كركوك.. «قدس» الأكراد

غياب مسح سكاني عن المدينة يشجع كلا من الأكراد والعرب للادعاء بأنهم أكثرية والتمسك بحلولهم كمخرج وحيد للمشكلة

عراقيون أكراد في شوارع أربيل (أ.ف.ب)
TT

على مدخل مدينة كركوك التي تبعد 250 كيلومترا شمال العاصمة العراقية بغداد، رفعت قبل يومين لوحة دلالة جديدة خاصة بالمحافظة. ما يميز هذه اللوحة أنها تحمل كلمات مكتوبة بلغات أربع: العربية والكردية والتركمانية والسريانية.

تختصر هذه اللوحة مشكلة كركوك المعقدة والعصية على الحل، بسبب قومياتها المتعددة والتي تريد كل منها حصصا متساوية في ادارة المدينة.

تقع كركوك على أطلال المدينة الآشورية القديمة اررابخا الذي يقدر عمرها بحوالي 5000 سنة. وبسبب أهمية موقعها الجغرافي بين الإمبراطوريات البابلية والآشورية والميدية، شهدت كركوك معارك عديدة بين تلك الإمبراطوريات المتصارعة والتي بسطت سيطرتها على المدينة في فترات تاريخية متباينة. وابرز ما يميز هذه المدينة تاريخيا وجغرافيا، هو وجود قلعتها التاريخية التي تنتصب وسط مركز المدينة، وتبدو أشبه بتل وعمرها نحو خمسة آلاف سنة. ولا تزال آثار السور الذي شيده اسكندر المقدوني في هذه القلعة قائمة حتى اليوم. يصف المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ في كتاباته عن كركوك: «على أرض ارباخي (أي كركوك) تشاهد نيرانا مشتعلة دائمة وتغطيها أنهار من النفط». وعرفت كركوك في عهد الساسانيين بكرمكان، التي تعني الأرض الحارة الذي تحول إلى جرمقان أو جرميق في العربية وكرميان بالكردية.

النار المشتعلة التي اشار اليها المؤرخ اليوناني بلوتارخ، والارض الحارة، حسب تسمية الساسانيين، جاءتا بسبب اشتعال النار في الارض، او خروج اللهب من فتحات كثيرة في حقل «بابا كركر» لوجود تكسرات في الطبقات الارضية للحقل النفطي. ولهذا سميت هذه النار بـ«النار الازلية» التي تتوهج ليلا ونهارا مثل الدليل الى مدينة كركوك، ومنذ اكثر من اربعة الاف عام.

وبحسب خبراء النفط العراقيين، فان نحو 10 في المائة من النفط في العالم، يوجد في حقول كركوك وبقية حقول النفط العراقية، خاصة في الجنوب. وكانت اول آبار النفط في العراق قد ظهرت في كركوك، منطقة بابا كركر، في العام 1927، عندما حصل تدفق تلقائي كبير للنفط، ما دفع بشركة النفط العراقية الى البدء باستخراج النفط بصورة منظمة من حقل بابا كركر في سنة 1934، علما أن استخراج النفط كان يتم قبل هذا التاريخ بطرق بدائية. وتقدر كمية المخزون الاحتياطي لحقول النفط في كركوك بأكثر من 10 مليار برميل بقدرة إنتاجية قدرها 750 ألف برميل إلى مليون برميل يوميا.

وهناك حقول نفط أخرى في كركوك الى جانب حقل بابا كركر. وما يميز هذه الحقول، ليس غزارة انتاجها فحسب، بل جودة نفطها ايضا الذي يعتبر من النفوط الخفيفة القياسية. وبدلا من ان يسهم النفط في بناء المدينة وتطورها ويتسبب في الرخاء الاقتصادي لسكان كركوك، فقد تحول «الذهب الاسود» الى نقمة على المدينة وتسبب في كثير من المشاكل لمكوناتها العرقية من الاكراد الذين يصرون على كردستانية المدينة، والتركمان الذين يؤكدون انهم المكون الأساسي الأول في المدينة، والعرب الذين يعتبرون كركوك مدينة عربية اصلا.

