البوسنة.. حرب بوسائل أخرى

13 عاما مرت على توقيع اتفاقية دايتون للسلام التي أنهت الحرب في البلاد وقسمتها إلى كيانين

رجل مسلم في سراييفو يترحم على ضحايا الحرب التي اندلعت بين 1992 و1995 (رويترز)
TT

13 عاما مرت على توقيع اتفاقية دايتون في 14 ديسمبر (كانون الاول) 1995 التي انهت الحرب في البوسنة ونصت على ان البوسنة دولة بكيانين هما «ربيبليكا صربسكا» والفيدرالية البوشناقية الكرواتية. أنهت دايتون الحرب لكنها أشعلت خلافات كثيرة حول مستقبل البوسنة. فلا يزال البوشناق والصرب والكروات حتى اليوم يختلفون... حتى على اليوم الوطني.

المحادثات الدرامية التي استمرت طوال 21 يوما في قاعدة دايتون بولاية أوهايو الأميركية في عام 1995، أدت الى توقيع كل من الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش والرئيس الكرواتي السابق فرانيو توجمان وآخر رئيس ليوغسلافيا السابقة سلوبودان ميلوسيفتش، بالاحرف الأولى، على وثيقة انهاء الحرب في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995. وأطلق على الوثيقة اسم اتفاقية دايتون للسلام في البوسنة، ونصت على أن البوسنة دولة واحدة بكيانين هما «ربيبليكا صربسكا» والفيدرالية البوشناقية الكرواتية. وكان سفير الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة ريتشارد هلبروك، عراب الاتفاقية ومهندسها. وفي 14 ديسمبر (كانون الاول) 1995 تم توقيع الاتفاقية في باريس رسميا بحضور دولي لافت، كضمان لتطبيق ما تم التوصل إليه بين مختلف الأطراف بضغط أميركي واضح.

والخلافات التي سبقت ورافقت وأعقبت توقيع الاتفاقية التي ينظر إليها كل طرف من زاوية مختلفة، بل متناقضة تماما، لا سيما اليوم، دفعت بهلبروك الى وصف الأوضاع هناك بأنها «أشد قتامة مما كانت عليه سنة 1992». وقال انها «تهدد بانهيار دولة البوسنة إذا لم تستفيق أوروبا». وذهب الى أبعد من ذلك عندما اتهم صرب البوسنة وروسيا بإثارة القلاقل في البوسنة، بعد عودة الدب إلى رقعة الشطرنج الدولية. أما مفوض شؤون توسيع الاتحاد الاوروبي أولي ريين، فقد وصف الأوضاع بأنها «صادمة». ومنذ توقيع اتفاقية دايتون لا يزال الخلاف قائما بين الأطراف الثلاثة ليس على القضايا الكبرى كتغيير الدستور وتوحيد الشرطة وانتخاب رئيس واحد بدل مجلس من ثلاثة رؤساء متشاكسون يختلفون حتى على تحديد تاريخ يحتفلون فيه باليوم الوطني. فالبوشناق يحتفلون باليوم الوطني في 25 ديسمبر ذكرى عقد أول اجتماع ضد الفاشية سنة 1943 بالبوسنة. بينما يحتفل الصرب باليوم الوطني في يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني). ورغم أن الكروات ووفقا لقانون الفيدرالية يحتفلون باليوم الوطني مع البوشناق إلا أنهم يحتفلون بيوم 18 نوفمبر كيوم وطني، وهو تاريخ تكوينهم لكيانهم الخاص المنحل هرسك بوسنة، سنة 1991. لكن عضو مجلس الرئاسة البوسني عن الكروات جيلكو كومشيتش، يؤكد أن يوم25 نوفمبر هو اليوم الوطني، ويقول انه «سيأتي اليوم الذي يحتفل فيه البوسنيون جميعا في وقت واحد» لكن ذلك يبقى أمل في حاجة للكثير من العمل ولا سيما من قبل المجتمع الدولي الذي فرض اتفاقية دايتون، وبامكانه النسج على نفس المنوال في مرحلة تهيئة البوسنة للاندماج في الاتحاد الاوروبي.

