مقاهي دمشق.. مرتع الشباب

أصبحت تفرز الفئات الاجتماعية وتحولت من مسارح للقاء السياسيين والمثقفين إلى مقصد لهو وقضاء وقت للطلاب

رشيد حلاق المعروف بأبو شادي، أشهر حكواتي في سورية، يجلس في مقهى النوفيرة في دمشق (أ.ب)
TT

لو أن الدمشقي سعيد القاسمي رأى المقاهي التي تنتشر كالفطر سريعاً في العاصمة السورية، لأعاد النظر في ما قاله في كتابه الذي يوثق للمهن الدمشقية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بأن ارتياد المقاهي في دمشق «عادة مرذولة... ولا يدخل القهاوي من كان به شهامة أو عقل أو دين». فالمقاهي الحديثة، بديكوراتها المبتكرة المتنوعة بتنوع الأمزجة والمستويات الاجتماعية، تغري بإدمان ارتيادها، لتمضية الوقت ولقاء الأصدقاء، خصوصا في مدينة كدمشق يعشق أهلها التنزه حتى كادوا ان يقدسوا نزهة يوم الجمعة، أو ما يتعارفون عليه بـ«السيران»، كطقس متوارث وأصيل للترويح عن النفس خارج روتين الحياة اليومية، وللاستمتاع مع الأسرة. ويلتزم بهذا الطقس الفقير والثري على حد سواء، ولكل سيرانه. فأبناء الطبقات الميسورة يرتادون المطاعم الفخمة خارج المدينة، والفقراء يفترشون الأرض على جانبي طريق المطار أو سفح قاسيون... وفي مجتمع كهذا، يبدو ارتياد المقاهي من قبل الشباب أشبه بالولع. قديماً رأى الدمشقيون المقهى «مكاناً طبيعياً للقاء الخلان من العامة وتواضعاً في ارتيادها من قبل الوجهاء من الخاصة»، إذ يذكر البديري الحلاق في أحداث 1757: أن الشيخ إبراهيم الجباوي «قد بلغ جاهاً عظيماً مع تواضع كلي بحيث يجلس بالقهاوي».

في ذلك الزمن وحتى إلى ما قبل الأربعينات، كان يقتصر رواد المقاهي على الحرفيين وأبناء البلدان العربية وأبناء القوميات غير العربية المقيمين في دمشق، كذلك المحافظات الأخرى والمناطق النائية. فكانت هناك مقاه خاصة بأبناء البلد او الحي، ومنها ما هو خاص بحرفة دون سواها كمقهى اللحامين والنجارين، إلى جانب مقاه أخرى للانكشارية اليرلية والقابي قول والمقاهي الخاصة بالجنود المرتزقة التي توضع على عتباتها شاراتهم الخاصة. وبعض المقاهي كان ملاذاً لكل من يلجأ إليها، فيحميه روادها مهما كانت فعلته حتى لو أنها جريمة، وقد اشتهر منها مقهى «خبيني» الذي ظل قائماً حتى بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز.

ومع بداية القرن العشرين والتطورات التي طرأت على المجتمع الدمشقي، بدأت المقاهي تنتشر على ضفاف فروع نهر بردى المتغلغلة في الأحياء الدمشقية. ففي العشرينات ولغاية الخمسينات، كان شارع العابد وشارع بغداد وسط مدينة دمشق يغصان بالمقاهي، وأشهرها «اللونابارك» الذي سمي فيما بعد بـ«الرشيد». وظل هذا المقهى حتى الخمسينات، وكان مسرحاً صيفياً، يقدم أيضاً الأفلام السينمائية، وكثيراً ما تحول مسرحه إلى منبر للحفلات الخطابية السياسية والانتخابية؛ وأيضاً، مقهى «الفاروق» و«الزهور» و«الأزبكية» وغيرها، وعادة ما كان رواد تلك المقاهي من طلاب المدارس، فبعد أن يدخنوا الأركيلة ويشربوا الشاي والقهوة يذهبون إلى نادي بردى لكرة القدم الموجود في الشارع نفسه. شهدت مقاهي دمشق مرحلة ذهبية أواخر الأربعينات مروراً بالخمسينات والستينات، من حيث تحولها من مجرد أماكن للتسلية والترويح عن النفس إلى أماكن تجمع السياسيين والمثقفين والصحافيين ونخبة المجتمع الدمشقي. ولعب بعضها دوراً مهماً خلال تلك الفترة التي كانت تشهد تصاعد المد القومي والحراك السياسي بعد الاستقلال؛ فقد شهد مقهى الرشيد عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث في جمع ضم حوالي المائتين من المثقفين والأساتذة والأطباء والطلبة، وأعلن في المقهى عن قيام حزب البعث العربي في نيسان 1947. أما مقهى الطاحونة الحمراء، فكان يكتظ صباحاً بلفيف من صحافيي الأيام والقبس والصحف الأخرى إلى جانب عدد من النواب. وفي المساء، كان المشهد السياسي أكثر وضوحاً في مقهى البرازيل حيث يجتمع السياسيين العتاة والوزراء السابقين واللاحقين وظرفاء مخضرمين يتندرون على الجميع دون استثناء. وعلى الرصيف المقابل ينعكس المشهد ذاته في الهافانا فيتقاسم الطاولات شباب من أحزاب مختلفة الاشتراكي التعاوني، البعث العربي، والعربي الاشتراكي والشيوعي...