وعلى حد قول السياسي الكردي المستقل محمود عثمان، عضو مجلس النواب العراقي، فان النفط كان وما يزال يشكل السبب الرئيس لعدم اعطاء كركوك الهوية الكردستانية. ويعتبر عثمان من ابرز الشخصيات الكردية التي شاركت في جميع المفاوضات مع الحكومات العراقية لإيجاد حل للقضية الكردية.

وفي اتصال هاتفي مع «الشرق الاوسط»، قال عثمان من مكتبه ببغداد، انه منذ اول مفاوضات شارك فيها مع وفد كردي مع الحكومة العراقية عام 1963 وحتى آخر مفاوضات في العام 1991، كانت كركوك العقبة الرئيسية في الوصول الى حلول مناسبة للقضية الكردية. وعدد عثمان عدد المرات التي عقد فيها جلسات مفاوضات مع الحكومة العراقية حول كركوك، وشارك هو نفسه فيها، وأول جلسة مفاوضات بدأت في العام 1963، مع اول حكومة بعثية جاءت بعد مقتل عبد الكريم قاسم، ثم في العام 1964 مع رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز، وفي العام 1966 مع البزاز والرئيس عبد الرحمن عارف، وفي عامي 1969 1970 مع الحكومة البعثية الثانية. ويضيف انه جرت المفاوضات مع صدام حسين عندما كان نائبا للرئيس احمد حسن البكر، وكذلك في مفاوضات عام 1979، واعقبتها لقاءات خلال الثمانينات، وكانت المرة الاخيرة التي حصلت فيها مفاوضات مع الحكومة العراقية عام 1991 بعد غزو القوات العراقية للكويت.

ويؤكد السياسي الكردي ان كركوك كانت تبرز كعقبة لشل اي مفاوضات مع الحكومات العراقية، ويقول: «نحن الاكراد نصر على ان مدينة كركوك تقع ضمن جغرافية كردستان، وهي تشكل الحدود الجنوبية للاقليم، مع اننا لا نقول انها مدينة كردية، أي ان سكانها جميعهم من الاكراد، بل كردستانية، اي انها ضمن جغرافيا كردستان». ويضيف: «ان الحكومات العراقية كانت تعارض ضمها للإقليم، وتعتبر مسألة ضم كركوك من اخطر القضايا، لاعتقادها ان مطالبة الاكراد بضم كركوك الى كردستان هي بسبب النفط الذي سيكون قاعدة اقتصادية للأكراد تمكنهم من الانفصال سياسيا عن العراق».

ويؤكد عثمان ان الاكراد لا ينظرون لكركوك «من زاوية النفط»، ويقول انه «اينما تحفر اليوم في العراق تعثر على النفط». اقليم كردستان ليس بحاجة الى نفط كركوك، بحسب عثمان، خاصة بعد ان تم اكتشاف اكثر من 29 حقل نفطي في الاقليم حتى اليوم، باستثناء بقية ثرواته المعدنية. ويضيف ان الاكراد في كردستان يعتمدون على الخرائط التاريخية، سواء كانت تلك الخرائط صادرة عن السلطات العثمانية او البريطانية والتي كلها تثبت عائدية كركوك الى كردستان، ويقول: «نريدها سواء تمتعنا بالحكم الذاتي أو كاقليم». يذكر عثمان ان الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي أسسه ملا مصطفى بارزاني ويقوده اليوم نجله مسعود بارزاني، يعتبر كركوك «قلب كردستان»، بينما ينظر اليها الاتحاد الوطني الكردستاني على انها «قدس الاكراد». ويعتبر عثمان، المفاوض المخضرم في قضية كركوك مع الحكومات العراقية المتعاقبة، انه من بين كل المفاوضات مع الحكومات العراقية، فان مفاوضات العام 1970 كانت هي الانجح. ويتذكر قائلا: «كنت وقتذاك رئيسا للوفد الكردي المفاوض مع الحكومة، ولم يكن الاتحاد الوطني الكردستاني قد تأسس بعد، وكان هناك الحزب الديمقراطي الكردستاني فقط، اذ تمخضت عن اتفاقية 11 مارس (آذار) التي اقرت على تطبيع الاوضاع في كركوك واجراء احصائية سكانية لسكان المحافظة لغرض اتباعها الى ما كان يسمى بمنطقة الحكم الذاتي (اقليم كردستان حاليا)، لكن سجلات تسجيل نفوس المحافظة تم نقلها الى بغداد والتلاعب بها، ثم ساءت العلاقات بعد عام بين الأكراد والحكومة».

