«خوجا».. السياسة التركية

أحمد داوود أوغلو المستشار السياسي لأردوغان محرك «مشروع تركيا الإقليمي» بأسلوب «عثماني معولم» يقرب سورية إلى إسرائيل وإيران إلى إميركا

TT

طرفة كان أقطاب الخارجية التركية يرددونها باستمرار، قبل وصول مستشار رئيس الوزراء التركي احمد داوود اوغلو الى مطبخ الخارجية ومركز صنع القرار، تقول إن الرئيس التركي عبد الله غل، الذي تسلم شؤون وزارة الخارجية التركية وقتها، طالب الدبلوماسيين الاتراك بأن يعدوا له ملفا حول توجهات وميول بعض الدول في سياساتها الخارجية وتصرفاتها. جاء التقرير بعد اسبوع كامل وكان عبارة عن نصف صفحة فقط اوجزت على الشكل التالي: «مجموعة من السياح الاجانب دخلت تحتمي من حر الصحراء المكسيكية في احد المقاهي، وعندما جاءت اكواب المثلجات رأوا ان ذبابة كانت تسبح داخل كل كوب. الانجليزي طلب استبدال المشروب والقدح على السواء. السويدي قال يكفي ان يبدل المشروب وان يظل الكوب نفسه. الفنلندي اخرج الذبابة بيده من القدح وشرب ما به من دون تردد. اليوناني شرب نصف ما في الكوب ثم اعترض على وجود الذبابة مطالبا بكوب جديد. الياباني أخرج الذبابة من الكأس وارسلها على الفور الى بلاده للاستفادة منها في المجالات العلمية. النرويجي شرب ما كان في الكوب واحتفظ بالذبابة ليستخدمها طعما للسمك. الاميركي رفع دعوى امام المحاكم المكسيكية مطالبا بمليون دولار وكان له ما أراد. ضحك الوزير غل ومعاونه وسألا: ألم يكن في المجموعة تركي؟ فرد أقدمهم تجربة وخبرة قائلا: طبعا كان هناك تركي بينهم. فسأل الوزير متابعا: ماذا فعل؟ فرد الدبلوماسي التركي، اعترض بشدة على الحادثة وأدان مرتكبيها.