وترسم الأحاديث المتناثرة في فضاءات تلك المقاهي، الصورة الخلفية للأحداث الجارية سواء في وقائع الجلسات البرلمانية أو قضايا الجيش وأخبار الضباط والحكومة وأعضائها من رئيس الوزراء إلى الوزراء والأمناء العامين. وأكثر ما تمحورت حول قضية فلسطين وحرب الـ 48 والسياسات العربية المتخاذلة، لتصاغ من هناك أهم المناشيتات الكبرى والمعارك الصحافية والزوابع والشائعات التي كانت تسبق كل انقلاب وتبشر به، بحيث كانت المقاهي أول من يتأثر من حدوثه فتخلو من الزبائن. فكما البلد كلها تعيش ساعات من الصمت المنذر بالبلاغات العسكرية، يتحول صخب المقاهي إلى استكانة كتلك التي تعقب آلام المخاض، وما الانقلاب سوى احتمال تحقق من احتمالات كثيرة تداولها الرواد مع تكهناتهم للمخططات والاتفاقات السرية والمؤامرات المشبوهة المحاكة في كواليس الحكومات والسفارات الأجنبية. وسوف تُلمح لها الصحف الدمشقية التي تعود لمزاولة نشاطها بعد مرور العاصفة، ومعها يعود الأنس إلى المقاهي وتجتمع وجوه قديمة وأخرى جديدة يمثل حضورها صعود تيار وهبوط آخر وهكذا. فكان السابقون يتندرون على اللاحقين من المخفقين، ممن يحلون ضيوفاً إما على السجون أو المقاهي، ويعودون من جديد إلى تحليل ما جرى والتنبؤ بأسماء التشكيلة الوزارية القادمة. في تلك الفترة كان الدمشقيون يقولون عمن تمنح له حقيبة وزارية، أن الحكومة تضع له في الحقيبة نفسها بيجاما وشحاطة وفرشاة أسنان، لوازم السجن، قبل سقوطها الذي كانوا يرونه وشيكاً دائماً، وأحياناً أسرع من المتوقع. مشهد المقاهي الدمشقية أو السورية عموماً قد تغير في العقود الثلاثة الأخيرة. فابتداء من القرن العشرين، لم يعد السياسيون من الحزبيين والوزراء الحاليين والسابقين من روادها، وكذلك المراسلين وصحافييِّ الشؤون السياسة من الواصلين إلى بواطن الأمور. باتت المقاهي تقتصر على المتقاعدين والعاطلين عن العمل، إلى جانب المثقفين والصحافيين المهتمين بالشأن الثقافي. ولم نعد نلمح في زوايا مقهى الـ«هافانا»، مثقفاً مثل صدقي إسماعيل الذي كان يكتب صحيفته «الكلب» الساخرة بخط اليد من ثم يستنسخها الأصدقاء ليستمتعوا بالشعر الحلمنتيشي وهو يستعرض أحوال البلد والسياسيين. فمقاهي شارع العابد آلت إلى زوال، باستثناء مقهى «الروضة» الذي صار ملاذاً للمثقفين يجتمعون فيه للثرثرة ولتقرير مكان لقائهم المسائي، حول كأس عرق أو بيرة في أزقة العابد، أو قصر البلور في باب توما، أو نادي الصحافيين في العفيف، أو مطعم الريس في ساحة المحافظة، أو مطعم «رابطة المحاربين القدماء» في حال كانت الجلسة على قد الحال. أما إذا كان الطموح لسهرة أو غداء عامر فيذهب الاختيار نحو الربوة مطعم «الشعار» او دمر مطعم «السمر»، أو بارات ومطاعم باب توما. الا ان التغيير الذي طرأ على الداخل السوري منذ تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم عام 2000، انعكس في كافة مناحي الحياة. فبعد عقود من التقشف الاشتراكي والتجهم الآيديولوجي، عادت الحياة الدمشقية لتضج بالصخب الشبابي، وتمظهرت في الانتشار السريع لمظاهر الاستهلاك وملاحقته وفق النمط المعاصر أو المعولم، فانتشرت المجمعات التجارية الضخمة التابعة للقطاع الخاص المكتظة بالبضائع المستوردة والمحلية من كل الأنواع والأصناف. وحوت مطاعم ومقاهي تستقطب الفئات الاجتماعية المتوسطة وما فوق، أما ما تحت فقد بقيت على حالها ترتاد الأسواق الشعبية والمقاهي الشعبية المعروفة.. وعاد الشباب ذكوراً وإناثاً إلى المقاهي الحديثة والقديمة من أوسع أبوابها، فتراهم في مقهى (الروضة) في شارع العابد إلى جانب المثقفين والمتقاعدين، وفي مقهى ابو حشيش بالمرجة يشغلون كراسيهم المجاورة للقادمين من المحافظات البعيدة والمتعبين من عيادة طبيب، أو مراجعة المحاكم، كما تراهم في مقهى «كوستا» والـ«إن هاوس» في ابي رمانة والقصاع والـ«الأوديون» و«سهارى» في المزة مع أقرانهم من الناشئة والشباب يفردون أجهزة الكومبيوتر المحمول أمامهم يذاكرون دروسهم، أو يتصفحون الانترنت. وإما يلعبون بتبادل مقاطع البلوتوث، ومنهم من يبحث عن صورته في المجلات الاجتماعية الكثيرة التي صدرت في السنوات الثمانية الأخيرة في دمشق (ليالينا ـ سوريانا ـ كلاس ـ موضة وناس...إلخ) من مجلات بطباعة أنيقة قد خصصت قسماً كبيراً من صفحاتها لالتقاط صور مرتادي المقاهي والمطاعم الحديثة.