الصرب لا يخفون رغبتهم في الانفصال، في حال تهديد مكاسبهم التي حصلوا عليها في دايتون. والكروات يصرحون بميلهم إلى إقامة كيان ثالث خاص بهم في البوسنة على غرار الصرب، ولذلك يرفض الكروات اتخاذ تاريخ توقيع اتفاقية دايتون كيوم وطني. ويقول دراغن تشوفيتش، رئيس التجمع الكرواتي الديمقراطي لـ«الشرق الأوسط» ان «هناك امكانية للحديث عن كل نقاط الخلاف في مجلس الوزراء وعلى مستوى الفيدرالية وهناك فرصة لاحداث تغيير واضح العام المقبل». واعترف بصعوبة الوضع لا سيما بعد رفض البرلمان لاتفاق توصلت إليه الأحزاب الثلاثة الكبرى في البوسنة، ويتعلق بالاصلاحات المتفق عليها بين كبرى الاحزاب الصربية والبوشناقية والكرواتية. كما يرفض البوشناق اتخاذ ذكرى دايتون كيوم وطني، لأنه لا يحقق شروط قيام دولة طبيعية كبقية الدول الاوروبية أو حتى المجاورة بما في ذلك دولة كوسوفو الوليدة، وهو ما يؤكده عضو مجلس الرئاسة البوسني الدكتور حارث سيلاجيتش الذي يرى بأن الاتفاق الذي توصلت إليه الاحزاب القومية الكبرى في البوسنة يوم 8 نوفمبر الجاري «يقوي الكيانين بدل أن يبني دولة مركزية طبيعية». وطالب بأن تكون ممتلكات الدولة خاضعة للحكومة المركزية وليس للكيانين، معتبرا ذلك تهديدا لوحدة البوسنة الترابية. ويتهم سيلاجيتش المجتمع الدولي بخذلان البوسنة ويتساءل عما إذا كان المجتمع الدولي يريد تقوية دولة البوسنة، أو أنه قرر بعد 13 سنة على توقيع اتفاقية دايتون منح الصرب ما لم يستطيعوا الحصول عليه. ويقول أيضا إن كيان صرب البوسنة كان ثمرة للابادة التي تعرض لها المسلمون في تسعينات القرن العشرين. أما رئيس وزراء صرب البوسنة ميلوراد دوديك فهو يقول لـ«الشرق الأوسط» ان اتفاقية دايتون هي خطة ثابتة للبوسنة، ويرى ان يمكن الاندماج في الاتحاد الاوروبي من دون المساس بالكيانين. ونظرا لهذه الخلافات العميقة بين الافرقاء الثلاثة، قرر مجلس الأمن الأسبوع الماضي التمديد لقوات حفظ السلام الاوروبية «يوفور» المؤلفة من 2500 جندي والتي دار حديث حول سحبها من البوسنة نهاية العام واستبدالها بمراقبين مدنيين. كما أن هناك نية لتمديد مهمة البعثة الدولية، بعد تأزم الوضع، ليس على المستوى السياسي فحسب بل الأمني أيضا، حيث جرت مواجهات بين البوشناق والكروات في موستار بعد الاعتداء على شاب مسلم يدعى آزر ميديتش (16 سنة) لا يزال طريح غرفة العناية المركزة في المستشفى. وقد دخل الرئيس الصربي على خط الخلافات في البوسنة مؤكدا وقوف بلاده إلى جانب صرب البوسنة، وهو يقول إن «اتفاقية دايتون لا يمكن تغييرها إلا باتفاق جميع الأطراف»، وأن «صربيا تؤيد وحدة أراضي البوسنة، ولكنها تعتقد أن اتفاقية دايتون لا يمكن تغييرها من جانب واحد». ويعتبر أن «الاتفاقية ساهمت في بناء الاستقرار في كيان صرب البوسنة وفي الفيدرالية» وانها قدمت السلام في المنطقة، وهذا كاف لكي تحظى الاتفاقية على تأييد صربيا لها. وعلى نفس المنوال يعتبر رئيس وزراء البوسنة نيكولا شبيريتش الصربي، أنه «حان الوقت لاحداث تقدم»، ويقول: «يجب أن نحترم الدستور ولا يجب أن نتخاصم حتى لا نخسر ما عندنا».

بعد 13 عاما على توقيع الاتفاقية، زاد البوشناق من وتيرة المناداة بضرورة إحداث تغيير شامل في بنود اتفاقية دايتون، لا سيما تلك التي تنص على إقامة كيانين، مطالبين بإزالة كيان «ربيبليكا صربسكا» وإقامة دولة طبيعية مثل بقية الدول الاوروبية، ودول الجوار كصربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والجبل الاسود (مونتينيغرو)، وهي الجمهوريات التي كانت تمثل يوغسلافيا السابقة. ويقولون ان اصرارهم على هذا الامر هو أن صرب البوسنة يتصرفون كما لو أنهم دولة مستقلة وليس ككيان داخل الدولة، فهم مثلا يوقعون على اتفاقات دولية، ويرسلون بعثات دبلوماسية تحت غطاء المكاتب التجارية، ويتصرفون في ممتلكات الدولة كما لو أنها ملك خاص، وهو ما لا ينفيه صرب البوسنة.

