9 تلاميذ.. غيروا أميركا

حولوا مدرسة «ليتل روك» إلى رمز لمواجهة التفرقة العنصرية في أميركا خلال الستينات.. واليوم هم ضيوف شرف أوباما

تلاميذ «ليتل روك» التسعة يدخلون المدرسة وسط حراسة الشرطة عام 1957 («الشرق الأوسط»)
TT

يوم الثلاثاء، يوم تنصيب باراك اوباما رئيسا لاميركا، سيكون هناك مكان خاص امام الكونغرس لضيوف الشرف الشخصيين، الذين دعاهم هو شخصيا وهم: عائلة والدته البيضاء، وعائلة والده من كينيا، وعائلة زوج والدته السابق الاندونيسي، الذين درسوا معه في المدارس الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، وعدد من أعضاء دفعته في جامعة هارفارد، و«التسعة» الذين تخرجوا قبل خمسين سنة تقريبا من مدرسة «ليتل روك» الثانوية في ولاية آركنسا وهم: ـ ثيلما موثرشيد: كانت تعمل في الصليب الأحمر في ولاية اللينوي، ثم تقاعدت وعادت الى مدينة ليتل روك. ـ ميني جين براون: كانت مساعدة وزيرة التربية في ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون، ثم عادت الى ليتل روك. ـ اليزابيث اكفورد، كانت صحافية في القوات الاميركية المسلحة، ثم تقاعدت. ـ غلوريا راي: تعمل في شركة كمبيوتر في السويد. ـ ملبا باتيلو: استاذة صحافة في جامعة في سانفراسسكو بولاية كليفورنيا. ـ كارولتا وولز: تعمل في مجال العقارات في دنفر بولاية كولورادو. ـ جفرسون توماس: كان يعمل في القوات المسلحة، وتقاعد وعاد الى ليتل روك. ـ تيرنس روبرت: استاذ علم نفس في جامعة في لوس انجليس بولاية كاليفورنيا. ـ ارنست غرين: يعمل مستشارا اقتصاديا في شركة «ليمان بروثرز» الاستثمارية في واشنطن.

فمن هو هؤلاء «التسعة»؟ ولماذا دعاهم أوباما لحفل تنصيبه كضيوف شرف؟ يوم 17 ـ 5 ـ 1954، ألغت المحكمة العليا في واشنطن (التي تفسر الدستور) التفرقة العنصرية في المدارس الاميركية، وقالت ان كل قوانين الولايات التي كانت تسمى قوانين «سبريت بت ايكوال» (منفصلون ولكن متساوين) لم تعد دستورية. كانت هذه القوانين تعنى أن التلاميذ والتلميذات السود، يمكن أن ينالوا تعليما متساويا لتعليم التلاميذ والتلميذات البيض، ولكن في مدارس منفصلة.

قبل ذلك بنصف قرن تقريبا، وفي سنة 1896، كانت نفس المحكمة العليا اقرت دستورية «منفصلون ولكن متساوين». وللموضوع خلفية. ففي سنة 1860، فاز ابراهام لنكون، مرشح الحزب الجمهوري بالرئاسة، وأعلن اول ما اعلن «تحرير العبيد» (الغاء امتلاك وتجارة السود). لكن، تمردت ولايات الجنوب التي كان يسيطر عليها الحزب الديمقراطي. وأعلنت الانفصال، واسست دولة جديدة: «الولايات الاميركية الكونفدرالية». وأعلن لنكون عليها الحرب. وبعد حرب أهلية استمرت خمس سنوات، انتصرت الحكومة المركزية برئاسة لينكولن. واضطرت ولايات الجنوب لإلغاء تجارة وامتلاك الرقيق. لكن، بعد عشر سنوات (بعد انسحاب القوات المركزية من ولايات الجنوب) وضعت ولايات الجنوب قوانين عنصرية تفصل بين البيض والسود، في المدارس، والمطاعم، والحافلات، والقطارات، وحتى في الحمامات ومواسير شرب الماء. كان واضحا ان المحكمة العليا التي تفسر الدستور لم تكن شجاعة ولا نزيهة لمائة سنة تقريبا. فلمدة عشرين سنة بعد اعلان القوانين العنصرية في ولايات الجنوب، قضت المحكمة العليا جلسات بعد جلسات في مناقشات دستورية معقدة. ولم تقدر على اصدار قرار، واضح ضد التفرقة العنصرية. بل بدأت تتراجع تحت ضغط الرأي العام الاميركي. ففي سنة 1883، قالت ان قرارات الكونغرس حرمت التفرقة العنصرية في المؤسسات الحكومية، لا في المؤسسات الخاصة. اي ان صاحب اي مطعم او حافلة يقدر على ان يفرق ضد السود. وفي سنة 1896، قالت ان قانون «منفصلون لكن متساويين» دستوري لأن كلمة «متساو» اقوى من كلمة «منفصل». ولأنها المحكمة التي تفسر الدستور، لم يحدث اي تغيير الا في سنة 1954. فبعد مائتي سنة من الاستعباد، ومائة سنة من التفرقة، كان قرار المحكمة العليا بعدم دستورية قانون «منفصلون لكن متساوين»، سنة 1954 تاريخيا، وهز كل اميركا، وليس فقط ولايات الجنوب.

