دبي الحلم.. هل تصمد أمام الإعصار؟

القطاع العقاري أكبر المتأثرين مع تسريح المئات.. وكثيرون يراهنون على تحسن الأحوال بعد فترة

عمال أجانب في ورشة بناء في دبي (أ.ف.ب)
TT

كانت ثمانية أعوام عامرة بالنجاح والمثابرة والاقتراب من تحقيق حلمها. هكذا كانت مسيرة رانيا حماد التي راحت تتنقل بين كبريات الشركات في دبي، قبل أن تجد ضالتها في شركة دبي للعقارات المملوكة من الحكومة المحلية. فانتقلت للعمل فيها بعد أن وجدت فيها فرصة يصعب تفويتها. كان ذلك قبل ثلاثة أشهر فقط. إلا ان عملية تسريح الموظفين التي بدأتها الشركة شملت رانيا التي ركبت موجتها العاتية، فوجدت نفسها فجأة عاطلة عن العمل.

رانيا ليست واحدة من المئات، وربما الآلاف، الذين وجدوا أنفسهم خارج حسابات المنشآت التي يعملون فيها في دبي أخيرا. فبعد أن كانت الشركات هي التي تلاحقهم وتبحث عنهم بل وتغريهم لقبول وظيفة لديهم، أصبح هؤلاء الموظفون عالة على ميزانية الشركات. وحتى الشركات التي لم تستغن عن موظفيها، أو جزء منهم، فإنها عمدت أو ستعمد الى تخفيض أجورهم، تماشيا مع تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية وتوابعها المزلزلة. دبي التي كانت، حتى أشهر قليلة فقط، أرض الأحلام والثروة بالنسبة لآلاف الشبان والشابات العرب الباحثين عن مستقبل واعد ووظائف تؤمن لهم مدخولا وافرا، حتى جاءت الأزمة العالمية بتداعياتها. فمنذ هبوب الطفرة الاقتصادية على دبي مطلع الألفية الحالية، ظلت دبي مطمحا للعديد من الشباب العرب، الذين يسمعون عن معادلة دبي السحرية، ويتمنون أن تطأ أقدامهم أرض الأحلام. بل انه حتى قبل أشهر قليلة كانت هذه الإمارة الساحرة على ضفاف الخليج العربي، المكان المفضل للعديد من الرؤساء التنفيذيين حول العالم. غير أن بقاء الحال من المحال، فهبت دائرة رياح الأزمة المالية العالمية، وكان وقعها الأشد على دبي التي أصابها شيء من غبار الأزمة، فنثرت أحلاما عديدة رأت فيها ملاذا آمنا، وتحولت أحلام الثروة إلى مجرد البقاء في مأمن من عمليات تسريح واسعة شهدتها دبي في الأسابيع الماضية، ويتوقع أن تشهد المزيد منها في العام المقبل.

وإذا كان كبار اقتصاديي العالم يؤكدون أن الأزمة المالية العالمية «لم تكشف عن الأسوأ بعد»، فإن منطقة الخليج هي الأكثر أمانا، مقارنة بنظيرتها مناطق أخرى حول العالم، لكن ذلك لم يمنع من أن تكون دبي تحديدا هي الأكثر تأثرا في المنطقة الخليجية، والسبب بسيط جدا: فالإمارة لا تتمتع بثروات نفطية تساعدها على تخطي هذه الأزمة دون عمليات جراحية موجعة، إضافة إلى اعتماد اقتصاد دبي على نطاق واسع على الطفرة العقارية، وارتباط الأزمة المالية بالقطاع العقاري على وجه الخصوص.

ولأن الطفرة في دبي بدأت عقاريا وتضخمت حتى بلغت آفاقا غير مسبوقة، كان الكي هو أول العلاج، وللمفارقة لم يكن هنا آخره، على كاهل العاملين في الشركات العقارية تحديدا. فوقعت الفأس وبقوة على العاملين في هذا الشركات. فهذه الأخيرة تبحث بكل الطرق والوسائل لتقليل تكاليفها لمواجهة الأزمة المالية. ولعل ما يزيد من وطأة الأزمة، أنها أيضا عرجت على مصارف عالمية تأخذ من دبي مقرات إقليمية لها، فأقدمت مصارف عالمية مثل مورغان ستانلي، وكريدت سويس، وغولدمان ساكس، على تخفيض عدد الموظفين الإقليميين لديها فعلياً بنسبة 10 في المائة. غير أنه يمكن القول، على الأقل حتى الآن، إن الأزمة لم تعصف إلا بالقطاع العقاري بشكل يبدو واضحا للعيان.