ولا يحتاج المرء لكثير من التمحيص في مشهد المقاهي الدمشقية للتعرف على عملية الفرز الجارية في المجتمع السوري وفق مستوى الدخل. وإذا كانت المقاهي الدمشقية في الخمسينيات والستينيات تظهر التعدد السياسي بحيث يفضل كل تيار أو حزب مقهى دون آخر للاجتماع، فإن غياب النشاط السياسي عن الشارع جعل المقاهي اليوم تظهر تفاوت المستوى المعيشي، إن تجنبنا استخدام تعبير «الطبقي»، كما تُظهر تفاوت النظرة للحياة بين فرد وآخر قد ينتميان لأسرة واحدة.

سوزان خريجة كلية الآداب، تقول إنها تفضل ارتياد مقهى «تراتوريا» (الرصيف) في أبي رمانة والذي ترى أن سعره مرتفع، لكن قياساً إلى غيره معقول نظراً لخدماته وموقعه وأجواء مرتاديه من أبناء الأحياء الراقية، وهي تفضله على مقهى «روتانا» بجانب فندق الفورسيزنز. فمقهى «روتانا»، عدا كون أسعاره عالية جداً على ذوي الدخل المتوسط، تتسم أجواؤه بالاستعراض، فهي بإمكانها ارتياد «تراتوريا» أو الـ«إن هاوس» بملابس الرياضة، لكن لا يمكن ذلك في «روتانا». فالبنات هناك معظمهن بذلن جهودا كبيرة للظهور بأجمل مظهر من حيث الشعر والمكياج والملابس، وكأنهن في سهرة تلفزيونية على قناة «روتانا». محمد شقيق سوزان موظف في شركة اتصالات يخالفها الرأي، ويقول حتى لو أن دخله لا يسمح له بارتياد منتظم لمقهى (روتانا) إلا أنه يفضل دخوله مرة في الشهر على الأقل، فهذا يشعره بأنه إنسان مرفه وينعم بحياة مثل حياة النجوم. كما يمتع ناظريه برؤية الفتيات الجميلات جداً، وهي فرصة لإقامة علاقة مع أبناء الطبقات الميسورة. في منطقة أخرى من دمشق، سنجد التناقض أكبر بين الأخوين كنان وإياد. فالأول طالب سنة أولى علاقات دولية يعتبر ارتياد مقاه مثل الـ«كوستا» و«روتانا» ضرباً من الترف لا يحتمله لا هو ولا أي من أصدقائه الذين يصفهم بـ«المنتوفين». هذه الأماكن يراها من الخارج فقط ولا يفكر لمجرد التفكير بدخولها، فهي وبحسب «خبرته» المتواضعة في الحياة، ليست أكثر من هدر، فحين يكون ثمن فنجان القهوة في «روتانا» 400 ليرة (8$) فإن فنجان قهوة زائد اركيلة، لا يكلفه أكثر من مائة ليرة (2$) في مقهى ابو حشيش في المرجة. وإذا سألته عن مستوى الخدمة والأجواء يضحك قبل أن يجيب، ما الذي تعنيه الأجواء لشخص ليس لديه