شبح «شغب الضواحي» يطوف باريس

7 ملايين شخص يعيشون تحت خط الفقر.. ومؤسسات الإعانة الاجتماعية تتهاوى تحت تكاثر الطلب عليها

شبان يمرون في نفق في بوندي احدى ضواحي باريس التي يسكنها عدد كبير من المهاجرين من شمال أفريقيا (خدمة: كي آر تي)
TT

على طرف باريس الشرقي تقع غابة فانسان، التي تشتهر بقلعتها التاريخية، التي استخدمت زمن الاحتلال الألماني للعاصمة الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية، كسجن للمقاومين وساحة للاعدام رميا بالرصاص. غابة فانسان هي إحدى الرئتين اللتين تتنفس عبرهما العاصمة الفرنسية، التي بعكس العاصمة البريطانية لندن، لا تمتلك مساحات خضراء واسعة داخلها. الا انه مؤخرا، أصبح المتنزه في غابة فانسان يتفاجأ، بعد أن يقطع بحيرتها، بمجموعة من الخيم المنصوبة داخلها، التي يراد لها ان تكون بمنأى عن عيون المتنزهين أو محبي رياضة الركض أو الهرولة. تبدو أشبه بقرية تتكون من عشرات الخيم يسكنها أفراد أصبحوا يعيشون على هامش المجتمع، بعد أن فقدوا السقف الذي يأويهم والعمل الذي يساعدهم على العيش، ولم يعودوا يملكون من المقتنيات سوى ما تقع عليه عين الناظر، خيمة ممزقة تنزلق من خلالها حبيبات المطر لتجعل أرضها وحلا، وسرير مهلهل وطاولة وكرسي وبعض أواني المطبخ... وطبقة من الأوساخ تغلف كل شيء.

يقول جيروم وهو رجل في الخمسين من عمره، كان يعمل سابقا في شركة لتوزيع الإسطوانات الموسيقية، إنه وصل الى فانسان لأنه يريد أن يكون «مالكا لبيته المتواضع» بعد أن فقد بيته الأصلي لعدم قدرته على تسديد القرض السكني، الذي حصل عليه من مصرفه. المصرف وضع يده على المنزل، الذي بيع بثمن بخس ليستوفي أمواله. عائلة جيروم تفرقت بعد أن تركته زوجته وفقد الإعانات الاجتماعية، التي كان يحصل عليها. ومنذ يوم الاثنين الماضي يتوجه جيروم كل مساء الى ساحة ناسيون القريبة من فانسان ليحصل على صحن من الحساء الساخن، الذي تقدمه «مطاعم القلب» المجانية التي أسسها الكوميدي المتوفي كولوش عام 1985، لإعانة المعوزين.

وبحسب أولفيه بيرت، رئيس هذه الجمعية، فإن سجلات الراغبين بالاستفادة من خدماتها زادت هذا العام بنسبة تتراوح ما بين 5 و10 بالمائة، وأصبحت تضم أكثر فأكثر اشخاصا متقدمين في السن وعمالا فقراء. وخلال العام الماضي، سجل على لوائح «مطاعم القلب» 700 ألف شخص استفادوا من 91 مليون وجبة غذائية وزعها 51 الف متطوع. وأفاد متخصصون بمناسبة يوم محاربة الفقر في باريس في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، بأن 7 ملايين من سكان فرنسا، بينهم مليونا طفل ومراهق، يعيشون تحت خط الفقر. وأفادت فيدرالية البنوك الغذائية، التي تجمع ما يقدم من الأغذية من المحال والمراكز التجارية والأفراد، بأن طلبات المساعدة ارتفعت بنسبة 8 بالمائة في الشهرين الأخيرين، ما يعني الحاجة لمساعدة 100 ألف شخص إضافي. وجاء في تقرير لمنظمة النجدة الشعبية، أن فئات جديدة من السكان أخذت تسعى للاستفادة مما تقدمه، وأن الطلبات المقدمة بهذا المعنى زادت بنسبة تتراوح ما بين 15 و20 بالمائة. وتعكس هذه الأرقام جزئيا حالة الازمة التي تعيشها فرنسا، إحدى أهم البلدان الصناعية في العالم. وفي هذا البلد، يموت الناس في الشوارع من البرد وأحيانا من الجوع. ولم تهبط بعد حرارة الطقس الشتوية في باريس وضاحيتها هذا العام دون الصفر، ولم تعرف المنطقة حتى الآن الصقيع الذي يضربها عدة أيام كل عام. ومع ذلك، فإن ستة من المشردين ماتوا في منطقة باريس بسبب البرد، أحدهم في غابة فانسان. وبحسب مؤسسة إيمايوس المعروفة، فإن 270 شخصا توفوا في الشوارع الفرنسية منذ عام. وفي العام الماضي، ثار ضجيج إعلامي وسياسي بعد أن قامت جمعية لمساعدة عديمي المأوى بنشر عشرات الخيم قريبا من قناة سان مارتان في قلب باريس، قريبا من ساحة الباستيل. لكن أجهزة الدولة نجحت في اقتلاعها بعد أيام بالترغيب والترهيب. وهذا العام، أثار موتى البرد نقاشا سياسيا واجتماعيا، بعد أن أعلنت وزيرة المدينة كريستين بوتان أن الواجب يقضي بسوق عديمي المأوى بالقوة الى المراكز الاجتماعية، عندما تكون حياتهم بخطر بسبب البرد. ورأى اخرون عكس ذلك، وعلى رأسهم رئيس الحكومة فرنسوا فيون. ووقف الرئيس نيكولا ساركوزي بين الطرفين طالبا درس الموضوع بشكل كاف، وتقديم مقترحات عملية. ويوم الأربعاء الماضي، طرح ساركوزي برنامجا اجتماعيا لمعالجة حالات الفقر المدقع التي تصيب فرنسا، إحدى أكبر القوى الاقتصادية الخمس في العالم. وفي اليوم التالي، ذهب الى مدينة دوا الشمالية، والى مصنع سيارات عائد لشركة رينو، ليكشف عن خطة طموحة قيمتها 26 مليار يورو لإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية ومساعدة القطاعات التي تعاني من الأزمة، وهي كثيرة.