كان الخبر الأبرز في مجالات تسريح الموظفين الحالمين بدفء وثروة دبي، هو قيام شركة «نخيل»، وهي الشركة المطوّرة للساحل التي تملكها الحكومة، بتسريح نحو 500 موظف لديها قالت انهم من الفائضين، أي ما يعادل 15 بالمائة من مجموع العاملين في هذه الشركة الضخمة. كما أعلنت شركة «داماك» القابضة عن إلغاء 200 وظيفة، وسط معلومات تسريح شركة «إعمار» لموظفين لم تحدد أعدادهم بعد. وتذهب التوقعات أن دبي مقبلة على تسريح أكثر من خمسة آلاف موظف خلال الثلاثة أشهر المقبلة.

تقول رانيا حماد، وهي أردنية من أصل فلسطيني، إنها تعرف شخصيا عشرة موظفين تم تسريحهم من شركات عاملة في دبي. ومع ذلك، فان رانيا لا تفكر إطلاقا بمغادرة دبي، وعندما سألتها ان كان لديها عروض عمل حاليا، كانت الإجابة بسيطة: لا. إلا انها اضافت: "أنا والأشخاص العشرة الباقون الذين أعرفهم والذين تم تسريحهم من وظائفهم أيضا، نعرف بأننا لن نلقى عملا مناسبا في بلادنا، فأين سنذهب؟ دبي ستظل المكان الآمن، نسبيا، حتى لو سرحنا حاليا، لكننا بالتأكيد سنجد عملا هنا... لنا سنوات من الإقامة وبالإمكان إيجاد عمل بديل خلال فترة قصيرة».

هذا ما تتمناه رانيا، وغالبية المسرَّحين من وظائفهم. لكن محللين يقولون ان تأثير عمليات تسريح الموظفين على الاقتصاد الحقيقي قد يكون شديد الوطأة، خاصة في اقتصاد يمثل فيه الوافدون أكثر من 80 بالمائة من القوة العاملة، ولا يحق لهم الإقامة إلا بتأشيرات عمل.

والسؤال الذي يشغل الجميع: هل تبخر حلم العمل في دبي لمئات الآلاف من الشبان العرب من دون عودة ؟ وهل اقتربت نهاية أسطورة المشاريع الحالمة لدبي التي وصلت أصقاع الدنيا؟

يقول الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات، إن دبي كانت منذ عشر سنوات محطة للكفاءات العربية الشابة، مضيفا انها ظلت تؤدي وظيفة مهمة في جذب هذه الكفاءات العربية، ويقول ان الكثيرين كانوا يأتون لدبي للحصول على خبرة ثم يسوقون لانفسهم في أماكن أخرى من العالم. ويضيف ان دبي كانت تقوم بإعادة تصدير هذه الكفاءات بدلا من قاعدة هجرة العقول العربية السابقة إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، «بل إن دبي أدت هذا الدور في عز الأزمات التي عصفت بالمنطقة».

ويعتقد عبد الله أن جذب الكفاءات الى دبي «كان من قبل مؤسسات خاصة وليس من قبل شركات تابعة لحكومة دبي، وحتى هذه المؤسسات لم تطرد أو تتخلص من هؤلاء الموظفين، بل كانت قاعدة السوق التي تأتي لإعتبارات ربحية، وعندما تمر هذه الشركات بأزمات تتصرف كأي مؤسسة في العالم».

ويعترف عبد الله بأن الأزمة المالية ستتسبب بأضرار لاقتصاد دبي، «فاقتصاد العالم يمر بفترة استثنائية وصعبة جدا، وعندما تشتد هذه الأزمة فإنها تزداد عمقا»، ولكنه يضيف: «بالرغم من أن فرص العمل ستقل خلال الفترة المقبلة، لكني أؤمن بأن دبي ستبقى، بعد فترة استثنائية، قبلة للشباب العربي وحلما قابلا للتحقيق، مهما كانت ضريبة الأزمة المالية العالمية على دبي».

الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم حسين يرفض قطعا أن يكون «الحلم الدبياوي» قد شارف على الانتهاء، مؤكدا أن دبي لا تزال تمثل حلما للشباب العربي، ويقول: «أعتقد أن ما حدث سببه تداعيات لأزمة شملت العالم أجمع، صحيح أن تأثير الأزمة سيكون شديدا على دبي، لكن من المهم أن نعرف جليا أن الإمارة لم تكن السبب إطلاقا في نشوء هذه الأزمة، بل إنها أتت من الولايات المتحدة ولأسباب تتعلق بالعولمة وصلت لدبي بالرغم من أنها لم تنطلق منها».

ويقول حسين إن دبي لن تكون بمنأى عن التأثيرات السلبية التي شملت العالم أجمع، «لكنها أيضا تتعامل بالطريقة الصحيحة للتعاطي مع هذه الأزمة، ويثق المراقبون في أن دبي ستنجح في التكيف مع تخطي هذه المصاعب التي تواجه اقتصادها، وبالتالي ستصمد أمام رياح هذه الأزمة العاتية في نهاية الأمر». ويضيف أن هناك العديد من القطاعات التي ما زالت تواصل نموها ولم تتأثر كثيرا بتداعيات الأزمة، «مثل قطاع الطيران الذي لم يتأثر كثيرا، وكذلك أعداد الزائرين لدبي عبر مطارها، كل هذا يرجح أن تستمر دبي في مكانتها الرفيعة كقبلة للراغبين بالنجاح سواء من رجال الأعمال أو حتى من الطامحين».

كثيرون عندما يتحدثون ويحللون تأثير الأزمة المالية العالمية على دبي، يتناسون أمرا بالغ الأهمية. فاقتصاد دبي، رغم النظام الفيدرالي الذي تتبعه دولة الامارات العربية المتحدة، لا ينظر اليه على انه مستقل عن اقتصاد الدولة ككل، ومعنى ذلك أن التأثير مهما عظم، فإنه سيكون أقل وطأة حينما يوضع في الإطار الذي يضع دبي كجزء من دولة الإمارات، خامس أكبر مصدر للنفط في العالم.

ووفقا لتقرير حديث صادر عن «إف جي هيرميس»، فإن الإمارات ستتمكن من تخفيف وطأة تداعيات أزمة المال العالمية على اقتصاداتها، حتى في حال تراجعت أسعار برميل النفط دون 44 دولاراً، باستخدام الفوائض المالية التي أدخرتها سابقاً، إضافة الى أصولها بالعملة الأجنبية، لتمويل مشاريع البنية التحتية والسياحة والعقار، ودعم قطاعها المالي.

ويشير التقرير إلى أن اقتصاد الإمارات «سيبقى قوياً ويشهد نمواً، بفضل مقاومة القطاعات غير النفطية، التي تمكنت الدولة من تطويرها، لتحمي اقتصادها وقت الأزمات وفي دورات تراجع أسعار النفط». وعلى رغم ترجيح مؤسسة «إف جي هيرميس» تراجع نمو الاستهلاك من قبل القطاع الخاص، وتباطؤ حركة تدفق العمال الأجانب اليها، توقعت أن تتجه أنظار المستثمرين في العالم إلى الإمارات وأسواق الخليج عموماً، في ظل فقدان الأسواق العالمية جاذبيتها بسبب الأخطار العالية التي تصاحب الاستثمار فيها.

خالد مزين، شاب قادم من مصر كان يعمل في المجال العقاري في دبي، يقول انه حقق نصف حلمه بالقدوم إلى دبي للعمل، ولكنه بعد أقل من عام على وصوله ها هو قد وجد نفسه من دون عمل. ويقول: «لا أنكر أنني حققت مالا وفيرا خلال العام الذي عملت فيه هنا، لكن أين هذا المال، لقد تبخر كما تبخرت آمالي بعد تسريحي من العمل».