مال ليأكل، وبالكاد يرفه عن نفسه بتدخين الأركيلة؟! مع أن كنان نفسه كان قبل نحو عام يرتاد مقهى الـ«إن هاوس» خلال فترة التحضير لامتحان الثانوية العامة، لكنه يبرر ذلك بأنه كان يذهب الى هناك للدراسة حيث يخصص المقهى الطابق السفلي للدراسة، وكان يمضي عدة ساعات على طلب واحد فنجان شاي بـ150 ليرة، كما أن رفاق الدراسة حينها كانوا يغرونه باللقاء هناك للدراسة معا. أما الشقيق الثاني أياد طالب سنة ثالثة إدارة أعمال، فهو لا يحبذ نظريات شقيقه الاقتصادية، ويعتبر تجريب كافة المقاهي وبالأخص الحديثة وبكافة مستوياتها محاولة لاكتشاف المجتمع، والتعرف على كل جديد. وهو لا يفضل مكاناً واحداً يرتاده كل أسبوع، بل يجرب مكاناً جديداً سمع عنه. ولا بأس ببعض التقشف لجمع المال اللازم لارتياد «روتانا»، وإن كان لا يفضله، ويقول إنه زاره مرتين فقط وأجواؤه لم تناسبه، «فكل شيء هناك مصطنع»، والشاشات «تزغلل العين»، أما البنات فهن جميلات لكنهن مثل نجمات التلفزيون «ولسن طبيعيات أبداً». يقول انه من المستحسن مراقبتهن عن بعد وفي أفضل حال التقاط صورة الى جوارهن، ومع ذلك فهو يفضل تجريب الشعور بارتياد هكذا أماكن على السماع عنها من بعيد. ويضيف بكل ثقة: «لم اترك باراً أو مقهى في دمشق إلا ودخلته، وأنا سعيد بأن كل يوم هناك مكان جديد يظهر وكأنه أُنشئ كي لا نشعر بالملل، مع أن دراستي الجامعية تكاد تأكل كل وقتي».

مقهى الـ«إن هاوس» وكذلك «الكوستا» اللذان سُمح لهما في السنوات الأخيرة بافتتاح فروع في دمشق، ضمن سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي جعلت شركات أجنبية وسلاسل مقاه عالمية تبادر للاستثمار في السوق السورية، لاقت إقبالاً كبيراً من قبل شرائح الشباب من أبناء الطبقة الوسطى، إذ بمقدورهم ارتيادها على الأقل مرة في الأسبوع والجلوس فيها لساعات طويلة، لتصفح الانترنيت والدراسة واحتساء القهوة، حيث توفر أجواء لطيفة إلى حد ما مع سخاء في حجم أكواب المشروبات. منظر المقاهي تغير كثيراً في دمشق. فمن مسرح للقاءات السياسيين والمفكرين ومركز لحيك الخطط والمؤامرات السياسية، تحولت اليوم الى امكنة حيث يلتقي الشباب ويمضون اوقاتهم.. كل فئة اجتماعية في المقهى الذي يتناسب ومستواها الاجتماعي.