ويستطرد السياسي الكردي متحدثا عن آخر لقاء للأكراد مع الحكومة العراقية عام 1991، قائلا ان المفاوضات استمرت قرابة خمسة اشهر، بدأت في اغسطس (آب) وحتى نهاية العام تقريبا، ولكن من دون الوصول الى نتيجة. يقول عثمان: «وجدنا فريق الحكومة متزمتا وصلبا في طروحاته، بالرغم من ان الحكومة هي التي دعت لهذه المفاوضات بعد غزوها للكويت وسوء الاوضاع السياسية، اذ رفضوا في هذه المفوضات مجرد الحديث عن كركوك، وقالوا ليس هناك اي نقاش حول موضوع كركوك، واعتبرنا المفاوضات فاشلة».

حل مسألة كركوك بحسب عثمان، يكون بطريقتين: الأولى، عبر تنفيذ المادة الدستورية 140 التي تؤكد على ضرورة تنفيذ المادة عبر ثلاثة مراحل، التطبيع والاحصاء والاستفتاء، والطريقة الثانية الوصول الى اتفاق سياسي تحت إشراف الامم المتحدة.

الا ان نجاح المادة 140 يعتمد على الأقليات المكونة لأهالي كركوك اكثر من غيرها لتفوز بالاستفتاء، وهنا سيختلف ممثلو الاقليات في الاعتراف بأكثرية الأقليات الأخرى. ففي الوقت الذي يؤكد فيه رزكار علي، رئيس مجلس محافظة كركوك (كردي)، ان«الأكراد يشكلون الاكثرية، يأتي بعدهم العرب ثم التركمان وبعدهم الكلدوآشوريون»، فان التركمان والعرب يدحضون هذه المعلومة غير المستندة الى احصائيات دقيقة.

يقول علي لـ «الشرق الأوسط» بأن هناك احصائيات دقيقة لعدد سكان المحافظة او نسب كل اقلية، ويضيف: «اذا اعتبرنا ان نسبة الأكراد في مجلس المحافظة هو المقياس فسوف نعرف ان عددهم 21 عضوا، مقابل 11 من التركمان و7 من العرب موزعين على عدة قوائم».

وينفي رئيس مجلس محافظة كركوك ان «يكون هناك أي صراع بين مكونات سكان كركوك، فهم يعيشون في احياء متداخلة ويعملون سوية»، ويقول ان «الصراع يطفو فقط على سطح السياسة». وبرأيه فان اي حل لمشكلة كركوك يجب ان يأخذ بعين الاعتبار حفظ حقوق جميع الاقليات.