ويبدو أن داوود اوغلو، الذي تسلم الرسالة لاحقا والمغزى وراءها، قرر على الفور الانطلاق في بناء سياسة تركية اقليمية جديدة لا تقوم فقط على «الاعتراض وإدانة الحادثة»، بل على التحرك الاستباقي وبناء دور فعال له مستويات عدة، تتشابك فيه المصالح، مع فهم سلوك الدول واساليبها ولغتها (فحكاية الذبابة تعكس فعليا ان الدول مثل الاشخاص، لها سمات نفسية لا بد من فهمها للتنبوء بسلوكها). ووضع هذه المفاهيم جنبا الى جنب مع قاموسه الضخم في العلاقات الدولية الذي عمل عليه لسنوات طويلة تحت عنوان «العمق الاستراتيجي»، والذي يعالج الكثير من المسائل الاقليمية والدولية والموقف والدور التركي حيالها ويخرج منها بجملة من الدروس والعبر الواجب تنفيذها على طريق تنشيط الخارجية التركية، لتسترد ما فقدته عبر عشرات السنين. فمن هو ذلك الدبلوماسي الشاب الهادئ الذي بات صوت السياسة الخارجية التركية حيال قضايا الشرق الأوسط؟ وكيف يرى علاقات تركيا مع محيطها الاقليمي ومصالحها؟ ولد داوود اوغلو عام 1959 في مدينة قونيا الواقعة في قلب الاناضول، ونشأ في جو عائلي محافظ، متأثرا بأجواء الاسرة والمدينة التي تعتبر مركز العلامة والفقيه وشيخ الطريقة الصوفية جلال الدين الرومي. تخرج اوغلو من جامعة البوسفور، التي تدرس موادها باللغة الانجليزية وتعتبر أهم المؤسسات الجامعية التركية، في عام 1984 من قسم العلوم السياسية، ليحصل لاحقا على شهادة الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية. ولاحقا عمل في اكثر من جامعة داخل تركيا وخارجها كان اهمها الجامعة الاسلامية في ماليزيا. وفي عام 1999 حصل على مكانة بروفسور في تدرجه الاكاديمي، وكان اخر منصب جامعي تولى مسؤوليته هو رئاسة قسم العلاقات الدولية في جامعة «بي كانت» التركية الخاصة الراقية. وبسبب خبرته في العلاقات الدولية واطلاعه الاكاديمي الغزير واهتمامه بتطبيق النظريات على الواقع السياسي اليومي، استدعاه غل واردوغان للاشراف على مهام الرصد والتخطيط والمشاركة في عملية اطلاق سياسة خارجية جديدة للبلاد، بعد تشكيل حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الاسلامية، للحكومة التركية، ورغبتهما في «دفع دماء جديدة في شرايين السياسة التركية»، وتعزيز علاقات انقرة بالعالم الاسلامي، وكان جزء من هذا هو اهتمام اصيل من قبل حكومة العدالة بالمحيط الاسلامي كعمق استراتيجي لتركيا، لكن جزءا اخر من هذا الاهتمام كان ردا على الصعوبات الكثيرة التي وضعتها دول الاتحاد الاوروبي امام انضمام أنقرة لعضوية الاتحاد، وهو ما جعل «كبرياء تركيا» يرد بالقول: لا نبالي بالاتحاد الاوروبي.. لدينا الشرق الاوسط والعالم الاسلامي. حصل داوود اوغلو على لقب سفير من خارج السلك، وهو من النوادر في الحقل الدبلوماسي التركي، لكنه سرعان ما انتزع لقبا أهم، وهو السفير فوق العادة وبصلاحيات واسعة مصحوبة بثقة كاملة من اردوغان وغل، لكن خارج الالقاب اوغلو عمليا بات «مهندس السياسة الخارجية»، والمتحدث باسمها و«دينامو» تحركاتها في المفاوضات، وطرح المشاريع والاقتراحات بشأن وقف الحرب على غزة، وصدور قرار مجلس الامن الاخير رقم 1860. فقد كان دائم التنقل بين دمشق والقاهرة، هنا يحاور السوريين وممثلي حماس، وهناك يستعرض مع القيادة المصرية آخر ما حمله من سورية، ثم ينقل كل ذلك الى انقرة لتتم مطالبة الغربيين بدعمه. المراقبون الأتراك الذين يرصدون تحركات اوغلو منذ أن لمع نجمه قبل 5 سنوات احصوا عشرات الملفات العلنية والسرية التي يقودها داوود اوغلو بصلاحية مطلقة وبثقة كاملة من رئيس الوزراء التركي أردوغان. فقد كان اول الملفات، التي تولى اوغلو الاشراف عليها، إدارة ملف تحسين العلاقات التركية ـ السورية، التي ظلت لفترة طويلة متوترة بسبب الدعم السورى للأكراد الاتراك بزعامة عبد الله اوجلان، كما قاد اوغلو عمليات الوساطة بين الجناحين الفلسطينيين فتح وحماس اكثر من مرة. وشارك مباشرة في الحملة العربية، التي قادتها السعودية ومصر وقطر الى جانب سورية، في ما يتعلق بموضوع وقف الحرب الاسرائيلية على لبنان صيف 2006، وسهل لأردوغان اخذ مكانه اثناء التقاط الصورة التاريخية داخل مجلس النواب اللبناني، معيدا الاتراك الى ساحة النجمة في بيروت، بعدما غادروها قبل حوالي القرن أثر ذكريات مؤلمة ومحزنة للجانبين، عندما وقف العرب ضد الأتراك خلال الحرب العالمية الاولى وساندوا البريطانيين، على امل ان يتخلصوا من الحكم التركي، ويحصلوا على الاستقلال، فإذا ببريطانيا تسقط الامبراطورية العثمانية، وتحتل ارثها. وهو ايضا بطل العبور التركي الى الخليج، حيث تجاهل الكثير من الحكومات التركية المتعاقبة القيمة التاريخية والاقتصادية والاستراتيجية لهذه المنطقة، وبينما كانت الاستثمارت المتبادلة بين الخليج وتركيا محدودة من الجانبين قبل 10 أعوام، باتت اليوم تنمو بسرعة لافتة. وهو كذلك رأس الحربة في الحملة التركية نحو ايران للانفتاح عليها اولا، واقناعها بسياسة اقليمية ودولية جديدة في موضوع التسلح النووي. كذلك اشرف اوغلو على لعبة «نقل الاحجار» في مربعات رقعة شطرنج الموضوع البالغ الحساسية والدقة، وهو العلاقات التركية – الارمنية، وأعد بعناية كاملة لزيارة الرئيس التركي عبد الله غل التاريخية الى ارمينيا. كما أنه قبل 8 أعوام طالب بالتركيز على الملف الافغاني وحله بأسرع ما يمكن، عبر تعاون اقليمي ودولي يزيل مشاكل افغانستان الاقتصادية ويوفر لها الدعم المطلوب على هذا الصعيد قبل الدخول في دهاليز تركيباتها السياسية والعرقية والقبلية ومحاولات حل مشاكلها بالقوة العسكرية، لكن الذين اصغوا اليه كانوا قلائل.

