، لكنه جمع ديونا تزيد عن اربعة مليارات دولار. رهانه كان على شيئين: اولا: زيادة الدخل من الشركة الرياضية. ثانيا: اقناع السياسيين في واشنطن بعدم اخراج شركة التلفزيون من المجموعة. فشل في تحقيق الهدف الاول بسبب انخفاض الاقبال على المباريات الرياضية. ونجح في تحقيق الهدف الثاني، فاقنع اعضاء في الكونغرس، بعد ان قدم لهم تبرعات لحملاتهم الانتخابية، بالسماح له بخرق «مؤقت» لقانون فيدرالي يمنع امتلاك اكثر من وسيلة اعلام في مدينة واحدة، شيكاغو.

لكن، رغم مشاكلها المالية، تعتبر «شيكاغو تريبيون» على رأس الصحف الاميركية نزاهة. وآخر مثال على ذلك قصتها مع الرئيس المنتخب اوباما. عبر تاريخها، ظلت الصحف الاميركية الرئيسية «المستقلة» مستقلة في تأييدها لمرشح دون آخر، ولأنها «مستقلة» وليست «حزبية»، ظلت تقول انها لا تريد ان تؤثر على رأي القارئ، وتريد فقط، ان تقول رأيها وتقدم للقارئ كل المعلومات الممكنة ليقول هو رأيه بدون ان يتأثر برأيها. حدث هذا عبر تاريخ صحيفة «شيكاغو تريبيون». ففي اليوم الثاني من شهر مايو (أيار) عام 1855، دخل ابراهام لنكون، عضو الكونغرس الشاب الانيق الطويل، مكتب الصحيفة في شارع كلارك في شيكاغو، وقال انه جاء ليهنئ الكولونيل ماكورميك (الجمهوري) الذي اشترى الصحيفة، وانه لم يكن يرتاح لرأي الصحيفة في عهد مالكها السابق (الديمقراطي).

ومنذ ذلك الوقت، وخلال ستة انتخابات (اربعة للكونغرس واثنان لرئاسة الجمهورية) خاضها لنكون، ايدته الصحيفة. وفي انتخابات سنة 1860 لرئاسة الجمهورية، ايدته لأنه، كما قالت: «رجل محافظ ويعارض تجارة الرقيق. يدل هذا على استقامة شخصيته، وندرة معدنه».

ومنذ ذلك الوقت، ظلت «شيكاغو تريبيون» تقول انها «صحيفة جمهورية مستقلة». ثلاث مرات عندما ترشح الديمقراطي فرانكلين روزفلت لرئاسة الجمهورية، عارضته. اول مرة، ارسل لها خطابا كتب فيه بخط كبير: «لماذا؟». ورد الناشر «الكولونيل ماكورميك»: «لانك اشتراكي» (اشارة الى قرارات مواجهة الانهيار الاقتصادي سنة 1929، واصدار قوانين حكومية لانقاذ النظام المصرفي). وقال روزفلت لاصدقائه: «الكولونيل ماكورميك مصاب بخلل عقلي». وفي سنة 1960، عارضت الصحيفة المرشح الديمقراطي جون كنيدي، وقالت: «تاجر والده في الويسكي الاسكتلندي بينما كان العالم يحارب النازية. ويصرف الآن ارباح الويسكي ليكون ابنه رئيسا لاميركا».

لكن، في سنة 1974، رغم انها ايدت الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون ثلاث مرات، انتقدته بسبب فضيحة «ووترغيت». وافتخرت بأنها كانت الصحيفة الاميركية الوحيدة التي نشرت نص الاتصالات التليفونية (ست صفحات كاملة) بين نيكسون ومساعديه، والتي اثبتت دوره في الفضيحة. ثم كتبت افتتاحية عنوانها: «اسمع يا مستر نيكسون» (لا الرئيس نيكسون). وخيرته بين ان يستقيل او يقيله الكونغرس. لكن عارضت افتتاحيتها ترشيح جيمي كارتر الديمقراطي، وايدت ترشيح رونالد ريغان الجمهوري (مرتين)، وترشيح جورج بوش الاب الجمهوري، وعارضت ترشيح بيل كلينتون الديمقراطي (مرتين)، وايدت ترشيح جورج بوش الابن الجمهوري (مرتين)، لهذا، في الصيف الماضي، توقع كل الناس ان تؤيد جون ماكين الجمهوري. لكنها، لاول مرة منذ ان دخل لينكولن مكتبها قبل مائة وخمسين سنة، ايدت مرشحا ديمقراطيا. وقبل اسبوعين من تأييدها له، انتقدها اوباما، وقال انها: «ظلت تؤيد الحزب الجمهوري عبر تاريخها». لكن، بعد اسبوعين، ايدته، وقالت: «منذ مائة وخمسين سنة، هذه اول مرة نؤيد فيها مرشحا ديمقراطيا لرئاسة الجمهورية».

وكسب اوباما، وكسبت «شيكاغو تريبيون».

والآن، يقف الرئيس المنتخب اوباما على مفترق طرق: هل سيتبرأ من صديقه حاكم الولاية؟ هل سيدافع عن صحيفة «شيكاغو تريبيون» التي ايدته لرئاسة الجمهورية؟ هل سيجامل صاحبها الملياردير زيل الذي يعتقد انه يقدر على بيع وشراء اي سياسي لخدمة مصالحه؟ امس قالت صحيفة «وول ستريت جورنال»: «غريبة، قبل شهر شهد العالم شيكاغو الرائعة، يوم فاز ابنها الاسود برئاسة الجمهورية. والآن، ها هو العالم يشاهد شيكاغو القديمة، بفسادها؟» (هذا ثالث حاكم في نفس الولاية يعتقل بتهمة الفساد خلال العشرين سنة الماضية). وهكذا، يبدو ان اول امتحان سيواجه اوباما هو «تغيير شيكاغو» قبل ان يغير الولايات المتحدة، وقبل ان يغير العالم.