لكن، رفضت ولايات كثيرة تنفيذ القرار، منها ولاية آركنسا. فيوم 24 ـ 5 ـ 1955، بعد سنة من صدور القرار، أعلن فيرجل بلوسوم، مدير مدارس «ليتل روك»، عاصمة ولاية آركنسا، ان المدارس ستبدأ تنفيذ القرار بعد ثلاث سنوات. ورغم التردد والتملق الواضح في القرار، أعطت الثلاث سنوات فرصة للجنة الوطنية لتطوير الشعب الملون (ان.ايه.ايه.سي.بي)، فرصة لاختيار وتجهيز تلاميذ سود للانضمام لمدارس البيض. وتم اختيار 9 تلاميذ متوسط اعمارهم بين 13 و14 عاما عرفوا لاحقا باسم «تسعة ليتل روك» وهم: ثلاثة تلاميذ: ارنست غرين، وتريسن روبرت، وجفرسون توماس. وست تلميذات: ثيلما ماثرشيد، ومينجين براون، واليزابيت ايكفورد، وغلوريا راي، وكارلوتا وولز، وملبا باتيلو.

وعندما جاء وقت تنفيذ قرار المحكمة العليا، كان مدير المدرسة مترددا، لكنه كان لابد ان يطيع القرار. غير أن المعارضة الحقيقية كانت «مجالس المواطنين» التي أسسها البيض لمنع تنفيذ القرار. ايد بعض البيض تنفيذ القرار، وخاصة منظمات لها صلة بالكنائس، مثل «مجلس النساء الكنسي» الذي دعا للصلاة في الاماكن العامة. لكن، كانت اغلبية البيض ضد القرار. ويوم 4 ـ 9 ـ 1957، يوم فتح المدرسة، وقف البيض امام المدرسة لمنع التسعة من الدخول، ووقف سود لحمايتهم، وسارع اورفال فوباس، حاكم الولاية، وامر، بـ«تأمين الأمن العام»، وتجنيد الحرس الوطني. (لكل ولاية اميركية حرس وطني تحت امرة حاكمها).

في اليوم التالي، استدعي الرئيس ايزنهاور حاكم الولاية الى واشنطن، وقال له انه يجب ان يطيع القرار (لأنه قرار مركزي، والمركز، حسب الدستور، يعلو على الولايات).

وعندما رفض حاكم الولاية، طلب الرئيس دويت ايزنهاور من وزير العدل رفع قضية ضد حاكم الولاية، لأنه لا يملك حق استعمال الحرس الوطني لمنع «التسعة» من دخول المدرسة الثانوية. وسافر محامون من وزارة العدل الى الولاية، ورفعوا قضية امام المحكمة الفيدرالية (المركزية) هناك. وبعد مداولات اربعة ايام، أعلنت المحكمة ان حاكم الولاية يجب ان يطيع قرار الرئيس ايزنهاور. في نفس اليوم، أصدر الحاكم بيانا قال فيه انه سيطيع قرار المحكمة. وبعد يومين، سحب الحرس الوطني من امام المدرسة، وعادت مسؤولية المحافظة على الامن الى شرطة مدينة ليتل روك، وكان مسؤولا عنها وودرو مان، عمدة المدينة.

لكن، كان واضحا ان الشرطة لن تقدر على وقف غضب البيض الكاسح. واضطر العمدة وسرا، ادخل «التسعة» المدرسة من الباب الخلفي. وعندما علم البيض بذلك، زاد هياجهم، وهددوا بدخول المدرسة واخراج «التسعة» بالقوة. وهتف بعضهم «لينش، لينش، لينش» (شنق السود من على فروع اشجار). واضطر العمدة لاخراج «التسعة» من الباب الخارجي، وسط هتافات البيض المعادية. وطلب من حاكم الولاية التدخل، لكن، رفض هذا (لأن المحكمة منعته من استعمال الحرس الوطني للولاية). واضطر العمدة للاستنجاد بالرئيس ايزنهاور.

ويوم 24 ـ 9 ـ 1957، هبطت الفرقة العسكرية الجوية رقم 101 التابعة للقوات الاميركية المسلحة، في مطار ليتل روك. وطلب قائدها مقابلة قائد الحرس الوطني (عشرة آلاف جندي تقريبا). وأبلغه أمرا من الرئيس ايزنهاور بالسيطرة على الحرس الوطني. وطبعا، لم يقدر قائد الحرس الوطني رفض الأمر، لأسباب عملية، ولأسباب دستورية (تعلو سلطة القوات المسلحة المركزية على سلطة الحرس الوطني المحلية).