ومن يعرف اوغلو يعرف أنه شخص يتحدث بصراحة بالغة ولا يتدارى خلف اللغة الدبلوماسية، فهو يقول ما يريده بصراحة مؤلمة موجعة، لانه يراهن على المستقبل الواعد في العلاقات التركية ـ العربية والتركية ـ الاسلامية. والمقربون اليه نقلوا ترجيحه للامساك بملف الشرق الاوسط واعطاءه الاولوية الدائمة لعلاقات تركيا بدول المنطقة. ومركز الانطلاق لديه هو المصارحة والمصالحة التركية العربية الايرانية لتكون نواة «مشروع تركيا الاقليمي» بأسلوب «عثماني معولم»، محدث لا يستثني ولا يعادي احدا لكنه يضع مصالح هذا الثلاثي فوق الكثير من الاعتبارات.

ومنذ تولت حكومة العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2003، جمعت السياسة التركية الواقعية والعملية واللغة الانسانية جنبا الى جنب مع هدفها الاقليمي الاول وهو اقناع دول المنطقة بسياسة اقليمية جديدة تخرج الشرق الاوسط من حالة المواجهة والصراع والحرب الدائمة الى حالة من الاستقرار والتواصل مع العالم، فلا مقاطعات وعزل وانعزال بعد الان، لا فوقيات وتحتيات في التعامل، وربما من هذا المنطلق طالب اوغلو بحوار وتعاون اسلامي – اوروبي حقيقي كحلقة ثانية تساهم في احلال السلم والانفتاح والتقارب يقوم على ابراز القواسم المشتركة ولغة الدفاع عن المصالح الموحدة بنفس طويل وليس بحماس واندفاع ظرفي يسقط امام اول عاصفة. داوود اوغلو ردد أكثر من مرة، أنه لا مشكلة له مع الغرب، لكن مشكلته هي مع عملية القطع التاريخي الطويلة الامد مع الشرق. هو ينتقد الابتعاد عن الشرق لصالح الغرب عبر تجاهل واهمال دور وموقع تركيا في محيطها العربي والايراني والاقليمي، فبالنسبة لمدرسة داوود اوغلو السياسية هذا المحيط هو قلب قوة تركيا في المستقبل كما كان قلب قوتها في الماضي. وبناء على هذه الرؤية تم افتتاح عشرات البعثات الدبلوماسية في اكثر من دولة لم يكن الاتراك يعرفون عنها شيئا، وشاركت تركيا في قمم افريقية واقليمية ودولية، واعلان عام 2005 «عام القارة الافريقية في تركيا» واستقبال عشرات الشخصيات العربية والاسلامية والدولية وزيارة عشرات العواصم والمدن من قبل كبار رجال السياسة الاتراك. وكان مسك الختام ايصال تركيا الى مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي، ابتداء من مطلع هذا العام ولمدة سنتين كاملتين تسعى انقرة منذ الان لتمديدهما مجددا، وهذا يبدو سهلا في ضوء طبيعة العلاقات التي شكلتها تركيا اسلاميا وافريقيا واسيويا واوروبيا واميركيا. والأسباب التي دفعت تركيا الى توسيع دائرة تحركها الدبلوماسي وتنشيطه بهذه الدرجة اللافتة، كانت التحولات والاحداث الاقليمية والدولية المتلاحقة خلال السنوات الاخيرة، ومنها تراجع العلاقات التركية – الاوروبية والضيق من انتظار تركيا على أبواب اوروبا، وتصاعد النفوذ الايراني، وهو ما يستلزم ردا تركيا، ومحاولات اميركية ـ اسرائيلية متواصلة لابعاد تركيا عن محيطها الاقليمي، رأت حكومة اردوغان انه يجب التصدي لها. ويقول الاكاديمي التركي بولنت اراس ان داود اوغلو اعطى اعتبارا من عام 2004 دفعا وزخما كبيرين لشعار التغيير في السياسة الخارجية التركية، حيث دمج بين النظرية التي كتب عنها مطولا، وبين التطبيق والممارسة التي عايشها مع كبار الدبلوماسيين الاتراك خلال هذه الفترة، فالرجل صاحب قاموس «العمق الاستراتيجي» له اكثر من مؤلف ترجم الى لغات اجنبية، وهو يتكلم الالمانية والانجليزية بطلاقة، الى جانب قراءة وفهم العربية اكثر من الحديث بها.