لا يبدو خالد متفائلا، مثل رانيا. فهو يعتقد أنه لن يجد وظيفة أخرى بسهولة، ويقول: «هناك المئات أمثالي يبحثون عن عمل، هل تعتقد أنني أملك مواصفات خارقة لأجد وظيفة هنا، في الوقت الذي يسرح فيه الآلاف؟ بالتأكيد هي مهمة شبه مستحيلة، لا أخفيك أنه لم يتبق من إقامتي سوى أشهر قليلة، ولا أجد أي بصيص أمل لإيجاد وظيفة أخرى، وليس أمامي سوى العودة لبلادي. عندها ستتفاقم مصيبتي مصيبتين، فلدي أسرة أصرف عليها، وكما هو البحث حاليا عن وظيفة في دبي أمرا صعبا، خاصة لنا العاملين في القطاع العقاري، ستكون المشكلة معقدة في مصر. من سيوظفني هناك؟ ألم تؤثر الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد المصري والشركات العاملة به؟».

وإذا كانت دبي قد اجتذبت مئات الآلاف من العرب والأجانب على مر السنوات الماضية، فإن قطاع العقارات كان الأكثر جذبا لكثير من هؤلاء، خاصة في ظل المغريات المادية التي كانت تقدم لهم. فالمؤسسات العقارية كانت هي الطريق الذي فتح الباب أمام كثير من القطاعات لتنتعش، لكن وفي ظل الأزمة التي يبدو أنها تعصف بشدة بقطاع العقارات في دبي، فإن موظفي الشركات العقارية الكبرى والصغرى بطبيعة الحال، أصبحوا هم أكثر من يعيش أجواء القلق. وإن لم يكن الخوف من التسريح النهائي من العمل، فهو الخوف من تخفيض الأجر، خاصة بعد أن أعلنت شركة «نخيل» عن حملتها الكبرى بتسريحها مئات الموظفين، حيث يتوقع محللون أن يفتح هذا الإعلان الطريق أمام إعلانات أخرى مماثلة من قبل شركات عقارية في دبي.

ويرى محللون أن من حق جميع موظفي القطاع العقاري في دبي أن يخافوا على مستقبلهم الوظيفي في هذا الأزمة،  خاصة أن أول من تفكر أي شركة عقارية بالاستغناء عنهم في أي خطوة من هذا النوع هم العاملون في قطاع التسويق العقاري.

ويعتقد المحللون أن فكرة التسريح هي فكرة موجودة أساسا في استراتيجيات ادارة الأزمة للشركات العقارية، وبالتالي فإن تراجع الطلب وانحسار السيولة اديا الى تقلص المبيعات في القطاع، ومن ثم أصبح من السهل التخلي عن موظفي أقسام التسويق والمبيعات بسهولة اكبر، الامر الذي يجعل هؤلاء الحلقة الأضعف في سلسلة التسريحات. ويرى المحلل الاقتصادي جاسم الصانع أن الطفرة العمرانية التي شهدتها دبي في السنوات الماضية دفعت بالشركات العقارية الى توظيف المئات في أقسام التسويق وزادت من إمكانات هذه الأقسام حتى باتت بعض الشركات تولي اهتماما خاصا لها، وكان ذلك ياتي بدفع مما كان عليه الحال من جنون الطلب على العقار في دبي. ويضيف انه اليوم وقد استحكمت الأزمة في القطاع العقاري، وخف حجم الطلب على العقارات سواء الجاهز منها او المخطط، فقد أصبح من السهل ان يتم الاستغناء عنهم لان وجودهم مرتبط بوجود الإقبال على الشراء.

ويشبه الصانع العملية بتداعي أحجار لعبة الدومينو. فخفض عدد موظفي التسويق العقاري في شركة ما، يعني الاستغناء عن الكوادر البشرية الرديفة لعمل أقسام التسويق كتخفيض عدد العاملين في القسم المالي والعلاقات العامة والاتصالات مثلا. حلم دبي، بالرغم من كل الصعوبات، يبدو انه لا يزال صامدا أمام أسوأ أزمة تشهدها الامارة.. حتى الان. لكن كما قال الخبير الاقتصادي جاسم حسين، «لا أحد يستطيع أن يحدد ما يمكن أن تصل إليه الأزمة مستقبلا».