الجاسوس الأميركي الأول

ليون بانيتا جمهوري تحول ديمقراطياً.. أثار ترشيحه خيبة بسبب قلة خبرته وأحيا آمالا لانتمائه لدائرة خارج الـ«سي آي إيه»

TT

ثمة نوعان من السياسيين: أولئك الذين يريدون أن يكونوا شيئاً، وأولئك الذين يريدون أن يفعلوا شيئاً. ليون بانيتا الذي رشحه الرئيس الاميركي المنتخب باراك أوباما، لتولي منصب مدير وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه)، دائما أراد أن يكون سياسياً في خدمة الذين يريدون «أن يكونوا شيئاً ما أو أن يفعلوا شيئاً ما». ولكن بانيتا، رجل يجد نفسه في الظل. رجل يرتاح في الصف الثاني ولا يتزاحم نحو الصف الاول. وعلى الرغم من المناصب الرفيعة التي تولاها، وخبرات اكتسبها طوال أكثر من سبعة عقود، فإن مشواره مع إدارة اوباما انطلق سيئاً، إذ اضطر الرئيس المنتخب ونائبه جو بايدن، للاعتذار للديمقراطيين حتى قبل ان يعلن رسمياً ترشيح بانيتا لمنصب مدير وكالة المخابرات الاميركية (سي آي إيه). اعتذر اوباما لقادة الكونغرس الديمقراطيين لانه لم يستشرهم قبل اتخاذ قراره تعيين بانيتا. وبايدن نفسه اعترف بأن الادارة الانتقالية اقترفت خطأ. ليون بانيتا متحدر من أسرة إيطالية هاجرت في عشرينات القرن الماضي الى كاليفورنيا، الولاية الأكبر حجماً والأكثر سكاناً في أميركا. ملامحه متوسطية. هندامه متوسطي. نظراته متوسطية. اسلوبه متوسطي. رجل ضاحك حتى دون ان يكون هناك سبب للمرح. يضع دائماً ابتسامة سهلة على وجهه. وفي بعض الاحيان، تبدو ابتسامته، وكأنها ابتسامة عادية، يبدل تعابير وجهه ليصبح ضاحكاً الى حد انه يغلق عينيه خلف نظارته الطبيتين. يرتدي دائما بذلات داكنة ويهتم بتصفيف شعره المسدل على صدغيه. ليس خطيباً مفوها، لكنه يتحدث دون تعقيد او تلعثم. استطاع ان يحتفظ بالقبول في طرفي شارع بنسلفانيا الذي يربط بين البيت الابيض ومباني الكابيتول هيل، حيث مقر الكونغرس. يقول لأعضاء الكونغرس ما يجعل كل عضو يعتقد ان بانيتا يقف معه ويساند موقفه، ويتحدث مع الرسميين بتهذيب بالغ حتى يعتقدون ان لا أحد اكثر منه وفاءً لهم. يجيد خلط الاوراق كما اعتاد اجداده خلط أكلة السباغيتي. ربما اكتسب هذه المهارة من والده الذي كان يدير مطعماً ايطالياً متخصصاً في السباغيتي بكاليفورنيا. بدأ جمهورياً وانتهى ديمقراطياً. انطلق مع منظمات الطلاب والخطب الكثيرة التي تؤجج الحماس، ويريد ان يختم مشواره في جهاز موظفيه لا ينطقون كأنهم جمادات. يتقن فن المزاوجة بين المتناقضات. بدأ حياته المهنية مع المناصب الرسمية في إدارة ريتشارد نيكسون، الرئيس الذي خرج من البيت الابيض مطأطأ الرأس بعد ان غرق في وحل فضيحة «ووترغيت»، حيث تولى منصب مساعد وزير الصحة. وها هو الآن يتوج حياته السياسية مع إدارة اوباما الرئيس الذي كتب فصلا كاملاً من تاريخ اميركا والعالم، ودخل واشنطن يريد زلزلة اركانها بالسلوك النظيف. يسير بانيتا بتؤدة. يمشي متمهلاً، حتى لتخال انه يزحف ولا يمشي. يجيد الإصغاء. الذين عملوا معه يقولون إنه منضبط ودقيق. قال عنه روس بيكر، استاذ العلوم السياسية في جامعة ريتغرز إنه «رجل محبوب، نظيف اليد، يستطيع النجاح في اي مهمة دون ان يخلق أعداء له». يلتهم التقارير والملفات التهاماً. يقرأ أحياناً أكثر من 12 ساعة في اليوم. لذلك، قال الذين عارضوا ترشيحه لمنصب مدير «سي آي إيه» إنه «مستهلك» جيد للتقارير لكن ليست له القدرة على «انتاج» هذه التقارير، عندما ينتقل الى مقاطعة فيرفاكس في ولاية فرجينيا لادارة أكبر جهاز مخابرات في العالم. سيعمل على جميع الجبهات داخل الوكالة، بدءاً من جمع المعلومات عن أشخاص عاديين، الى تدبير الاضرابات والقلاقل السياسية بل حتى الانقلابات والحروب. بالطبع خارج اميركا. يرتبط اسم الولايات المتحدة خاصة في العالم الثالث باسم «سي آي إيه». لذلك يكتسي منصب مدير هذه الوكالة أهمية استثنائية في الخارج. وهي لا تجر وراءها تاريخاً كبيراً أو سمعة طيبة. تأسست «سي.آي.إيه» عام 1947، أي بعد الحرب العالمية الثانية، وهدفها المعلن هو «جمع المعلومات وتحليلها» وتقديم خلاصات لصانع القرار في واشنطن. كانت الوكالة تكتسي اهمية كبيرة عندما كانت تقاريرها تجد طريقها مباشرة نحو المكتب البيضاوي حيث يجلس الرئيس الاميركي، لكن ومنذ عام 2004، اصبحت تقاريرها تمر عبر الوكالة الوطنية للمخابرات التي تعمل تحت أشرافها عدة أجهزة. إلا ان هذا الاجراء التنظيمي يخضع في نهاية الامر لقرار الرئيس، لذلك يعتقد الآن ان اوباما قد يعيد الى الوكالة وضعها السابق بان تصبح علاقتها مباشرة مع البيت الابيض.