ويقول جان بيار تارتران، وهو خبير مالي في أحد أهم المكاتب الاستشارية في باريس، «الأزمة اصبح لها اليوم وجه غير مليارات الدولارات المتبخرة في البورصات، التي كان المواطن يسمع بها من بعيد وكأنها لا تعنيه. لقد وصلت الى اللحم الحي، وأخذت تصيب الاقتصاد الحقيقي اليومي المعاش، ولذا فإن كل استطلاعات الرأي تفيد بأن الناس خائفون على عملهم وعلى مستواهم المعيشي وعلى مستقبل أولادهم». وأضاف جان بيار تارتران أن «تصرف المواطن ـ المستهلك أخذ يتغير حتى في هذه الفترة التي تسبق الأعياد (الميلاد ورأس السنة) التي عادة تعرف فورة استهلاكية حادة».

والحقيقة أن كل الدراسات والتحقيقات تنبئ باستفحال الأزمة، ما يبرز في تراجع الاستهلاك مزدوج المصدر: هبوط القدرة الشرائية والخوف من المستقبل. ويقول إيف مارتينيز، وهو مسؤول مبيعات في مركز تجاري ضخم على مدخل باريس الغربي، أي في حي بورجوازي للغاية، ان «الناس أخذت تغير عاداتها وتصرفاتها الاستهلاكية، إذ هجر جزء منهم هذا النوع من المخازن الغالية نسبيا، واتجه الى المحلات الأرخص»، التي كانت بداية مقصد الشريحة الدنيا. ولم ينج أي قطاع من الأزمة، بما في ذلك الكنائس التي انخفض دخلها من تبرعات المؤمنين. وعلى سبيل المثال فإن أماكن العبادة في منطقة أيسون، جنوب العاصمة، تراجعت عائداتها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) بنسبة 17 بالمائة. وخلال الأشهر العشرة من السنة الحالية، لم تجمع سوى 3.5 مليون يورو، أي ما يعني أنها تفتقد على الأقل لـ300 ألف يورو لتغطية نفقاتها العادية، وهو ما قد يفضي الى تسريح عدد من العاملين لديها لعدم قدرتها على تحمل أعبائهم.