اما الاكاديمي حسين باغجي في جامعة الشرق الاوسط التركية، فيشير الى أن داوود اوغلو طرح نهجا واسلوبا جديدا في التفكير والعمل الخارجي يقوم على الموازنة بين الداخل والخارج وضرورة التناغم والتجانس، وتصفية وانهاء مشاكل تركيا مع جيرانها. سياسة خارجية متعددة الجوانب تعيد تعريف مصطلح «الجسر» في قاموس السياسة الخارجية التركية. فقد حمل تركيا، كما يرى حسين باغجي، الى مرتبة الدول الكبرى، وانتهج دبلوماسية منفتحة على الجميع من دون استثناء. فيما يرى الكاتب التركي قدري غورسال، أنه من السهل جدا ان تتعامل مع اسلوب داوود اوغلو وطريقة تفكيره، فهو يشرح لك نظريا ما يفكر به وطريقة تنفيذه عمليا، واثناء التطبيق يعيد شرح الاسباب التي دفعته الى التغيير والتعديل اذا ما وجد ضرورة في ذلك. ولان اوغلو لديه خلفية اكاديمية فكثيرا ما يعتمد على المصطلحات لتوضيح الذي يريد قوله. فمثلا استخدم «نظرية الدومينو»، لكي يشير الى أنه يعتقد ان احداثا تجري في الشرق الأوسط حاليا، ستأتي وراءها أحداث وتداعيات أخرى مترتبة عليها، مما دفع العديد من الصحافيين الاتراك الى التنافس في ما بينهم على رسم سيناريوهات متعددة حول نظرية الدومينو، بل ان نصائح مباشرة وجهها الكاتب الاميركي ديفيد اغناطيوس في «واشنطن بوست» دعت لمتابعة ما يقوله داوود اوغلو واخذه على محمل الجد. طبعا كل ذلك لا يخلو من وجود معارضة داخلية وخارجية لما يقوله داوود اوغلو ويدافع عنه، حيث كان اخر المنتقدين لاسلوب السياسة الخارجية الذي تعتمده حكومة اردوغان محمد يلمز الصحافي في جريدة «حرييت» التركية العلمانية واسعة الانتشار، الذي يقول ان سياسة «الفاعلية الدائمة التي اقرت قبل سنوات وصلت الى طريق مسدود أمام اخر ما عايشناه في مجلس الامن الدولي، حيث حصدت مصر الاعجاب والتقدير بمفردها، رغم كل ما بذلناه نحن من جهود. استراتيجيتنا في السياسة الخارجية تقوم على استباق الاحداث واتخاذ القرارات والتدابير الملائمة قبل حدوثها، ونحن في التعامل مع موضوع غزة مثلا فشلنا في ذلك. كان علينا تحذير حماس واقناعها بقبول تمديد قرار وقف النار وعدم الابتعاد عن طاولة الحوار. وكان علينا التعامل بجدية مع ما قالته لنا القيادات الاسرائيلية والضغط على حماس لمنع تنفيذ اية عملية حربية في غزة. نحن لم ننجح في ذلك، اردوغان واعوانه يخدعون انفسهم».

أصوات اخرى تتحدث عن تفرد داوود اوغلو في اتخاذ القرار وقيادة عمليات التغيير والتحديث في السياسة الخارجية التركية، متجاهلا وجود جيش من الدبلوماسيين المتمرسين الى جانبه، المدعومين بشبكة واسعة من الخبراء والمستشارين والاكاديميين.