تحدد الوكالة مهامها عبر موقعها الالكتروني الرسمي، كالتالي: > جمع المعلومات عن طريق العناصر البشرية وعبر طرق أخرى «مقبولة»، ولا تدير الوكالة جهاز شرطة وليست لها سلطة تقديم احد للمحاكمة كما انه ليس لها أجهزة سرية.

> تقييم المعلومات الاستخبارية المتعلقة بالأمن القومي ونشر ما تراه ملائماً. ترشيح بانيتا ليرأس هذه الوكالة، أثار جدلاً حاداً في واشنطن وأسال مداداً كثيراً في الصحف وثرثرة في شبكات التلفزيون. وعلى الرغم من الجو الماطر البارد هذه الايام في العاصمة الاميركية، كانت التعليقات حارة. استياء وسط الديمقراطيين في الكونغرس، وتذمر بين موظفي الوكالة أنفسهم، حيث يعتقد الجانبان ان الرجل ليس له سابق تجربة في مجال المخابرات.

يقول الصحافي فرانك جيمس، وهو صحافي مستقل يعمل مع عدة وسائل اعلام، في تعليق لـ«الشرق الاوسط» على بانيتا: «ربما لا يملك بانيتا خبرة في مجال أنشطة «سي آي إيه»، لكنه ظل ولفترة طويلة سياسياً في واشنطن من الدائرة الداخلية مع خبرة عميقة في الكابيتول هيل (مقر الكونغرس) حيث كان رئيس لجنة الميزانية في مجلس النواب. كما عمل رئيساً لموظفي البيت الابيض في عهد الرئيس بيل كلينتون ومديراً للميزانية في البيت الابيض، كما انه يتوفر على خبرات في مجال الصحة وخدمة السكان». ويرى جيمس انه «من الصعب الجدال حول مهارات بانيتا لإدارة «سي آي إيه»، وهو منصب يحتاج الى شخص قوي وحكيم، وكفاءة سياسية تؤهله للمنصب». لكن المحامي توم كول من واشنطن له رأي آخر. يقول كول لـ«الشرق الاوسط»: «شعرت بالخيبة من هذا التعيين، وهو ما يؤكد عدم وجود وجوه جديدة في إدارة اوباما، بل الاستعانة برجال كلينتون. ليس هو الامر الذي كنا ننتظره». في حين يقول كاب برسمان من شبكة «إن بي سي» ان «تعيين بانيتا الذي كان عضواً دائماً في إدارة كلينتون، لادارة «سي آي إيه» يؤكد عزم الرئيس الجديد إصلاح هذه الوكالة. سيواجه بانيتا معارضة من بعض قادة الكونغرس الذين يرون انه يفتقر الى خبرات بمجال الاستخبارات، لكن بانيتا لديه خبرة طويلة للسير عبر المطبات وسط دهاليز السياسة في واشنطن، لذلك ربما عرف اوباما طريقه. ويمضي برسمان قائلاً: «نحن نحتاج، وبطريقة ملحة، الى لجنة مستقلة للبحث عن إجابة حول ما إذا كان التعذيب مبررا لحمايتنا من هجمات ارهابية؟ وهل سيغلق معسكر غوانتانامو؟ وهل ستستمر السياسة الاميركية في سجن معتقلين بدول أجنبية؟ وإذا كنا سنكون جادين في مطاردتنا لاسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة»، هل يجب ان تكون هناك ضوابط تحد من عملنا؟ وهل انهزمت سياستنا في تحقيق أهدافها وقوضت جهودنا لقيادة القوى الديمقراطية في العالم؟». صحيفة «بوليتيكا» اوردت اعتبارات اخرى حول اختيار اوباما بانيتا. قالت إن اوباما باختياره هذا الرجل، يضم الى ادارته واحداً من اكثر الاشخاص الذين تعرفهم الطبقة السياسية في واشنطن، لكنه سيتكلف بدور غير مألوف. وهو ما جعل السياسيين يخمنون حول الاسباب التي جعلت اوباما يتخذ هذا القرار. وتضيف: «من جهة، فإن اختيار اوباما لبانيتا، وهو من رجال الحرس القديم في الحزب الديمقراطي وبدون سجل يذكر حول العمل الاستخباري، ربما يشير الى عدم وجود خيارات كثيرة في وقت لم يتبق الكثير من الفترة الانتقالية. او ربما ان اختيار شخص من خارج الجهاز، قرار متعمّد يهدف الى ارسال إشارة؛ مفادها ان اوباما يريد اتخاذ موقف صارم تجاه بيروقراطية الـ«سي آي إيه» واخضاعها لسيطرته الكاملة». بعد ان تسرب خبر ترشيح بانيتا، واسمه الكامل ليون ادوارد بانيتا، شرع أوباما في اجراء اتصالات مع جهتين؛ اعضاء الكونغرس حتى لا تكون هناك تداعيات لعاصفة الغضب التي واجهت ترشيحه، وقيادات الجهاز لامتصاص حالة التذمر.

ولد بانيتا عام 1938 في مونتري (كاليفورنيا)، من ابوين مهاجرين من ايطاليا. درس في مدارس كاثوليكية وانخرط في المرحلة الثانوية في أنشطة سياسية. تولى مهمة في المنظمة الطلابية، ثم اصبح رئيساً للمنظمة الطلابية. التحق بجامعة سانتا كلير عام 1956 وتخرج عام 1960 بشهادة في العلوم السياسية، كما نال درجة الدكتوراه في القانون. عمل في مجال المحاماة في بدايات حياته العملية، ثم التحق بالجيش ونال ميدالية وترك الخدمة العسكرية ضابطاً برتبة ملازم اول. بدأت حياته السياسية عندما عمل في مكتب السيناتور الجمهوري توماس كيشيل، وتولى عام 1969 منصب مساعد وزير مع وزير الصحة روبرت فينيش في إدارة الرئيس السابق نيكسون. ثم عين مديراً لمكتب الحقوق المدنية، وعمل على توحيد قوانين الخدمة المدنية في مجال التعليم على الرغم من الضغوط التي واجهها من طرف الجمهوريين المناوئين ايام ذاك للمساواة في المدارس بين البيض والسود، علما ان نيكسون كان وعد أعضاء الكونغرس من ولايات الجنوب بعدم تطبيق المساواة المدنية. في تلك الايام الكاحلة كان لا يسمح للاطفال السود بالدراسة في مدارس البيض. وكانت لافتات على غرار «ممنوع دخول الكلاب والسود» أمراً عاديا على واجهات بعض المطاعم، وهي أيام كان يطلب فيها من «الزنوج» ان يتركوا امكنتهم في الحافلات ووسائل المواصلات للبيض. وتحت الضغوط في ظل ادارة نيكسون، اضطر بانيتا للاستقالة لينتقل بعدها الى العمل مع جون ليندسي، العمدة الجمهوري لمدينة نيويورك.