وكانت المطاعم الباريسية، والفرنسية بشكل عام، أحد أهم القطاعات المزدهرة. غير أن هذا القطاع نفسه لحقت به الأزمة فازدادت وتيرة إغلاق المطاعم بشكل مقلق. وبحسب الأرقام الرسمية، فإن وتيرة الإغلاق ارتفعت بنسبة 56 بالمائة خلال عام. وفي عام 2008، أفلست 610 مؤسسات، ومئات من المؤسسات الأخرى تسير على خطاها. وتسارعت هذه الوتيرة في الأشهر الأخيرة، ما دفع بنقابة أصحاب المطاعم والفنادق الى الالتفات صوب الدولة، لحثها على خفض قيمة الضريبة المضافة المفروضة على مبيعاتها، التي ترى أنها أحد أهم العوامل التي تهرب المستهلك. ذلك أن أسعار المطاعم شهدت في الأعوام الثلاثة الأخيرة ارتفاعا كبيرا لا يشجع المستهلكين على ريادتها، في زمن التضخم وتراجع القدرة الشرائية. ويقول كان كلود ماريني وهو صاحب مقهى ـ مطعم في حي «ليه هال» وسط باريس، ان نسبة كبيرة من زبائنه تطلب الوجبات المنخفضة الثمن وتمتنع عن طلب النبيذ أو المشروبات الأخرى. ويؤكد ماريني أن عائداته تراجعت منذ الصيف بنسبة 30 بالمائة، ما دفعه الى تسريح اثنين من موظفيه، وربما قد يسرح آخرين إذا بقيت الأمور على هذا المنوال. والمطاعم الباهظة أخذت تعدل أيضا في لائحة طعامها وأسعارها، وتقترح وجبات رخيصة في متناول كل الميزانيات للتعويض عن فقدانها زبائن الدرجة الأولى. والى جانب كل هذه القطاعات التي تأثرت بالازمة الاقتصادية، يبقى ان القطاع الاقتصادي الأول الذي أصابته الأزمة هو بكل تأكيد قطاع العقارات والبناء. فعمليات بيع المساكن الجديدة تراجعت في الفصل الثالث من العام الجاري بنسبة 44 بالمائة، فيما الخبراء يرجحون استمرارها للعام القادم وإصابتها بخسائر إضافية قد تصل الى ثلاثين بالمائة. ومع تراجع المبيعات، تراجعت الأسعار بنسب مختلفة واستطالت المهل التي يمكن خلالها بيع المعروض من العقارات. وزاد التراجع في بعض المناطق على عشرين بالمائة في ما اسعار الفائدة استمرت في الارتفاع. وبسبب أزمة الرهن العقاري، أخذت المصارف تتشدد في إعطاء القروض، ما ساهم في إبطاء الحركة. وبسبب كل ذلك والخوف من المستقبل، فإن حركة البناء تراجعت بدورها. وخلال شهري أغسطس (آب) وأكتوبر (تشرين الأول)، هبطت هذه الحركة بنسبة تزيد على 25 بالمائة، قياسا بما كانت عليه في العام الذي سبقه. وهذا التباطؤ أخذ ينعكس تسريحات جماعية وصلت الى حدود فقدان 30 ألف فرصة عمل، علما بأن قطاع البناء هو من أكثر القطاعات توفيرا لهذه الفرص. ومن أجل تفادي انعكاسات هذا الوضع الناشئ، أعلن ساركوزي عن تكريس مبلغ 1.8 مليار يورو للقطاع العقاري، يستهدف بناء 70 ألف وحدة سكنية مخصصة لذوي الدخل المحدود. كذلك وعد الرئيس الفرنسي بمضاعفة قيمة القروض المجانية التي تضمنها الدولة لمساعدة الأفراد على شراء المنازل الجديدة لدعم السوق وتشجيع الساعين الى الشراء، عبر خفض كلفة الفائدة على الاستقراض ما سيحد في الوقت عينه من ارتفاع أرقام البطالة التي أخذت تعطي مؤشرات مقلقة. ويوم الخميس، نشر معهد الإحصاء الوطني الفرنسي أرقاما مقلقة، إذ أظهرت أن عديد العاطلين عن العمل في فرنسا اجتاز مجددا عتبة المليوني عاطل، ليصل الى نسبة 7.3 بالمائة. وترتفع هذه النسبة الى 7.7 بالمائة في حال احتساب أرقام المناطق الفرنسية ما وراء البحار. وتذهب وكالة الإحصاء الأوروبية «يوروستات» الى أبعد من ذلك، اذ قالت في نشرتها الصادرة يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، أن البطالة أخذت تصيب 8.2 بالمائة من الذين في سن العمل في فرنسا. وليس سرا أن ارتفاع البطالة زادت من الضغوط المالية والخدماتية على صناديق واجهزة الرعاية الاجتماعية والصحية ووكالات التشغيل. ومع تفاعل الأزمة، فإن أرقام البطالة مرشحة للتصاعد، ما سيزيد من حدة المشاكل الاجتماعية. ويفيد تقرير رفع الى رئيس الجمهورية وبقي بعيدا عن الأضواء، بأن ثمة مخاوف من أن تنعكس الأزمة قلاقل اجتماعية العام القادم، ما يذكر بما عرفته ضواحي العاصمة والمدن الكبرى خريف عام 2005، عندما اضطرت الدولة لفرض حالة الطوارئ لمواجهة أعمال شغب وإحراق السيارات ومهاجمة المباني الرسمية.