يقول دلير درماني، مدير اعلام محافظة كركوك، ان«عدد سكان المحافظة يقرب من مليون و200 الف نسمة»، وهو الآخر يعترف بعدم وجود احصائية دقيقة لعدد السكان والنسب. ويجد دارماني في «تنفيذ المادة 140 خير حل لمشكلة كركوك، لا سيما أن هناك عددا كبيرا من العوائل العربية التي جاءت الى المدينة في عهد صدام حسين ضمن خطة تعريب المدينة، تريد العودة الى محافظاتها الاصلية مقابل منحة من الحكومة تبلغ 20 مليون دينار لكل عائلة وقطعة ارض سكنية في محافظتهم الاصلية». ويصر حسن تورهان، عضو الجبهة التركمانية، على ان «نسبة الأكراد ارتفعت بسبب تهجير الآلاف من الأكراد من مدن اقليم كردستان الى مدينة كركوك من اجل تكريد المدينة وهذا يظهر جليا بوجود زيادة في عدد نفوس كركوك بما يقدر نصف مليون نسمة منذ 2003». ويطالب تورهان خلال حديثه لـ «الشرق الأوسط»، بان «يتم التأكد من الوثائق الاصلية للاكراد الذين زحفوا نحو كركوك»، مشيرا الى ان التركمان لا مانع لديهم من عودة الاكراد المهجرين من كركوك في عهد صدام، ويقول: «لكننا ضد استجلاب اكراد آخرين ليسوا من سكان كركوك لغرض حسم مسالة الاستفتاء لصالح الأكراد».

ويستند تورهان الى وثيقة صادرة من المخابرات العراقية عام 1997، تظهر ان «عدد التركمان في كركوك كان 360 الف نسمة ونسبتهم هي 45 في المائة، ونسبة وجود العرب تشكل 30 في المائة، والاكراد 20 في المائة».

ويرى عضو الجبهة التركمانية ان «المادة 140 من الدستور العراقي غير صالحة بسبب نفاذ صلاحياتها تاريخيا»، مشيرا الى ان حل مشكلة كركوك يكمن في تقاسم السلطة في المدينة بالتساوي بين جميع الاقليات، على ان لا تتبع اقليم كردستان، بل تبقى محافظة لوحدها أو اقليم لوحده».

ويؤيد راكان سعيد، نائب محافظ كركوك، وعضو كتلة الوحدة العربية، وهو من عرب قضاء الحويجة التابع للمحافظة، الحل الذي اقترحه تورهان، ويقول: «باعتبار ان كركوك مدينة متعددة القوميات فيجب ان يكون لها حل خاص وبادارة مشتركة يتقاسم فيها العرب والأكراد والتركمان السلطة بالتساوي وان تتبع مباشرة للحكومة ببغداد».

ويقول سعيد لـ «الشرق الأوسط» ان«نسبة العرب في كركوك كانت تبلغ في العام 1998، 58 في المائة»، مشيرا الى ان «العرب في كركوك لا يعترفون بالهجرة ولا بالتغيير الديموغرافي باعتبار ان العرب الذين جاؤوا الى كركوك في عهد صدام حسين هم عراقيون ومن حقهم السكن في اي مدينة عراقية». ويقول سعيد ان القيادة الكردية كانت تنقل اكراد من سورية وتركيا وايران الى كركوك، للعمل على زيادة نسبتهم في المدينة، ويذكر ان «عرب كركوك كانوا وما زالوا من الرافضين للمادة 140 الدستورية». وفي مؤتمره الصحافي الذي عقده مؤخرا في كركوك، قال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق ستيفان ديمستورا، انه سيتم تشكيل لجان بعد الانتخابات المحلية القادمة لغرض إيجاد الحلول المناسبة لقضية كركوك، واصفا إياها بأنها «معقدة جدا». وأضاف انه على الرغم من أن «مشكلة كركوك معقدة جدا وشأنها داخلي، سنساعد أهالي المدينة في التوصل الى حلول بشأنها».  بين الأكراد الذين يصرون على أنهم اكثرية والعرب الذي يؤكدون انهم هم الأكثرية، وغياب مسح دقيق ورسمي للتعداد السكاني، تبقى مشكلة كركوك، معقدة وغير قابلة للحل.