في عام 1971، أدى تمسك بانيتا بمبدأ ضرورة احترام الحقوق المدنية، الى ان يترك الحزب الجمهوري ويتجه نحو الحزب الديمقراطي. وفي عام 1976 أصبح نائباً ديمقراطياً في الكونغرس عن ولاية كاليفورنيا، حيث عمل في عدة لجان من الحقوق المدنية الى البيئة. وارتبط بانيتا بعلاقة مع انتوني لايك، مستشار الامن القومي في عهد كلينتون، وفتح له ذلك المجال ليعين مديراً للتخطيط والميزانية عام 1993 في إدارة كلينتون. وفي السنة التالية، عيّن رئيساً لموظفي البيت الابيض، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1997. بعد انتهاء فترة كلينتون، اختار بانيتا ان يعمل مع مجموعة أبحاث اهتمت بموضوع العراق، ودفن نفسه في دراسات تحاول ان تجد تفسيراً للورطة الاميركية في بلد عربي صعب في تضاريسه الجغرافية والسياسية والتاريخية. وبقي بانيتا منكفئا في أبحاثه.. متحفظ جداً. ظل حذراً ومنطوياً على نفسه، لكنه بقي كذلك كثير الانشراح. تثير نوعية مزاجه الاهتمام ويفرض على مخاطبه جهداً لفك ألغاز كلامه. صرامته المفرطة تجعل من الصعب معرفة ما يدور في خلده. رجل يحلق بفكره بعيداً. كان اولا من بين الذين ادركوا ان الانتخابات الاميركية الاخيرة تتعلق بالتغيير لا بالخبرة. لذلك جذبته خطب وحماسة اوباما. وتحفظ تجاه أداء وافكار منافسته هيلاري كلينتون. وعلى الرغم من انه لم يمارس العملَ الدبلوماسي، لكنه كان بخلفيته السياسية التوافقية دبلوماسياً بالفطرة، يعرف كيف يقول كل ما لديه بكياسة. كان واحداً من ناس تتجلى مزاياهم في إدارة المواقف الصعبة وتتحمل أعصابهم تداعياتها وتقدر ملكاتهم الفكرية على النفاذ من سطح الحوادث إلى عمقها بحثاً عن تصور رشيد وفعل واثق في تقديراته ومتوازن في كلياته. لعب دائماً دوراً صعباً خلف الكواليس. دورَ رجل ليس لديه حضور دائم يزكيه، وإنما لديه مهمة يمكن ان يستدعى من أجل انجازها. قدم نفسه في جميع المراحل على اساس انه يملك كفاءة التعامل مع الملفات الصعبة، وملء الثغرات والفجوات واستيعاب الهزات والصدمات.

الآن يطلب منه اوباما أن يدخل عش الدبابير الصعب، ليحقق شيئين متناقضين؛ جمع أكبر قدر من المعلومات عن دبيب النمل حتى في القطب الشمالي دون ان يلجأ الى الاساليب القاسية التي استعملتها وكالة الاستخبارات الاميركية. وفي الوقت نفسه، تحسين صورة الولايات المتحدة. ذلك هو شعار اوباما. الواضح ان المطلوب من بانيتا إعداد طبق سباغيتي يؤكل بارداً وساخناً. تلتف معجناته بإتقان حول الشوكة. الانتقال من التهام التقارير الى انتاج هذه التقارير أمر ليس باليسير. لكن بانيتا الذي انتقل من صفوف الجمهوريين الى قلب الماكينة الديمقراطية، يراهن على ان يربح الرهان بالنقاط، وليس بالضربة القاضية. بانيتا يريد ان يصبح، كما سمته بعض الصحف الاميركية، «الجاسوس الاميركي الاول».. بامتياز.