ويعد أيضا قطاع السيارات من القطاعات الأكثر تأثرا بالأزمة المالية العالمية. وبدأ هذا القطاع بإصدار إشارات مقلقة في الأسابيع الأخيرة، إذ أن ارقام الشركات الناشطة فيه تفيد بأن مخزونها من السيارات الجاهزة وصل الى مليون سيارة بقيمة تزيد على 15 مليار يورو. كذلك فإن مبيعات الشركتين الفرنسيتين الرئيسيتين (رينو وبيجو ـ سيتروين) تراجعت بنسبة 7 بالمائة خلال شهر أكتوبر، كما تراجعت حصتها من السوق الفرنسية الى 53 بالمائة. وللأشهر الـ11 المنصرمة من العام الجاري، بلغ تراجع المبيعات 14 بالمائة. وذهب رئيس شركة رينو ومديرها العام كارلوس غصن اللبناني الأصل، الى التحذير من الهوة التي تسير اليها هذه الصناعة خلال العام القادم، بسبب تراجع مبيعاتها من جهة، وبسبب صعوبة حصولها على قروض مصرفية لتمويل عملياتها ومواجهة استحقاقات ديونها. وتبلغ ديون رينو وبيجو ـ سيتروين، أقل بقليل من عشرة مليارات يورو. وفي خطاب ألقاه في طوكيو بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ150 لإقامة علاقات دبلوماسية بين طوكيو وباريس، قال غصن إن البلد الذي لا يقدم مساعدات كبيرة لقطاع السيارات سيشهد «تدميرا مكثفا لفرص العمل» فيه. وحذر غصن من أن صانعي السيارات والشركات التي تعمل لها والموزعين «عاجزون عن الاستدانة بسبب الفائدة المرتفعة». ولتحاشي خسائر أكبر، عمدت الشركات الفرنسية الى فرض تعطيل جزئي لمصانعها، لمنع تراكم المخزون ولتخفيف أعبائها المالية، كما بدأ العمل بخطط لتسريح نسبة من الموظفين وخفض القدرات الإنتاجية لتتلاءم مع حالة السوق. وكانت الشركات الأوروبية قد طالبت بمساعدات تصل الى 40 مليار يورو.

وأعلن ساركوزي الاسبوع الماضي عن خطة لمساعدة صانعي السيارات، تقضي بان تدفع الدولة ألف يورو لكل مستهلك يتخلص من سيارته القديمة لشراء سيارة جديدة منخفضة تلويث البيئة. ولم ينس ساركوزي الشركات التي تعمل لصانعي السيارات (تجهيز، كهربائيات الكترونيات، بلاستيك...) التي رصد لها إقامة صندوق برأسمال قدره 300 مليون يورو، لمساعدتها على مواجهة الأزمة. وفي أي حال، فإن ما يصيب هذه الشركات يصيب ايضا شركات القطاعات الأخرى الصغيرة والمتوسطة التي تعاني من الوضع عينه، وخصوصا تراجع مبيعاتها وأرباحها بنسب تصل احيانا الى 30 بالمائة، يضاف اليها صعوبة الحصول على قروض مصرفية. والحال أن المصارف الفرنسية التي خسرت في الأزمة الأخيرة ما يزيد على 11 مليار يورو، ما زالت تتردد في الاستجابة للطلبات المقدمة اليها رغم الخطة الحكومية، التي وضعت لإنقاذها من الإفلاس ومساعدتها على توفير السيولة لاستعادة الدورة الاقتصادية نشاطها. ويتعين على المصارف إعادة تمويل ديون تصل الى 90 مليار يورو العام القادم. وقد أخذت المصارف تضع خططا للتخلص من نسبة من موظفيها، وهو حال شركات التأمين، إذ أن شركة «سي ان بي أنشورانس»، أعلنت تراجعا في المبيعات وصل الى عشرين مليار يورو. وتكر سبحة الخسائر والقطاعات المتضررة، ومعها المطالب والتذمر على أنواعه. ويتوقع الكثيرون شتاء «حارا» وعاما جديدا «ساخنا»، بالنظر لتراكم أسباب النقمة وعجز موارد الدولة عن مواجهتها جميعا... وفي وقت واحد.