كما ان هناك من يحذر من النزعة القومية ـ الاسلامية في نهج السياسة الخارجية الاردوغانية ـ الداوودية. فعندما انتقد الكاتب التركي جنيت اولسفار آراء اوغلو ملمحا الى انها «أفكار ارضيتها التوجه القومي.. وسقفها الواقعية السياسية»، رد عليه الاعلامي التركي فكرت بيلا قائلا: «وما العيب في ذلك.. هناك طروحات حملت اردوغان على الحوار مع اسرائيل والانفتاح عليها، وقبلت بالقوة الاميركية ودورها وموقعها، لكنها اثبتت انها غير ملزمة بقول نعم دائمة لواشنطن، وهي تتعاون مع تل ابيب، لكنها لا تتردد في انتقادها والانفتاح على الفلسطينيين والسوريين وزيارتهم والحوار معهم اينما كانوا.. لدينا تطلعات تريد ان تبحث لنفسها عن مكان ضمن استراتيجيات تعدد الجوانب والانفتاح على الجميع، أم ان ذلك هو من حق واشنطن والدول العظمى وحدها؟». وختم بالقول، «علينا ألا ننكر أن الثلاثي اردوغان غل وداوود اوغلو حملوا الى الخارجية التركية روحا ونفسا وزخما كبيرا لا يمكن الاستهانة به». هناك ايضا اعتراضات وانتقادات تتركز على مهاجمة هذا التحول الجذري في السياسة الخارجية التركية، الذي يخيف الغرب تحديدا وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية واوروبا لانه، بحسبما يرى البعض، يهدد مصالح تركيا الحيوية، وربما لهذه الأسباب تعالت مؤخرا أصوات دول اوروبية تتقدمها فرنسا والمانيا للاعتراض مرة جديدة على العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي والمسارعة الى دعم واطلاق مشاريع اقليمية تساهم في محاصرة وتقليص حرية التحرك التركي الذي يقلقها الى ابعد الحدود. الكاتب والخبير التركي عمر تاش بينار يصر على ان تركيا كي تنجح في سياستها الخارجية تحتاج الى التوفيق بين «اسس الدولة الكمالية» وطرح «العثمانية الجديدة»، الذي يردد في هذه الاونة، موضحا أنه من دون ذلك ستجد تركيا صعوبة في موازنة علاقاتها بين الشرق والغرب. اما الاعلامي أكرم دومانلي رئيس تحرير جريدة «زمان» ذات التوجه الاسلامي فيرى ان مشكلة السياسة الخارجية التركية هي انها لم تنجح بعد في عملية التعريف بنفسها والترويج لحملة التحديث والتغيير داخلها بصورة كافية، تطمئن كل الاطراف المعنية الى ان هذه التغييرات لا ينبغي ان تثير قلق اي منهم. وكما يقول دومانلي، «المطلوب تحرك عاجل لطمأنة هذه الجهات بأن تركيا بسياستها الخارجية الجديدة لا تستبعد ولا تستعدي احدا والتجارب الاخيرة اثبتت ذلك». يرد داوود اوغلو على منتقديه قائلا، انه لم يعد يليق بتركيا ان تكون متفرجا في مسائل تعنيها هي مباشرة. فتركيا تريد الحصول على حقها وموقعها، اللذين تستحقهما كدولة نموذجية لناحية ميراثها الثقافي والديني والتاريخي، ومستواها السياسي والاقتصادي. ويتحدث عن أهم الصعاب والعوائق التي راهن عليها واراد اعطاءها الاولوية في حملة التغيير بقوله انه غامر في مسائل اساسية خرج منها سالما، وهي تتفاعل بشكل ايجابي حتى الان وهي: الملف السوري ـ التركي الذي كلفه لغاية اليوم اكثر من 20 زيارة الى دمشق كانت مرحلته الاولى تهدف الى تحسين العلاقات التركية – السورية على كافة المستويات، ثم دفع مسار العلاقات السورية – الاسرائيلية نحو التسوية في موضوع الجولان ثانيا بوساطة تركيا. اما الملف الثاني، فمراجعة وتدقيق الملف الاوروبي وموضوع العضوية التركية الذي كان يدرس ويناقش ويطبق بطريقة لم تؤد الى نتائج مثمرة حتى الان، غير ان أنقرة تواصل متابعته من دون يأس. اما الملف الثالث فهو تحويل القوة البشرية الاقتصادية الجغرافية الاستراتيجية التركية الى قوة دفع في العلاقات الدبلوماسية الاقليمية والدولية.

داوود اوغلو هو اليوم مهندس السياسة الخارجية و«رجل الظل» و«صاحب اليد العليا»، كما يقال في أروقة الخارجية التركية، لكنه يرجح دائما لقب «الخوجا» اي «المعلم» او «المدرس»، الذي يستخدمه أردوغان خلال الحديث عنه أو معه، والتحدي الذي وضعه للسياسة الخارجية التركية ليس سهلا. فتحقيق الموازنة بين إيران، سورية، اسرائيل، حماس، الاتحاد الاوروبي، حزب الله، العالم العربي، اميركا ليس بالامر السهل، حتى إذا صاغ السياسة التركية رجل مثل داوود اوغلو درس ودرس العلاقات الدولية أغلب عمره.

* كاتب واكاديمي تركي