وفي الحال، صار الحرس الوطني جزءا من القوات الاميركية المسلحة، ولم تعد لحاكم الولاية سيطرة عليه. وفي اليوم التالي، زحفت القوات الى المدرسة، وامنت دخول «التسعة».

لكن، طبعا، لا يلغي قانونا بين يوم وليلة عواطف الناس. فداخل المدرسة، عاني «التسعة» من صراخ «نيغر» (عبد) من التلاميذ والتلميذات البيض. وخارج المدرسة، عانوا من شتائم الآباء والأمهات الذين كانوا يأتون لإحضار أو أخذ اولادهم وبناتهم. وفي كونغرس الولاية، اقرت الاغلبية التي تنتمي الى الحزب الديمقراطي قانونا ركز على نقطتين:

اولا: الغى سنة دراسية كاملة في مدارس الولاية الثانوية، حتى لا تقدر مدرسة ليتل روك الثانوية على تدريس «التسعة». ثانيا: قدم تسهيلات مالية للبيض الذين يريدون تأسيس مدارس خاصة. (في سنة 1954، في قرار المحكمة العليا، اقتصر منع التفرقة على المدارس والمؤسسات الحكومية، لا الخاصة). واخيرا، في سنة 1959، قبل خمسين سنة تماما، فتحت كل المدارس الحكومية في الولاية ابوابها لكل التلاميذ والتلميذات من مختلف الالوان والاعراق.

لكن برغم كل محاولات افشال خطط الدمج بين البيض والسود، نجح ضم التلاميذ التسعة الى مدرسة البيض. ولم يكن السبب تدخل ايزنهاور، بل شجاعة وتصميم هؤلاء التلاميذ. ففي احدى المقابلات معهم قالت احدهن: لن نكن نعرف حجم الخطر على حياتنا. انا كنت اريد ان اكون طبيبة. وكانت هناك هذه المدرسة القريبة. فلماذا لا اذهب؟. واعترف التسعة ان خطابات الدعم والتأييد التي كانت تأتيهم من بلاد اوروبية ومن قلب اميركا كانت محفزا لهم للاستمرار. صور هؤلاء التلاميذ التسعة وهم مذعورون وسط الهتافات ضدهم، بأجسادهم النحيلة والكتب على اكتافهم حركت مشاعر الملايين، وجعلت حركة الحقوق المدينة تأخذ بعدا آخر. وبالرغم من ان اوباما لم يتحدث عن العرق او اللون كثيرا خلال حملته الانتخابية، إلا ان دعوته لهؤلاء التسعة مؤشر على التأثير غير المحدود لهؤلاء على الاميركيين، حتى الذين لم يعايشوا هذه الفترة. وقبل عشر سنوات، توفي فابوس، حاكم ولاية آركنسا أثناء تلك الفترة الدارمية. وقال، في مقابلة صحافية قبيل وفاته، انه لم يكن «عنصريا». لكنه كان «سياسيا». قال انه، قبل مشكلة «التسعة»، كان الامر بالغاء التفرقة في الحافلات. لكنها كانت سنة انتخابات، واعاد ترشيح نفسه حاكما للولاية. واتهم خصمه، جيمس جونسون، بأنه هو الذي كان عنصريا، فهو الذي زايد عليه، للحصول على اصوات اغلبية البيض الغاضبين. وفي الحقيقة، في ذلك الوقت، عارضت اغلبية البيض في كل الولايات الاميركية ادخال «التسعة»، وايدت الحاكم فابوس. وفي تلك السنة، اجرت مؤسسة «غالوب» استفتاء اوضح ان فابوس كان واحدا من «اكثر عشرة في العالم يحبهم الاميركيون». بل فاز بمنصب الحاكم لدورتين تاليتين. وحتى سنة 1986، عندما فاز الرئيس كلينتون بحكم الولاية، ظل فابوس يريد ان يكون حاكما مرة اخرى، بل حاول الترشيح لرئاسة الجمهورية. لكنه، في آخر سنواته، اعتدل كثيرا. رغم انه رفض الاعتذار.

واليوم، يشاهد الذي يزور المدرسة الثانوية، تسعة تماثيل من البرنز لتلاميذ وتلميذات سود يحملون كتبهم الدراسية في طريقهم الى المدرسة. وصار «التسعة» جزءا، ليس فقط من التاريخ الاميركي، ولكن، ايضا، الثقافة الاميركية، وذلك لكثرة الافلام والكتب والروايات حولهم. خاصة خلال احتفالات ذكرى الحقوق المدنية، مثل يوم الاثنين القادم، يوم  ذكرى مارتن لوثر كينغ، الاسقف الاسود الذي قاد حركة الحقوق المدنية، ومثل يوم الثلاثاء، يوم تنصيب اوباما، اول رئيس اسود في تاريخ اميركا، ولهذا استعد مصنع العملة الاميركية في واشنطن لتوزيع «دولار فضة تذكاري» عليه نحت يمثل «التسعة»، ومعهم جندي اميركي يحرسهم، وفوقهم تسعة نجوم.