ويذكر رئيس دائرة دول عدم الانحياز والبلاد العربية في مجلس الرئاسة البوسني الدبلوماسي أدهم باشيتش، أن رعاة اتفاقية دايتون جعلوا للاتفاقية سقفا متحركا يسمح بتطوير الاتفاقية لبناء دولة طبيعية مثلها مثل بقية الدول المستقلة، ولا سيما دول الجوار التي كانت جزءا من يوغسلافيا السابقة. وقال في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن اتفاقية دايتون كانت لانهاء الصراع الدامي في البوسنة في ذلك الوقت، وإعطاء فرصة للسلام وإعادة بناء ما هدمته الحرب وتهيئة مناخ ملائم لاجراء محادثات تطبيق الاصلاحات المطلوبة في أجواء مناسبة. ويرى باشيتش أن «الاتفاقية اشتملت على عدة بنود من المفروض الالتزام بها للوصول الى دولة لكافة الطوائف والديانات وإعطاء الناس حقوق متساوية على قاعدة المواطنة». وعن الحراك السياسي والجدل القائم بين مختلف الأطراف الإثنية في البوسنة، يقول: «نحن الآن في مرحلة معركة من أجل اصلاح الدستور، وفي رأيي أن هذه المعركة أشد المعارك بعد الحرب، فنحن ثلاثة شعوب، البوشناق والصرب والكروات والبوشناق يمثلون 64 في المائة والصرب 30 في المائة والبقية كروات وفي هذا التقسيم هناك تقسيم ديني، فالبوشناق مسلمون والصرب أرثوذوكس، والكروات كاثوليك»، ويضيف أنه «لا بد من الوئام الوطني فيما بيننا»، ويقول: «لولا أطماع الجيران، خاصة صربيا في زمن سلوبودان ميلوسيفيتش، لكان هذا الوئام سهلا وميسرا. لقد كانت اتفاقية دايتون من أجل ايقاف الحرب وهي في نفس الوقت دستور البلاد المؤقت». وذكر طرفة كان يخبرها لزملائه عندما كان سفيرا: «كنت أقول لهم إنتم تمثلون ملكا أو رئيسا أما أنا فأمثل ثلاثة رؤساء».

ويلفت باشيتش إلى وجود تقدم لكن غير كاف، ويقول: «طبعا بدأ المجتمع الدولي ممثلا في المندوب السامي، وبدعم من عدة جهات بما فيها الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، ومنظمة المؤتمر الاسلامي للعمل على تطوير المؤسسات والأنظمة التي ستؤدي إلى قيام دولة تستطيع العيش بأمن وسلام في المنطقة وتكون مؤهلة للانضمام إلى الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الأطلسي»، الا انه يعبر عن السلبية المتمثلة في تقاعس المجتمع الدولي عن متابعة الاصلاحات بوتيرة متلاحقة للوصول للهدف المرجو، وهو الاندماج في الاتحاد الاوروبي، بعد تغيير الدستور وتوحيد الشرطة وبقية الأنظمة الأخرى. ويشير باشيتش إلى التقدم الذي تم في البوسنة خلال السنوات التي أعقبت اتفاقية دايتون، ويقول: «هناك تقدم من دون شك على صعيد توحيد القوات المسلحة، وتوحيد حرس الحدود والجمارك على مستوى الدولة وكذلك الضرائب. وهناك أمور أخرى تحتاج لاحراز تقدم مثل ممتلكات الدولة فهناك من يريد تقسيم البوسنة من خلال هذه الممتلكات بجعلها من شؤون الكيانين وهذا يمثل خطرا بدون شك». ويرى بأن «توحيد الشرطة وطرق تمويلها وكذلك تعيين قيادتها يجب أن يكون على مستوى الدولة ووفق المهنية وليس الطائفية وكذلك استكمال عودة المهجرين، حيث لا يزال هناك مليون مهجر لم يعودوا لديارهم».

وحول الموقف الاوروبي الذي يعكسه المندوب السامي في البوسنة ميروسلاف لاييتشاك، يقول باشيتش إن «المندوب السامي يبحث عن صيغة توافقية لأسلوب اتخاذ القرار عبر تقوية السلطات التشريعية وإعطائها حق سن القوانين بدون رجوع إلى السلطات السياسية وغيرها في الكيانين». ويؤكد أن «الولايات المتحدة وأوروبا تحاولان الضغط على صربيا لتقديم تنازلات في كوسوفو عبر السماح لهم بالتشدد في البوسنة». ويوضح أن «المفوض السامي له الصلاحية الكاملة في تغيير اتفاقية دايتون أو تفسيرها وليس لجهة أخرى الحق، بما في ذلك مجلس الأمن نقضها». ويقول: «هناك دور كبير للمجتمع الدولي يجب القيام به لضمان مسيرة الاصلاحات وعليه عدم غض النظر عما يجري في دولة البوسنة لانه يؤثر على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة وأوروبا».